[email protected] إن سلسلة جرائم المخزن المغربي وصفحاته السوداء بالريف، لا يمكن أن تكون بأي شكل من الأشكال محل تجاوز ولا تقادم مهما طال الزمن، كما لا يمكن أن تمحيها سياسات العهد الجديد و لا افتراءات كتاب مقرر مادة التاريخ في المدرسة العمومية المغربية، الذي يقف عاجزا أمام قوة وحيوية الذاكرة الشعبية الريفية المعاندة.. في هذه المقالة المتواضعة سأقف عند واحدة من أشهر غزوات المخزن العلوي وجهاده ضد الريف.. سأقف عند الجريمة التي تسميها المصادر التاريخية المعتدلة “حملة بوشتى البغدادي التأديبية ضد قبيلة بقيوة” بينما يسميها ضحاياها من أمازيغ الريف، خاصة ايبقوين ب “اسوكاس ميك تشين ايبقوين” او”أسوكاس ن فاركاطا” أي السنة التي أبيد فيها ابقوين او سنة الفرقاطة.. إنها كلها أسماء عدة لحدث واحد، وفي هذا يقال إن تعدد أسماء الشيء دليل على أهمية المسمى.. وأنا أقول: إن تعدد صيغ تعبير ايبقوين بوبريسيتوث عما تعرضو له من حكرة وإبادة مخزنية لدليل على وحشية الجريمة وصعوبة وصفها.. إنها الجريمة التي ارتكبها المخزن العلوي”الشريف” ضد أبناء شعب الريف أواخر القرن 19، وبالضبط في يناير 1898م، عندما أمر رئيس الدولة المغربية أمير المومنين عبد العزيز العلوي أخطر واجلف وأقبح قادة جنده المدعو بوشتى البغدادي، الذي وصفته احد المصادر التاريخية بكونه “أشرس حيوان في المغرب”.. أمره بما سماها جلالته ب تأديب قبيلة ايبقوين، وقبل التطرق مباشرة لتفاصيل جريمة الثنائي بوشتى البغدادي وسيده عبد العزيز العلوي، لا باس من إلقاء إطلالة على المكان مسرح الجريمة: قبيلة ايبقوين: ايبقوين، واحدة من اكبر وأشهر القبائل الأمازيغية ببلاد الريف، تتربع على مساحة شاسعة جدا، تمتد من واد اسلي غربا، إلى واد بادس شرقا، ويحدها ساحل البحر الأبيض المتوسط شمالا، وقبيلة “آيث واياغر” جنوبا، وقبيلة “آيث يطفت” في الجنوب الغربي، ايبقوين كلمة أمازيغية أصيلة، هي جمع مذكر، مؤنثها ثيبقويين، ومفردهما ابقوي وثبقويث، ومعناها الإنسان الشجاع، وقد تفيد الإنسان او الشيء الضخم او العظيم، حسب سياق المعنى المراد توظيفه، وضمن حدود تراب هذه القبيلة توجد مدينة الحسيمة الحالية، هذه القبيلة بسبب طبيعة الظروف الطبيعية القاسية، بتضاريسها الوعرة التي “تحالفت” مع المخزن المغربي في محاصرتها، وبالنظر لموقعها الجغرافي الاستراتيجي الذي يتوسط الريف الكبير، ولكونها منطقة ساحلية حدودية تتوسط الأراضي الريفية الأمازيغية المستعمرة: مدينة مريتش(1) وجزر ملوية ونكور من الشرق، ومدينة سبتة وجزيرة بادس من الغرب، فان ايبقوين نجحوا في إيجاد متنفس اقتصادي مهم لترويج الحركة السوسيو ثقافية بالمنطقة وكسر الحصار المفروض عليهم، بعدما اهتدوا لاستثمار المعطيات الطبيعية لصالحهم، وذلك باستغلالهم الذكي والعملي للغطاء النباتي الذي ولده مناخ المنطقة في الصناعات الطبية والاستهلاكية، كما اتجهوا بقوة نحو البحر بانفتاح احترافي على مجال الصيد البحري الذي اكسبهم ذلك الحس التجاري الكبير، والمهارات البحرية التي عرفوا بهما، حتى غدوا “أسياد البحر” بلا منازع في الغرب المتوسطي في القرنين الماضيين، وتمكنوا من ربط شبكة واسعة من العلاقات التجارية مع نظراء لهم في أوروبا بما كانوا يتوفرون عليه من فائض السلع والبضائع المتحصل عليها من تسويق المنتجات المحلية الصنع، او من خلال مقايضة ما لديهم منها مع التجار الأوربيين الذين امتهنوا التهريب الذي نشطت سوقه الدولية بشكل كبير في تلك الفترة التاريخية، حيث كان الأوروبيين يبيعون للريفيين بسواحل الريف ما يجلبونه من مستعمرة جبل طارق ومدينة مالقا المحاذية للحسيمة، هذا وقد كانت العلاقات التجارية بين ايبقوين والأوروبيين تسير بشكل سلس وطبيعي، إلى أن حدث ما عكر صفاء هذه الأجواء وهذه العلاقات بين الطرفين عندما اخل بعض التجار الأوروبيين بالاتفاق الذي كان جاري به العمل بينهما، حيث إن تجار ايبقوين ابرموا معهم صفقة تجارية بموجبها دفع الريفيين مسبقا مبلغا ماليا وعينيا كبيرا مقابل الحصول على كمية من البضائع المتفق عليها، ولكن الطرف الأوروبي لم يسلم لهم السلعة، مما اثر بشكل سلبي مباشر وقوي على مجمل المصالح الاقتصادية والاجتماعية لتجار ايبقوين، بعدما الحق بهم الوضع خسائر طائلة، مما أجج حالة السخط والتذمر في صفوف كل أبناء القبيلة المغدورة، فكانت ردة فعلها الطبيعي، والمشروعة، هو الدفاع عن النفس، فقررت اعتراض سبيل المراكب والسفن التجارية الأوروبية العابرة بمحاذاة سواحل بلاد الريف، ليس بهدف القرصنة في حد ذاته، ولكن فقط من اجل الضغط على سلطات البلدان التي يحمل جنسيتها أولئك التجار الذين سلبوهم حقوقهم التجارية وغدروا بهم وأمعنوا في استفزازهم وتحقيرهم. هذا وبعدما تعددت أعمال “القرصنة” التي أبدع ريفيو ايبقوين في تنشيطها، كثرت الشكايات الأوروبية من تأثيراتها، فبدأت الدول المتضررة في مراسلة السلطان العلوي عبد العزيز، الذي كان قد تولى عرش المغرب حديثا، وقام بإرسال “حملة تأديبية” لقبيلة ايبقوين أمر عليها ابن عمه عبد السلام الامراني المعروف عند الريفيين ب “بوثامنت”، لكن بوثامنت مسكين سرعان ما انهزم بحملته الغازية بعتادها البدائي، التي منيت بخسائر ثقيلة، بسبب ما كان بحوزة ايبقوين من أسلحة حديثة ومتطورة، لم يكن المخزن العلوي العزيزي قد سمع بها بعد، بالإضافة لدفاع ايبقوين عن قضيتهم العادلة، بينما بوثامنت وابن عمه السلطان العلوي كانا يدافعان عن مصالحهم أمام الأوروبيين.. لهذا انتصر أمازيغ الريف وانهزم سلطان فاس.. فما كان منه، بعد هذه الهزيمة النكراء التي مرغت هيبة المخزن في تراب الريف الحر، أبت كبرياء السلطان المغربي عبد العزيز العلوي إلا أن ينتقم لشرف جيشه بحملة تأديبية أخرى كانت من الفظاعة بمكان، أعيد هنا تركيب بعض فصولها كما يلي: بوشتى البغدادي.. يبيد ايبقوين بأمر من ملك المغرب وصلت إلى الريف الحملة المخزنية العزيزية بقيادة “أشرس حيوان في المغرب” وخادم أعتاب العرش العلوي الشريف، المجرم بوشتى البغدادي، في شهر يناير 1898م، عسكرت المحلة المخزنية في ضواحي أجذير آيث واياغر، حيث شرع في وضع الخطط للإيقاع بالقبيلة “العاصية” التي سرعان ما تيقن باستحالة هزمها عسكريا، بسبب قوة إيمانها بعدالة قضيتها، وبسبب وعورة تضاريسها، ولحداثة الأسلحة التي يملكها ساكنتها بالمقارنة مع ما لدى”رجال” المخزن.. لهذا وفي انتظار تعزيز قوة حملته بإمدادات أخرى، فضل اللجوء إلى الحيلة والخديعة كأسلوب مخزني ناجح ليحقق هدفه، فتم الاتفاق بين البغدادي ورديفه أبو بكر بن الشريف، ابن عم السلطان، وكبار قادة جيش المخزن على تحرير رسالة تمويهية باسم السلطان موجهة لسكان القبيلة، يدعون فيها بان السلطان يخبرهم فيها بكون الهدف من الحملة ليس الانتقام منهم، ولكن فقط لفتح باب الحوار والتفاوض حول المشاكل العالقة بين ايبقوين ونظرائهم التجار الأوروبيين، كما “دعاهم” لتقديم الطاعة للسلطان، وقد تليت الرسالة السلطانية في سوق رحد ن رواضي ( الذي كان بمثابة منطقة تجارية حرة)، وفي الرسالة منح البغدادي باسم السلطان مهلة ثمانية أيام لايبقوين للتجاوب مع فحوى الرسالة “المولوية” والبدء في المفاوضات، ولكن، وقبل انصرام الأجل المعلن تحقق للمجرم البغدادي مراده الحقيقي- أي ربح الوقت- إذ توصل بتعزيزات عسكرية معتبرة(من أمناء طنجة ثيطاوين وفاس خاصة) عمد على إثرها إلى محاصرة القبيلة المستهدفة بالانتقام المخزني، الأمر الذي دفع بالعديد من أعيانها للخروج مبكرا عن طريق البحر،(2) بحثا عن دعم خارجي و بينما فضل آخرون البقاء والمواجهة، في حين انطلت الحيلة المخزنية على بعضهم فالتحق بمعسكر المخزن المرابط في أجذير من اجل التفاوض حقنا لدماء الطرفين، وبينما هم وسط خيمة البغدادي الخاصة، بعدما جردهم من أسلحتهم، أطلق عليهم النار جماعة وهم يؤدون صلاة المغرب، فكان أن قتل منهم خمسة عشر شخصا، وأسر ما يزيد على أربعمائة واثنين آخرين 402، وقد اقتادهم جميعا إلى سجن الصويرة الذي بناه الملك العلوي الآخر محمد الثالث، وهناك مات معظمهم، في قصة شبيهة بمعتقل تازمامارت، او الحديقة الخلفية للملك الحسن الثاني، كما سمتها السيدة فاطيمة اوفقير في كتابها “السجينة”.. وعلى اثر هذه الأحداث العصيبة، غادر العديد من سكان القبيلة أراضيهم وتشتتوا خارجها في القبائل المجاورة والبعيدة، كما في داخل المغرب وخارجه، ومنهم من فضل اللجوء إلى الجزائر التي كانت تحت حكم الاستعمار الفرنسي، وذلك على متن سفينة فرنسية(3) تم إجلائهم بواسطتها بعدما تمكن من جلبها بعض أعيان القبيلة الذين نجحوا في مغادرتها قبيل بدا الحملة، وقد أقلت السفينة راكبيها من لاجئي ايبقوين إلى ميناء وهرانبالجزائر، وهناك استقروا لعدة أشهر قبل أن تقتطع لهم سلطات الاستعمار الفرنسي منطقة على ضفاف واد غيس(4) بين المغرب والجزائر، وهي المنطقة المعروفة اليوم بمرسى بن مهيدي بالجزائر، أي المدينة المقابلة والملاصقة اليوم لمدينة السعيدية(5).. بوشتى البغدادي.. النهاية المستحقة.. في عهد الملك المغربي الراحل، محمد الخامس، قصد “خادم الأعتاب الشريفة” المجرم بوشتى البغدادي الديوان الملكي بالرباط ليجدد الولاء والطاعة لوريث سيده السلطان المخلوع عبد العزيز، ولما انتبه بعض الريفيين لوجوده هناك بينهم بالعاصمة المغربية الرباط، أوثقوه وصبوا عليه البنزين وأشعلوا فيه النار، وهو حي يرزق، في ساحة “المشور السعيد”، وحدث الأمر أمام مرأى ومسمع “حجاج حفل الولاء”، وبلغ صراخ البغدادي إلى مسامع وريث عرش العلويين محمد الخامس الذي خرج من قصره شخصيا لإنقاذ خادم عمه عبد العزيز، ولكنه لم يفلح في ذلك..لان حكم الشعب الريفي المظلوم كان قد صدر ونفذ..انتهى. *(1) مريتش كلمة امازيغة، من أصل أشمرار وأشملال، أي البيضاء، حرف نطقها في البداية الاسبان فنطقوها ملييلة، وعنهم أخذها العرب وحكام دولة “ايكس ليبان”، فحرفوها بدورهم وكعادتهم من الاسبانية لقرشيتهم فسموها مليلية. *(2) منهم:محمد بورجيلة، علي اللوه، مسعوذ؟ اتجهوا من بادس إلى تطوان، حيث نسقوا هناك مع علال العبدي نائب القنصل الفرنسي بطنجة، الذي سهل مأمورية إنقاذ العديد من الأسر البقيوية على متن السفينة الفرنسية. *(3) يقال أنها بارجة حربية استقدمت من طنجة، والبارجة تسمى أيضا الفرقاطة، وقد حرف ريفيو ابقوين نطقها فأصبحت باركاطا، أي فارقاطا، من هنا جاء تاريخ الحادثة عندهم باسم “اسوكاس ميغ تشين ابقوين”. *(4) و(5)،: السعيدية، اسمها الحقيقي اعكروذ قبل أن تحرفها سياسة التعريب الجهنمية إلى السعيدية، كما أن اسم الوادي الذي يفصلها عن مدينة مرسى بن مهيدي يحمل اسم أغزا غيس، قبل أن تحرف بدوره إلى واد كيس.، في خرق سافر للاتفاقيات والعهود الدولية الداعية للحفاظ على الطوبونوميا، أي اسماي الأماكن الجغرافية بلغة وثقافة أصحابها الأصلية، بلا تحريف حفاظا على الذاكرة الإنسانية المشتركة، وهي الاتفاقيات التي وقعتها الدولة المغربية، ولم تنفذها في ما اعتبره استخفاف بالشرعية الدولية والقيم الإنسانية المشتركة، مما يستوجب بالتالي طرح سؤال عن مدى جدية الهيئات الدولية في فرض التزام الدول الأعضاء فيها بما تلتزم به دوليا، وضرورة فرض عقوبات على الأنظمة المستهترة بها.. * بعض المصادر: كتاب: “الريف بين القصر، جيش التحرير وحزب الاستقلال” لمؤلفه، الأستاذ مصطفى أعراب، كتاب: ” دراسات في تاريخ المغرب” لمؤلفه جرمان عياش، كتاب: “الريف قبل الحماية” لمؤلفه، الأستاذ عبد الرحمان الطيبي