لقد ميز مالك ابن نبي رحمه الله بين ثلاثة أصناف من الناس، الأول يتعامل مع الأشياء أو المنتجات الحضارية و الثاني فهو مرتبط بالأشخاص من زعامات روحية و سياسية ورياضية، أما الثالث فيرتبط بالأفكار، و هذا الصنف الأخير فهو الأكثر نضجا ووعيا و هو المعول عليه في الإنتاج الرمزي و الثقافي الذي يسبق نظيره المادي و الحضاري، أما الصنف الأول فهو شبيه بالأطفال الذين يلعبون بالدمى. ففرنسا و ألمانيا و انجلترا و ايطاليا لم يبدؤوا نهضتهم الحقيقيَة إلاَ عندما فاضت الأنوار و حدث التجديد الفلسفي و قبله الإصلاح الديني و الثورة الفنيََة، أي بتحريك بنية الأفكار و الأخلاق المسيحيَة البروتستانتية و كذا التجربة الوجدانية الذوقيَة، فكان لهذا أثره الواضح و العميق على مستوى تغيير السلوك السياسي و المسار الديمقراطي الذي توج بالثورة الفرنسية و بناء المؤسسات و المواطنة وظهور الدولة-الأمة، كما كان له أثره في النقلة النوعية نحو الثورة الصناعية و عصر الآلة البخارية ثم الكهرباء فيما بعد و آخرا و ليس أخيرا ما يعرفه العالم اليوم من طرق سيارة على الإنترنيت و ماصاحب كل هذا من تغيير في نمط التفكير بايجابياته و سلبياته. أما عندنا و نأخذ كمثال منطقة الخليج حيث القصور و الآبار، فالذي يشاهد أو يزور أبو ظبي و غيرها من الإمارات سيتخيَل إليه انه أمام أرقى الحضارات حيث التعامل مع الأشياء وصل إلى أقصاه من امتلاك السيَارات الفخمة و من أعلى طراز إلى البنايات الشاهقة حيث آخر ماأبدعه الفن المعماري المعاصر و غير ذلك من الأشياء ذات العلامات التجارية الأولى في السوق العالمية. و مع ذلك فان الإنسان الخليجي هو الأكثر تخلفا في العالم و بعيدا كل البعد عن الثقافة و الحضارة بل إنَ المنطقة العربية بأكملها لا يفوق إنتاجها من الكتب معدل ماتنتجه اسبانيا وحدها. ولقد اعتادت أوروبا أن تتعامل مع الدول و الشعوب كمستهلكين لمنتجاتها و أن تعارض كل ما من شأنه أن يؤدي إلى امتلاك هذه الدول لأدوات/وسائل إنتاج المعرفة و الأشياء و لكي لا تحصل هذه الشعوب على استقلالها المادي (الاقتصاد) و الرمزي(الثقافة) نظرا لأن الأشياء و المنتجات تحمل حمولات ثقافية و اديولوجية و لها تصور خاصَ للزمان و المكان يختلف جذريا مع تصورات الشعوب الغير غربية. بل إنَ الإنسان في العالم بأسره هو في غنى عن كثير من هذه المنتجات/الأشياء المدمرة لذاته و لعلاقته مع الآخرين و للطبيعة و التي لا تلبي إلاَ رغبات الأكثر ثراء/فسادا في العالم المسمىَ متقدَما لملأ جيوبهم و تكديس ثروتهم. فلصالح من يدشَن القطار الفائق السرعة في بلدنا المغرب؟ و هل يمكن للمواطن المتوسط الدخل (لا أتحدث هنا عن أغلبية الطبقات المعدمة و التي لا مناصب شغل قارة لها)أن يركب هذا القطار؟ و نحن نعلم تكلفته الباهظة و التي تصل إلى 70 أو 80 أورو و أنت تقطع مسافة 300 كلم من باريس إلى بروكسيل، اللهم إلاَ إذا كان هذا المواطن من الفضوليين فيركبه و لو مرة في حياته. و هل في المغرب مصانع ذات تكنولوجيا عالية من مثيل تلك المتواجدة في باريس و لندن و أمستردام و تتطلب السرعة الفائقة لتنقل موظفيها و رجال أعمالها الكبار و استعمال هذه الوسيلة والتي هم وحدهم من يحتكر ركوبها؟. و لا أعرف كيف يفكر التكنوقراط في بلادنا و لا يستحضرون سلم الأولويات و البحث عن حاجات البلد الحقيقيَة و المتمثَلة أوَلا في محاربة الأمية المرتفعة نسبتها إلى أكثر من 40% و تقدَر ب 70% في أوساط خريجي المدارس العليا، و كيف لا يفكر هؤلاء في إصلاح مناهج التعليم و التربية و بناء المؤسسات و المدارس، هذا إذا أردنا بالفعل الدخول إلى عصر (مجتمع المعرفة) الذي يعتمد الرأسمال المعرفي و البشري بدل استيراد الأشياء و التعامل مع الصورة المزيَفة التي رسمتها في الأذهان حضارتنا المعاصرة لإيحائنا أنَنا متقدَمين بدل –المعرفة و الكلمة الذي هو مفتاح التقدم الحقيقي. و أختم Da VINCIهنا بقولة الرسَام الايطالي المعروف عندما رسم صورة وقال من الآن فصاعدا فان الصورة هي التي تعبر عن الحقيقة أما الكلمات فهي للعميان. و الله من وراء القصد و هو يهدي السبيل. إستعمل حساب الفايسبوك للتعليق على الموضوع