من المفكرين المسلمين الأفذاذ الذين برزوا في القرن العشرين المفكر الإسلامي الجزائري مالك بن نبي (1905 1993 م)، الذي أغنى المكتبة الإسلامية بدرر من مؤلفاته مثل: »وجهة العالم الإسلامي« و»شروط النهضة« و»مشكلة الثقافة« و»بين التيه والرشاد« و »المسلم في عالم الاقتصاد« و»حديث في البناء الجديد« و»مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي« ، و»مذكرات شاهد قرن: الطفل«، و»مذكرات شاهد قرن: الطالب«، إلى غير ذلك من المؤلفات القيّمة الجديرة بدراسات ولا أقول دراسة متضافرة متأنية لسبر أغوارها واستنباط المنهج والرّؤية الإسلاميين اللذين لمالك بن نبي نوع تفرّدٍ في صياغتهما. وفي هذا الإطار، تأتي دراسة الدكتور الأخضر شريط »في الحركة التاريخية وتفسير التطوّر الحضاري عند مالك بن نبي« (منشورات عالم التربية) لتعالج مسألة متشابكة لأن خيوطها كما وصفها أ. عبد الكريم غريب في تقديمه لهذا العمل تعد من ناحية متداخلة مع مفهوم أو مفاهيم أخرى، بهذه المسألة هي مشكلة التاريخ عند مالك بن نبي. مفاهيم وتحليلات »ففي الوقت الذي يُعتقد فيه أنّ التاريخ هو أحداث الماضي، فهو بمعنى آخر يرسم معالم المستقبل«. يعتمد مالك بن نبي على تحليلاته لعدة مفاهيم يأتي في مقدمتها الأساس الذي تنبني عليه الحركة التاريخية، والتي رآها في ما سطره توينبي من عاملي التحدي والاستجابة. وهناك عند مالك تحليل للعوالم الثلاثة، التي تعتمد عليها كل حركة تاريخية، هذه العوالم الثلاثة، هي العمل الذي يقوم به »عالم الأفكار« وعمل »عالم الأشخاص« وكذا عمل »عالم الأشياء« هذه المصطلحات الثلاثة التي اعتمدها بن نبي في تحليلاته لما يؤسس للعمل التاريخي. وهو بهذا ينتقل بنا كما قال عبد الكريم غريب إلى الأنموذج الذي طبقت فيه هذه العوالم الثلاثة: إنه أنموذج الحضارة، وهذه المراحل يرسم معالمها على محور الزمن. فيراها مثلا قد تمثلت في الحضارة الإسلامية« في مرحلة الرّوح التي جسدها تلقي الوحي في غار حراء؛ ومرحلة العقل، التي بنى أسسها العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، أي من العصر العباسي إلى أيام عصر الموحدين، ومرحلة الغريزة التي أسس لها عصر ما بعد الموحدين، إلى بدايات عهد الاستعمار الأوروبي للبلاد الإسلامية. وهي نقلات في التاريخ والحضارة. ويقول المؤلف: »إذا كان التاريخ هو الغاية من تطور الدولة، فإن الحركة التاريخية تكون محددة من أسس انطلاق هذا التارخ، هادفة نحو وجهه تتسم بالتغير والتطور؛ وإلا فلماذا تتدهور حضارة وتقوم أخرى وإذا كانت الحركة التاريخية هي خلاصة جدل قائم بين الفكرة ونقيضها، فما هي الغاية من هذا الجدل؟ وإذا كان الجدل هذا قائما على أسس »موضوعية«، فما مصير الإنسانية؟ فهل يتدخل العامل الديني في أسس الجدل ليحسم الموقف؟ وهل يتسم هذا العامل الديني بالجغرافيا؟ إنها جملة تساؤلات حاولنا أن نجد لها جوابا في فكر مالك بن نبي من خلال طرقه من حين لآخر لفكرة التاريخ، وللحركة التاريخية، وكيف يمكن لها أن تؤول نحو غاية يسميها الحضارة؟ لقد كان لهذه التساؤلات المعقدة محاولة مني لإيجاد معالجة لها، قد تكون علمية أو موضوعية؟ لست أدري، لكنها محاولة ترمي أولا وقبل كل شيء إلى بعث فلسفة التاريخ عند مالك بن نبي«. خصّص المؤلف الباب الأوّل لإلقاء نظرة على فكرة التاريخ عند العلامة العربي عبد الرحمان بن خلدون، وكيف يربط التاريخ بتطور الدول وتعاقبها عبر حقب وفترات زمنية؛ وحاول أن يقارب بين قدرته فيما يخص الدورة الحضارية وفكرة مالك بن نبي فيها. وخصص الفصل الثاني من هذا الباب للنظر في عقلانية هيغل. ثم انتقل إلى تفسير أرنولد توينبي للتاريخ، فلاحظ أنه يضع عاملي التحدي والاستجابة، عوض المنطق الجدلي في تفسيره للحركة التاريخية. وخصص الباب الثاني لأصل فكرة التاريخ عند مالك بن نبي. ففي الفصل الأول، تطرق إلى المقارنة التي يجريها بن نبي بين المذهب المادي والمذهب الغيبي، ليرى أن المذهب المادي انتهى الى فكرة »الحاجة« أو إلى فكرة »المنفعة«، وأن المذهب الغيبي هو الذي بنى قاعدته على أساس تلك العلاقة »العمودية الأفقية« بمعنى أن العلاقات الإنسانية كانت الصبغة فيها. وفي الفصل الثاني من هذا الباب، حلل معامل الفعالية الذي صاغه المؤلف من تفسير توينبي، لكن هذه المرة من منظور القرآن الكريم. وبعد تحليله لمدى العمل الذي تقوم به فكرة الفعالية في الأفراد، وفي المجتمع، وبالتالي في التاريخ، عزز هذه الفكرة ببعض الأمثلة. وأفرد الفصل الثالث من هذا الباب لفكرة الوعد والوعيد، لأنها حسب مالك بن نبي قضية يمكنها أن تكون بمثابة طرفي حد، تجعل ضمير المسلم محافظا على فعاليته، دون أن تسقط في التفريط أو الإفراط، وهذا شرط أساسي لها في نظره، ودعم الفكرة بأمثلة وقام بتركيبها بقدر تحليلها، بمقارنتها بالفكرة نفسها عند المعتزلة. وخصص الباب الثالث لفكرة التاريخ انطلاقا من عواملها. ففي الفصل الأول تطرق إلى فكرة »عالم الأشخاص«، فحللها، باعتبار عالم العلاقات الاجتماعية المبنى على أساس قويم، تؤدي فيه الأخلاق دورا كبيرا في تمتين الروابط بين أفراد المجتمع وفي ذات الفرد نفسه، بتقويم سلوكه نحو وجهة يؤمن بها المجتمع »فكما أن الانعكاس الفردي يخلق شروطه في المجتمع، فإن الانعكاس الاجتماعي يخلق شروطه في ذات الفرد«، وبضرب أمثلة على هذا التحليل، استخلص المؤلف أن هذا العامل لايقوم وحده. وفي الفصل الثاني من هذا الباب، تطرق إلى فكرة »عالم الأفكار«، إيمانا من صاحبها أن الفكرة تكون لها قيمة رياضية عندما تكون صحيحة وصالحة في الآن نفسه، والعكس يفقدها هذه القيمة؛ وهي بالتالي لاتساهم في توجيه التاريخ، وبعد تحليله لنوعين من الأفكار: الأفكار الصادقة والأفكار المخذولة، لاحظ كيف أن الأولى، يمكنها أن تمارس نشاطها في ذاتية الفرد التاريخي، وكيف أن الثانية سواء منها الأفكار الميتة أو الأفكار القاتلة تساهم في عرقلة المسيرة التاريخية أو في انحرافها عن غايات أسمى للتاريخ. وفي كل ماسلف كان تحليله مقارنا بعد ضرب الأمثلة. أما في الفصل الثالث، فقد تطرق إلى فكرة »عالم الأشياء« فحاول إبراز ما لهذا العالم من أهمية حسب ما سطره مالك بن نبي إذ أن هذا العالم هو المحيط المادي والثقافي للإنسان، وكيف يتعين على هذا أن يضع خططا اقتصادية تمكنه من الاستفادة من هذا العالم، دون اللجوء إلى الاقتصاد المنظر في المحيط غير الإسلامي، لأن هذا الاقتصاد جعل من الإنسان آلة صماء أمام فائض الإنتاج أو أمام عامل الإكتفاء الذاتي. وبعد تحليل المؤلف لتلك المقارنات التي أقامها بن نبي مابين الاقتصاد الاشتراكي والرأسمالي ضرب عدة أمثلة تؤيد هذه الأفكار. ماهو التاريخ؟ وإيمانا بأن بن نبي يرى أن التاريخ هو عملية نشاط مشترك بين كل من »عالم الأفكار« و »عالم الأشخاص« و »عالم الأشياء« حسب تحديد من شبكة علاقات اجتماعية موجهة، إيمانا بأنه يولي عامل البذرة الدينية كأساس تقوم عليه شبكة العلاقات (وهي أساس الحركة التاريخية) قام بتحيل للعوالم الثلاثة. وحاول في الباب الرابع أن يبين العلاقة بين التاريخ والحضارة، باعتبارهما فكرتين مكملتين لبعضهما البعض؛ فخصص الفصل الأول لمفهوم الحضارة عند مالك بن نبي، وقدم تعريفه لها من زاويتين: أولا، التعريف الاجتماعي للحضارة، من حيث هي أولا وقبل كل شيء »جو« ومناخ ثقافي و »جو« ومناخ مادي وروحي. ثانيا، التعريف الوظيفي للحضارة، وهو في نظره قائم على أساس فكرة التحليل لعناصر الحضارة، ثم فكرة إعادة التركيب. وأعقب كل هذا التحليل للمعادلة الحضارية التي يضعها ابن نبي والتي هي: الحضارة = إنسان + تراب + زمن وفي الفصل الثاني تطرق إلى عناصر الحضارة المتمثلة في تحليل لعناصر المعادلة الحضارية: إنسان + تراب + زمن. وبعد تحليله لهذه العناصر، ضرب أمثلة تاريخية، فأشار إلى العنصر الذي يضعه المؤلف كشرط ضروري للتأليف بين عناصر المعادلة الحضارية، واستخلص أن هذه العناصر يمكنها مجتمعة أن تقوم بالدور الحضاري التاريخي في ذات الفرد الفعال في المجتمع، كي يساهم في صنع الصيرورة التاريخية. وفي الفصل الثالث من هذا الباب، قام بتحليل المراحل التاريخية للحضارة التي يضعها المؤلف، ابتداء من مرحلة الغريزة، ومرحلة الروح، فمرحلة ما بعد التحضير، وكان دائما يستعين بضرب أمثلة من التاريخ. وانتهى إلى تحليل الدور الحضاري التاريخي للإنسان حسب مالك بن نبي والذي يتم في نظره انطلاقا من تحقيق شرطين: شرط الإقناع وكذا شرط الاقتناع بالفكرة الموجهة لغاياته، (وهي عنده التعاليم القرآنية) وكيف يقوم هذان الشرطان بفعل موحد مشترط، حتى يقدم الإنسان هذا دوره كممثل وكشاهد على عصره، وأن يكون حاكما على نفسه وعلى غيره في حركته التاريخية. وخصص الفصل الرابع من هذا الباب لمقارنة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية (المسيحية)، انتهى منها إلى أن الحضارة تاريخ يستند إلى جغرافيا ثم هو تجاوب ل( وتلك الأيام نداولها بين الناس). وختم بحثه هذا بعدة استنتاجات، يعتقد أنها مؤثرة في بحوث أخرى، توفي فكرة التاريخ حقها في فكرة مالك بن نبي أهم النتائج ومن أهم النتائج التي كشف عنها المؤلف من خلال هذا البحث: أولا إن الخلدونية في فكرتها عن التاريخ كانت قد أولت عناية كبرى لتاريخ دويلات المغرب الإسلامي، وكيف مرت هذه الدويلات من مرحلة إلى مرحلة أخرى، لكي تصل أخيرا إلى التفسخ والانحلال، أو بالأحرى كيف مرّ تاريخ هذه الدول من الطفولة إلى الشيخوخة ثم الهرم: إنه مفهوم بيولوجي لتطور الدولة. وهو بهذا المعنى لا يفسر لنا محتوى العلاقات الاجتماعية، آخذا طبعا بعين الاعتبار العصبية كمفهوم بيولوجي ثم وإن كان الأمر كذلك، فإنه يقدم لنا نموذجا للتاريخ الذي يتسم بالدورية؛ ضف إلي هذا، أن الحياة الاجتماعية هي غير الحياة البيولوجية؛ فإذا كانت الأولى تحتاج إلى عالم أو مهندس اجتماعي، فإن الثانية تحتاج إلى عالم حياة، وهناك تباعد بين الحياتين. ثم إن ابن خلدون، لما انكب على دراسة التاريخ كتطور لمجتمع معين، هو مجتمع المغرب الإسلامي، فقد بقيت فكرته ضيقة نسبيا في مجال الجغرافيا. وإذا كانت الهيغلية، رغم تأسيسها للمنطق الجدلي واعتمادها عليه، مستعينة بفكرة العقل »اللوغوس« logos، فإنها لم تتمكن من وقعنة عقلانيتها في التاريخ؛ وإلا فكيف لها أن تنطلق من أن العقل كغاية للتاريخ الإنساني؟ لتعود عن قولها بفكرة أن الشعوب الجرمانية، هي وحدها غاية التاريخ الإنساني، وإذا كانت كذلك، فبما ذا تفسر »العقل« الذي يقيم هذا التمييز العنصري بين الشعوب؟ ومن جهة أخرى، بماذا تفسر هذا العقل الذي باسمه استعمرت الشعوب؟ وهل التاريخ هو الهيمنة والسيطرة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فإن هذا يتنافى مع فكرة أخرى وليدة العقل هذا نفسه، وهي فكرة الحرية. إذن، فالتاريخ قد يأخذ تفسيرا آخر. ولقد عوض توينبي فيلسوف التاريخ الإنجليزي، فكرة طرفي المنطق الجدلي بفكرة التحدي والاستجابة، ووضع لها شروطا؛ وهي محاولة منه لسن قانون الحركة التاريخية من جهة، ومن جهة أخرى، فهي محاولة »ضمير« استرجع أنفاسه، تلك الأنفاس التي تقطعت بها الأسباب في معركة »ستالينغراد« وفي معركة »العلمين«. لكنها محاولة أيضا، يندى لها ضمير التعايش السلمي بعد الحرب العالمية الثانية؛ وحصل لها كل هذا، في اعتقاد المؤلف، لأن الفكرة هي أولا وقبل كل شيء، تولد في مناخ ثقافي (عبر عنه عصر غاليلي بإعلانه الطلاق بين الدين المسيحي والعلم، كما عبر عنه عصر الاستعمار بشكليه المعروف والمقنع الجديد). ويقلب مالك بن نبي صفحة جديدة في سنه للأسس الأولى للحركة التاريخية مع مفكري »الأزمة العالمية المعاصرة« يرى أنه على الإنسان، في أوسع معانيه، أن يهتف: يجب أن ينتهي التاريخ، يجب أن يفلس التاريخ يجب أن نعلن الإفلاس، يجب أن ينتهي التاريخ في نقطة ما، كي يتجدد في نقطة أخرى. لذا، فإنه أقام فكرة التاريخ في حركيتها في ضوء القرآن الكريم، بداية من »الفعالية« و»الوعد والوعيد« ومرورا برسم العوالم الأساسية لهذه الحركة التاريخية، المتمثلة في النشاط المشترك لكل من »عالم الأشخاص« و»عالم الأفكار« و»عالم الأشياء«، نحو سهم ذي غاية واحدة هي: عالمية الحضارة والحضارة وحدها. والنتائج التي توصّل إليها المؤلف من خلال تفحصه لفكرة التاريخ عند مالك بن بني هي: أولا - إن رسم المعالم الأولى للانطلاق في الحضارة، لايعني التحضر، بل يعني إمكان التحضر. ثانيا: إن البحث في فكرة التاريخ، لايعني أبدا مدح التاريخ والبكاء على أطلاله، إن أردنا أن نقيم حركة تاريخية. ثالثا: إن حركة التاريخ إذا كانت لاتأخذ بمقوماتها، بدعائمها الأساسية، فهي ضرب من الضبابية للتاريخ، حيث يبقى الغبار مخفيا لملامحه. رابعا: إن التعامل مع الحركة التاريخية، يعني أولا قبل كل شيء، شحذ المفاهيم العالمية لفكرة التاريخ. خامسا: إن التسلح بالعلمية لتأكيد التاريخ شيء مهم؛ ولكن شرط أن يكون منهجا لائقا لهذه العلمية، أي يجب الأخذ بمنهج باستور وليس بمنهج ديكارت. وأخيرا، فإن فكرة مالك بن نبي عن التاريخ تتسم بهالة من التجريد في رأي المؤلف، وحتى نتمكن من استيعابها يجب أن نتسلح بالفكرة الفعالة، تلك الفكرة التي أخرت المسيحية »قرونا وسطى« واضطرتها إلى الهجرة من مولدها. ثم إن التاريخ أصبح اليوم ذا صبغة عالمية بحضارته، فما العمل كي يصبح التاريخ حضارة إنسانية؟ من هنا، يظهر أن الموقف صعب وخطير للغاية، الأمر الذي قد لايؤهلنا - في نظر الباحث - للأخذ بما انتهى إليه عصر الإليكترون، وإلا سوف نقع في إشكالية تقليد أثر رجل انتهت به الحضارة، برجل هو في بادرة حضارة. وهيهات أن يتوقف الأول، وهيهات أن يلحق به الثاني. لذا، علينا أن نقدم للأرض الجدباء في أعلي الجبل ماء من أسفل الجبل يروي ظمأها، إنه فعل مرحلة الروح، والروح وحدها.