في التثاقف لبن نبي في كتابه "مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي" ملاحظات مركزة في موضوع ازدواج اللغة الذي هو الظاهرة البارزة في ثقافة البلاد الإسلامية ولا سيما بلاده هو فقد قاد هذا الازدواج إلى ظهور طائفتين: طائفة تتكلم العربية وتحاول وصل الصلة مع الأصول الإسلامية وطائفة تتكلم الفرنسية وفيها من يريد قطع الصلة مع العربية والإسلام: "لم يعد في البلد الواحد نخبتان فحسب وإنما مجتمعان متراكبان أحدهما يمثل البلد التقليدي والتاريخي، والثاني يريد أن يصنع تاريخه مبتدئاً من الصفر، فالأفكار المطبوعة لهذا الفريق والأفكار الموضوعة للفريق الآخر لا تستطيع أن تتعايش في عالم ثقافي واحد فقد كان المجتمعان يتحدثان بلغتين مختلفتين فما كان يقال في المذياع وفي الصحافة وحتى في بعض الكتب المدرسية إذا كان في استطاعته أن يعبر عن الأفكار الموضوعة عند أحد المجتمعين، لم يكن له أي معنى بالنسبة للأفكار المطبوعة الخاصة بالمجتمع الآخر" ("مشكلة الأفكار"- ص190) ومن علامات عدم الانسجام يضرب بن نبي مثلاً النقاش في صفوف الثورة الجزائرية الذي دعا إلى إلغاء مصطلح المجاهد ووضع مصطلح الجندي مكانه.ومن الأمثلة التي يضربها ما ورد في كتاب عن فن العمارة في الجزائر: "كان يطلق على المهندس المعماري في الماضي اسم معلم البناء وكان يدعى لبناء القصور والمعابد والكنائس والأبنية الدفاعية" ملاحظاً بسخرية أن هذه القائمة أغفلت المسجد بينما هو من أهم معالم العمارة حتى تلك التي تدرس في فرنسا أو انكلترا أو ألمانيا!. ومن انتقاداته الوجيهة للأدب العربي نقده لمسرحية لتوفيق الحكيم كانت في تقريظ القاضي العز بن عبد السلام الذي جعله توفيق الحكيم يستعمل مصطلح "القانون" وليس "الشريعة" ويعلق بن نبي: "الشريعة لها مصطلحاتها ويحمل كل مصطلح إلى جانبه اللغوي والبلاغي قدراً من العاطفة والأخلاق ترسم فيه عبر تاريخ الثقافة " ("مشكلة الأفكار" –ص195) وفي هذا الموضع نرى أن مالك بن نبي ليس مبتوت الصلة كلياً بالنزعة التأصيلية التي تركز على مساوئ استيراد المكونات الثقافية من المجتمع الآخر،بل كان واعياً لهذه المساوئ،ولكنه في الحقيقة كرس أغلب جهده الفكري لبحث مشكلة نهوض المجتمع المسلم من الهوة الحضارية التي يعاني منها، وفي سبيل دراسة هذا النهوض وشروطه،لم يركز الاهتمام على مشكلة الحفاظ على الهوية،وأعتقد أن المطلوب إحداث تركيب خلاق بين الطريقة التأصيلية المتمركزة حول فكرة الدفاع عن الهوية الثقافية الخاصة، والطريقة المركزة على هدف النهضة التي يتبعها مفكرون كثر على رأسهم مالك بن نبي،وأنا أسمي هذا التركيب "التأصيل الفاعل" وأكتفي هنا فقط بالإشارة إلى هذه النقطة تاركاً مناقشتها إلى مقال آخر إن شاء الله. مع كل ما تقدم فإن اللغة الغريبة المستوردة قد تقوم بدور إيجابي في تفجير الحركة في عالم ثقافي راكد "فبالمعاني الواردة من ثقافة أخرى والمترجمة بإخلاص إلى حد كبير، تستعيد الأفكار المطبوعة قدرتها على الكلام بعد أن كانت بغير صدى وبغير حوار مع الحياة وبغير سيطرة عليها، وتشرع في إنتاج أفكار موضوعة قد تتضمن قدراً من الغموض بسبب أصلها المزدوج ولكنها تظل في ركاب الأفكار الأولى فعندما كان الشيخ محمد عبده يكتب بحثه في العقيدة كان يستلهم بلا شك الاتجاه شبه الكلاسيكي الذي كانت عليه الثقافة الأزهرية في عصره ولكن بطريقته الجديدة في الصياغة وفي التعبير افتتح الشيخ محمد عبده برسالة التوحيد عهداً جديداً في المذهب الكلاسيكي" ("مشكلة الأفكار"-ص 186). ازدواج اللغة إذاً قد يساعد في التجديد وقد يؤدي إلى الخروج على الأصول الأساسية (على هذه الحالة الأخيرة يضرب بن نبي مثال علي عبد الرازق) وقد يؤدي أخيراً إلى شق النخبة المتعلمة إلى مجتمعين متناقضين كما في الجزائر. الأفكار المخذولة وانتقامها: في الثلاثي المكون للعالم المحيط بالفرد: الأشياء، الأشخاص، الأفكار يرى بن نبي أن الأفكار هي التي تقود العالم بغض النظر عن نوعية هذه الأفكار وحكمنا عليها. أعتقد أن هيغل يشغل مكانه الفريد في تاريخ الفلسفة بوصفه الوحيد الذي حاول أن يصف الوقائع الاجتماعية وتغيرها على أنها أفكار وتغيرها يتبع منطق تغير الأفكار: المنطق الجدلي. وانطلاقاً من هذه النظرة الفريدة لنا أن نقول إن هيغل هو فيلسوف الاجتماع الإنساني بامتياز ومن جهة أخرى بإمكاننا أن نقول إن هيغل هو أكمل الفلاسفة المثاليين فقد نظر للكون بأسره بمكوناته كافة على أنها أفكار تتغير وفق المنطق الجدلي. بن نبي يتفق مع هيغل في أن الأفكار تتحول إلى واقع كما أن الواقع يتحول إلى أفكار ("مشكلة الأفكار" –ص95) ويضرب بالرق مثلاً على أن "الأنظمة التي ليس لها سند من الأفكار هي في طريقها إلى الفناء" إذ أن إلغاء الرق بدأ في عالم الأفكار عند المفكرين في القرن التاسع عشر ولو أن آلات القرن العشرين كانت ستقضي عليه لو لم يقض عليه الفكر! ("مشكلة الأفكار"-ص211) ويقرر مالك بوضوح مناصرته للمبدأ المثالي في الفلسفة الذي يطبقه في ميدان علم الاجتماع "إن التغييرات ذات الصبغة النفسية هي التي تؤدي إلى ظهور تغيرات اقتصادية وسياسية على سطح الحياة الاجتماعية فالجانب النفسي هو الذي يسبق و ينظم الجانب الاجتماعي ومن كل الطرق التي نسلكها نصل دائماً إلى المبدأ الذي قرره القرآن على شكل حكم تقريري: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" الرعد-11. لقد تضمنت الآية خلاصة النتائج التي يمكننا الخروج بها عن انتقام الأفكار المخذولة" ("مشكلة الأفكار"-ص 212) . حين لا ينسجم السلوك مع فكرته المثالية تنتقم هذه الفكرة المخذولة لنفسها: يقول بن نبي:"الأفكار الموضوعة تختلف عن الأفكار المطبوعة التي كانت في القوالب الأصلية، وهذا الاختلاف أو هذا الغدر يدوي في كل نشاطنا ويعرض هذا النشاط للانتقام من طرف الأفكار الأصلية انتقاماً يكون أحياناً غاية في العنف على الصعيد السياسي عندما تنتقم الأفكار المخذولة. وقد يكون من الأيسر تصور هذا الانتقام في المجال التقني عندما تصمم خطأً إحدى الماكينات وتنفجر أو أحد الجسور فينهار لأن الانتقام في هذه الحالة يكون فورياً. ولكن المجتمعات والحضارات والممالك قد تنهار هي أيضاً بنفس الطريقة وليست كوارث التاريخ في غالب الأحيان إلا آثاراً مباشرة لنوع من انتقام الأفكار المخذولة" ("مشكلة الأفكار" –ص76). يعلق بن نبي في نفس الصفحة على الهامش: "نستطيع القول بأن العالم الإسلامي يواجه اليوم عقوبة مستحقة من الإسلام، لالتفاته عنه وليس كما يظن بعض السذج لتمسكه به" إذا وصلت الأفكار الموضوعة في المجتمع إلى مرحلة انبتت فيها صلتها بالأفكار المطبوعة انتقمت هذه الأخيرة لنفسها على شكل فقدان المجتمع لفعاليته. ويضرب بن نبي لذلك مثلاً في أول خذلان في التاريخ قام به المسلمون لفكرة القرآن المطبوعة (النموذج المثالي ) التي تعبر عنها الآية الكريمة "إن صلاتي ونسكي و محياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له" الأنعام –161- 162. والتي كان من الواجب أن يتوافق المسلمون في شخصيتهم وسلوكهم معها وذلك حين فصلوا بين سلوكهم المتعلق بطلب الدنيا وسلوكهم التعبدي فصار بعضهم يقول"صلاتي وراء علي أصلح لديني وطعامي عند معاوية أقوم لبدني!" ونتج عن هذا ذلك الشرخ المرير في صفين الذي كان بداية المرض الحضاري . وحين ينفصل السلوك عن الفكرة المطبوعة تنتج عن السلوك المنفصل فكرة جديدة مفارقة للنموذج المثالي تنتقل من جيل إلى آخر كأنها الجرثومة التي تنقل المرض الحضاري . الأفكار الصادقة والأفكار الفعالة: يرى بن نبي أن الفكرة الصادقة ليست دائماً فعالة والفكرة الفعالة ليست دائماً صادقة! الفكرة هي صحيحة أو باطلة، ولكن هذه الفكرة رغم صحتها قد تفقد فاعليتها.وقد تظل فترة طويلة كامنة في عالم اللافاعلية رغم وجودها، حتى يأتي زمان تخرج إلى الفاعلية ويضرب بن نبي لهذا مثلاً بفكرة ابن النفيس عن الدورة الدموية الصغرى، فهي لم تستخدم إلا بعد قرون حين أخذها الأوروبيون (ونسبوها إلى هارفي) وفي المقابل ما أكثر الأفكار الباطلة بذاتها التي قلبت الأحداث وغيرت التاريخ! إن العقيدة الدهرية المادية التي تقوم عليها الحضارة المعاصرة هي عقيدة لا نشك في بطلانها، ولكنها عقيدة فاعلة،( وقد أضيف: وليس ذلك فحسب، بل هي تستطيع في بعض الحالات بالقوة أن تطفئ جذوة أفكار صادقة من الحضارات المهزومة وتهيل عليها رماد النسيان!) والخلط بين الفاعلية والصدق يستخدم لتشكيك المسلمين في إسلامهم، إذ يقال لهم: أتكون صحيحة عقيدة أهلها في أسفل درجات السلم الحضاري، وتكون خاطئة عقيدة تغزو القمر؟ بن نبي يرى أن المسلمين لم يفقدوا فعاليتهم لتمسكهم بالإسلام بل لهجرهم لروحه الحقيقية و "أفكاره المطبوعة". المجتمع يفقد فعاليته عندما تنبت الصلة بين "أفكاره المطبوعة" و"أفكاره الموضوعة"،وقد نقول بعبارة أخرى:بين معتقداته وسلوكه! ويقول بن نبي:"كثير من المفكرين المسلمين اليوم يفتنون بالأشياء الحديثة وبالتالي بمنطق الفعالية من غير تمييز بين حدود توافقها مع المهام التي يريد المجتمع أن ينهض بها دون أن يفقد أصالته، فهؤلاء المفكرون يخلطون بين أمرين: بين "الانفتاح الكامل لكل فكر تأتي به الرياح" وبين تسليم القلعة للمهاجمين-كما يفعل الجيش الخائن-" ولا ينبغي للمسلمين أن يتعزوا بصدق أفكارهم عن مصيبة انعدام فاعليتهم: "ينبغي على الفكرة الإسلامية لكي تقاوم الأفكار الفعالة والخاصة بمجتمعات القرن العشرين المتحركة،أن تسترد فعاليتها الخاصة بمعنى أن تأخذ مكانها من بين الأفكار التي تصنع التاريخ"("مشكلة الأفكار" –ص144) محمد شاويش-برلين