هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    مقتل تسعة أشخاص في حادث تحطّم طائرة جنوب البرازيل    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الريف في مواجهة الحرب الكيماوية الأولى
نشر في أريفينو يوم 31 - 01 - 2008


الخطابي في مواجهة الغازات السامة
في مارس 1991 كتب المؤرخ الهولندي، البروفسور يان هوفنار المختص في التاريخ العسكري، مقالا من الأهمية بمكان، يحمل عنوان (المغرب كحقل تجارب للغازات الألمانية السامة)، وقد نشر في جريدة هولندية مشهورة تدعى، NRC) ، الصحيفة التجارية)،
وهذا المقال هو عبارة عن عرض تفصيلي ومركز لأهم كتاب أجنبي، تعرض بموضوعية لا نظير لها لحقيقة الحرب الكيماوية، التي مورست على الريف المغربي في منتصف عشرينيات القرن الماضي، وقد ألف هذا الكتاب، الذي كتب عام 1990، من قبل الألمانيين؛ الصحافي روديبرت كونز، والمؤرخ رولف ديتر مولر، وهو موسوم ب (الخطابي في مواجهة الغازات السامة). في حقيقة الأمر، إن أغلب من تناول هذه القضية اعتمد على هذا الكتاب، الذي أصبح يشكل مرجعا أساسيا، بل مرجعا لا يمكن الاستغناء عنه في الكتابة عن حرب الغازات السامة في منطقة الريف، وتكمن أهميته القصوى في العناصر الثلاثة الآتية:
1-يعتبر تاريخيا هو السباق إلى طرح هذه القضية الإنسانية المسيجة بالطمس والكتمان، في الوقت الذي كان فيه الجميع؛ مثقفين وإعلاميين وشعبا، يجهلون أن أول مكان في العالم قصف بالأسلحة الكيماوية هو الريف، ثم إن ما يعزز هذا السبق التاريخي أكثر، هو أن الكتاب ألف من قبل ألمانيين، اعتمدا على شتى طرائق البحث العلمي والتحري التاريخي، مما يشكل نوعا من رد الاعتبار الانساني للريف، لاسيما وأن المسألة طرحت بأسلوب علمي خلو من أي نزوع أيديولوجي، ليس كما هو الشأن بالنسبة إلى مشروع القانون الذي تقدم به عضوان من الفريق النيابي لحزب اليسار الجمهوري الكطلاني في البرلمان الإسباني، في فبراير 2007، وهو مشروع يتمحور حول فضيحة استخدام إسبانيا للأسلحة الكيماوية في منطقة الريف، أثناء مواجهتها للمقاومة الريفية الباسلة، ويطالب السلطات الإسبانية بالاعتراف بجرائمها الكيماوية التي مارستها على الريف. فإن كان يظهر أن هذه الخطوة التي قام بها هذا الحزب الكطلاني هي في صالح المواطنين الريفيين، الذين مازالوا يتحملون نتائج هذه الحرب المحرمة الوخيمة، رغم مضي أكثر من ثمانية عقود على وقوعها، فإن ثمة أكثر من علامة استفهام حول سواء، الكيفية التي تم بها تناول هذا الملف، أم الظرفية التي شهدت هذا الأمر، بمعنى أن الهاجس الأيديولوجي يظل حاضرا لدى العضوين الكطلانيين اللذين يعود إليهما الفضل في إثارة هذا الإشكال التاريخي الواقعي الشائك من جديد.
2-فيما يتعلق بمضمون الكتاب، يمكن التسليم بأنه نجح في إماطة اللثام عن جملة من الحقائق التاريخية التي غيبها المؤرخون الرسميون، أهمها أن حرب الريف تعتبر أول حرب في التاريخ استعملت فيها الأسلحة الكيماوية، ليس على أرض الميدان عن طريق المواجهة الندية، وإنما بأسلوب القصف الجوي للمدنيين والمرافق العمومية والمزروعات والأشجار والمياه وغير ذلك، وذلك في صيف 1925، مما يؤكد أن الحرب الإيطالية التي استخدمت فيها الأسلحة الكيماوية ما بين 1934 و1936 ليست هي الأولى تاريخيا، كما يناقش الكتاب الخرق السافر الذي مارسته إسبانيا لمعاهدة جنيف التي تحظر استخدام الأسلحة الكيماوية، خصوصا وأنها تعتبر من الموقعين على هذه الاتفاقية في يونيو 1925، إلى جانب كل من ألمانيا وفرنسا، غير أنها لم تأخذ هذا الوعد بعين الاعتبار، لأنها سوف تعمد في صيف تلك السنة إلى استعمال السلاح الكيماوي! هذا ناهيك عن حقائق أخرى، مثل مصالح ألمانيا في المغرب التي دفعتها لمساعدة إسبانيا بالتكنولوجيا الكيماوية، والأضرار الخطيرة التي ترتبت عن استعمال تلك الأسلحة، ثم عدم السماح لمنظمة الصليب الأحمر الدولية منح المساعدات المادية والمعنوية والصحية لضحايا تلك الحرب الظالمة، وغير ذلك من الحقائق التاريخية المغيبة.
3-كما تجدر الإشارة إلى أن المنهجية المتبعة في تأليف هذا الكتاب تحيل، بشكل أو بآخر، على أن الباحثين تحريا أقصى مراتب النزاهة والحياد، مادام أنهما أسسا أطروحتهما على أفكار مدعومة بمعطيات صادقة، يمكن لأي ناقد تقصيها ومعالجتها، وأهم هذه المعطيات مستقاة من الأرشيف العسكري الألماني، في حين يظل الأرشيف الإسباني مغلقا، أما المغرب فغير مستعد للتعاون مع أي أحد فيما يتعلق بهذا الملف الذي أصبح بمثابة طابو محرم جديد!
استنادا إلى هذه الملاحظات المقتضبة نثبت أنه مر ما يربو على ثمانية عقود من الحرب الكيماوية، التي مارستها كل من إسبانيا وفرنسا وألمانيا علانية على سكان الريف العزل، كما أنه مر حوالي عقدين عن أول اعتراف غربي بهذه الجريمة الشنعاء، وهو اعتراف من لدن باحثين نزيهين، يعكسان وجهة نظر المثقف الغربي الحقيقي الغير راضي عن السياسات الغربية الممارسة في بلدان العالم الثالث؛ قديما وحديثا. والآن، تطرح القضية من جديد، في ظرفية زمنية تنم عن أن ثمة وعيا غير مسبوق لدى المجتمع المدني الريفي، الذي سارع إلى تبني هذا الملف الذي يشكل نقطة سوداء في تاريخه غير البعيد، غير أن هذا الوعي وحده غير كاف لتعبيد العقبات التنظيمية والسياسية، التي من شأنها أن تعرقل سير هذه القضية.
لذلك نعتقد أن إنجاح هذا الملف، غير مرهون بمدى استجابة السلطات الإسبانية لمطالب الجمعيات الريفية، التي تكفلت بتبني قضية الحرب الكيماوية التي مارسها الاستعمار الإسباني على أرضهم، بقدرما هو متعلق بمرحلتين؛ في أولهما تتكتل سائر الجمعيات والمنظمات والتمثيليات وغير ذلك، التي أخذت على عاتقها مهمة الدفاع عن ضحايا الحرب الكيماوية، فتنشىء هيئة مشتركة عليا تتقدم بمشروع جاد ومتكامل إلى الدولة المغربية، طالبة منها عبر مختلف الوسائل العلمية والسياسية والنضالية أن تجعل من هذه القضية قضية وطنية، وعندما يتحقق هذا المطلب، مثل غيره من المطالب التي كان تحققها ضربا من المستحيل، نعبر إلى المرحلة الثانية التي سوف تكون على مستوى رسمي وموسع بين المغرب وإسبانيا، كما يحدث الآن بين الجزائر وفرنسا، حيث تطالب الأولى الثانية بالاعتراف بجرائمها النكراء في حق الشعب الجزائري، أو تكون من قبل جهات تمثل ضحايا تلك الحرب مدعومة قانونيا من الدولة المغربية، دون نسيان الدور الكبير الذي قد يؤديه المثقفون المغاربة المقيمون في أوروبا عامة، وفي إسبانيا خاصة، أما أن تنفرد بتمثيل هذا الملف جمعيات غير مدعومة قانونيا ولا رسميا، فهذا يعني أنها تمارس، من جهة أولى، خروجا على إرادة السلطة المغربية، مما سوف يعرضها للتعسف والتوقيف والعرقلة، وتستفز، من جهة ثانية، الدولة الإسبانية التي تتمتع باتفاقيات وحقوق لدى المغرب!
الضحية واحدة والجلاد متعدد!
لقد مر ما يناهز ثمانية عقود على قصف منطقة الريف في شمال المغرب، بالأسلحة الكيماوية من قبل الاحتلال الإسباني، بعد عجزه الفادح عن مواجهة المقاومة الباسلة لمجاهدي الريف الشرفاء، بزعامة قائدهم الروحي والميداني محمد بن عبد الكريم الخطابي، حيث تحكي المصادر التاريخية أن اندحار جيش العدو في معركة أنوال، التي التهمت عشرات الآلاف من الضحايا، زرع المخاوف في القيادة الإسبانية، التي توجست خيفة من أن تتكرر تلك الهزيمة، فما كان أمامها إلا أن تهرع إلى السلطات العليا في مدريد، التي بدورها سوف تستنجد بحلفاء أجانب؛ مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا.
سوف لن نتوقف عند الأحداث التاريخية بنوع من التفصيل، بقدرما نستأنس ببعض المواقف التي تحيل على موضوعة القضية التي نحن بصدد تناولها، لنخلص بعد ذلك إلى نتائج تتداعى إلى واقعنا المعيش من ماضينا الغابر، الذي نظل نحمله معنا أينما ارتحلنا، إلى درجة أننا نشعر بأنه لا فكاك من ظلاله الممتدة إلى وجودنا، وخير مثال حول ذلك موضوع هذه الورقة، حيث في الوقت الذي كنا نعتقد فيه أن الاحتلال الإسباني قد ولى، وأن المقاومة الريفية صارت مجرد صفحة وضاء في سجل الماضي، نتباهى برموزها التي سكنت التاريخ الإنساني، تصدمنا الحقيقة التي كانت مغيبة في دهاليز الزمن، بل ويزيد من وقع الصدمة ما يتمخض عنه الواقع من دلائل قاطعة لا حيز لردها أو دحضها؛ فما زرعته يد العدو في الماضي رصاصا وقنابل وكيماويات، نحصده في الحاضر كوارث وفواجع وسرطانات! كما أنه كتب علينا أن نحيا ماضينا ثانية، ليس تداعيا وحلما، وإنما معاناة وألما، تقول إحدى المصادر الموثوق بها: “إن الغازات السامة قدمتها ألمانيا لإسبانيا، حيث تم قصف منطقة الريف ب 10 آلاف قنبلة تحوي 500 طن من المواد الكيماوية، من قبل القوات الجوية الإسبانية. وقد أنتج ثلث من هذه الكمية من الغازات السامة التي سقطت على الريف، أثناء الحرب العالمية الأولى من لدن بريطانيا وفرنسا”.
على أساس هذا الدليل القاطع، يتأكد لنا أن جريمة الاعتداء على منطقة الريف بأسلحة محرمة دوليا، مثبة بوثائق واتفاقيات ماتزال شاهدة على حقيقة هذه الجريمة، وقد شاركت فيها أربع دول سبق لها وأن وقعت على تلك الاتفاقيات، وهي بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإسبانيا، وثمة من المصادر التي تضيف حتى الولايات المتحدة الأمريكية، لذلك لا ينبغي أن يقتصر خطاب المثقفين والسياسيين على متابعة إسبانيا وحدها، والكل يعلم أن فاعلي الجريمة متعددون، مما يدفعنا للتساؤل عما إذا كان يقف وراء اقتصار جمعيات ضحايا الحرب الكيماوية الإسبانية، على الفاعل الإسباني فقط، بسبب التأثير السياسي الذي مارسه حزب اليسار الجمهوري الكطلاني، الذي حاول مؤخرا تبني هذا الملف، وسرقة الأضواء ممن سبقه من الباحثين القلائل، الذين كانوا قد كشفوا القناع عن هذه الجريمة وجلاديها! هذا يعني بوضوح تام أنه إلى جانب متابعة ومحاسبة الدولة الإسبانية، ينبغي كذلك أن نتابع ونحاسب باقي الحلفاء، الذين شارك كل واحد منهم بنصيبه في هذه الجريمة الكيماوية الأولى من نوعها في التاريخ الإنساني، مما سوف يمنح خطابنا بعدا استراتيجيا أكثر واقعية ومصداقية.
سر الصمت المغربي
ثم إن هناك عنصرا من الأهمية القصوى بمكان، وهو يتعلق بموقف الدولة المغربية آنذاك من الحرب التي شنتها إسبانيا على الريف، وهو موقف يتراوح بين الصمت النابع من انشغال السلطان وحاشيته بأمور الحماية الفرنسية، التي قبلها، فقبل بذلك أن يكون موظفا ساميا لدى الجمهورية الفرنسية! وبين الاحتفاء الخفي بما يتعرض إليه الريف من قمع وتخريب، لأنه كان في طور الانفصال التلقائي عن الدولة المغربية التقليدية، وتشكيل الجمهورية الريفية المستقلة، بل وثمة من يذهب إلى أن سلطان المغرب حث الإسبان أو شارك إلى جانبهم في مواجهة الحركة الريفية، غير أن هذا الرأي يظل في مسيس الحاجة إلى التحري والدعم الموضوعي بالأدلة والمعطيات.
هذا عن موقف الدولة المغربية القديم إبان تعرض منطقة الريف للحرب الكيماوية، فماذا عن الموقف الحديث، والريف يتعرض من جديد لمخلفات تلك الحرب، حيث تشير الإحصائيات إلى أن أكثر من 60 في المائة من إصابات داء السرطان في المغرب تسجل في مناطق الريف! وقد ثبت بالبحث العلمي والطبي أنها متولدة عن ذلك التلويث الكيماوي، الذي مارسه العدو الإسباني في منتصف عشرينيات القرن الماضي على شمال المغرب.
ومع ذلك يظل موقف المغرب الرسمي جامدا، لم يحرك ساكنا لهذه الزوبعة، التي بدأ يحدثها ملف ضحايا الحرب الكيماوية على الريف، بل وتظل الأحزاب المغربية قاطبة راضية بصمت الدولة المغربية، وهو رضى نابع عن نزعتها البرغماتية المعهودة، حيث أنه بمجرد ما يتغير الموقف الرسمي، سوف تهب لمباركته والانتظام في بوتقته، وهذا ما حدث لملف القضية الأمازيغية، حيث ظلت أغلب الأحزاب تغض عنه الطرف؛ صلفا أو خشية، لكن عندما عبر القصر عن تبنيه للأمازيغية ورد الاعتبار إليها، هرع الجميع أحزابا ومثقفين وسياسيين يخطبون ود الأمازيغية، ليس حبا في عيونها، وإنما تلبية لنداء القمة! ترى ما هي الأسباب الخفية التي تقف وراء جمود الموقف الرسمي المغربي من ضحايا الحرب الكيماوية؟
لا يمكن استيعاب هذا الجانب إلا في السياق العام الذي يحكم علاقة المغرب بإسبانيا، وقد كنا تساءلنا في إحدى مقالاتنا؛ حول ما إذا كانت هذه العلاقة علاقة تكافؤ أم علاقة تبعية؟ فخلصنا بعد التحليل إلى أنها، للأسف العميق، علاقة تبعية! لاسيما وأن أمام الدولة المغربية جملة من التحديات التي تحضر فيها إسبانيا بقوة، مثل قضية الصحراء المغربية، وملف الهجرة السرية، وتنقل البضائع المغربية عبر التراب الإسباني، واستمرار احتلال المدينتين المغربيتين سبتة ومليلية، واستقرار اليد العاملة المغربية بإسبانيا، وغيرها من التحديات، التي تقيد حرية الدبلوماسية المغربية في تعاملها مع السياسة الإسبانية في المنطقة، فتظل جملة من القضايا الاستراتيجية عالقة، لا يستطيع المغرب مجرد النقاش مع جاره الأوروبي الجنوبي حولها، ومادام أن ملف الحرب الكيماوية هو في حد ذاته يشكل تحدّيا جديدا في وجه مغرب الألفية الثالثة، فكيف له أن يجازف بفتح أو تبني هذا الملف، وكاهله يرزح تحت وطأة ملفات من الوزن الثقيل، كملف الصحراء المغربية، وملف المدينتين السليبتين وبعض الجزر المتنازع عليها، وغيرهما.
ثم إن تعرض الريف للحرب الكيماوية تم في آونة تشهد بأنه كان مستقلا سياسيا عن السلطان المغربي، الذي لعله كان يرى في ذلك الاستقلال تمردا على المملكة المغربية التقليدية، وما يؤيد هذا الطرح هو الجو التاريخي العام الذي تلا تلك المرحلة، وهو جو مشحون بالصراع بين الريف والمخزن، بين المغرب غير النافع والمغرب النافع، مما كان يضع هذه المنطقة؛ تاريخا وثقافة وساكنة، في اللائحة السوداء للسياسة المغربية المعاصرة، فاعتراها ما اعتراها من التهميش والتفقير والإقصاء، من هذا المنطلق فإن الريف كان يتخبط في وضعية لا يحسده عليها أحد، مما ولد لدى الدولة المغربية عقدة سيكولوجية تجاه أي حركة ثقافية، أو وعي سياسي، أو تنمية اقتصادية تنشأ في هذه المنطقة، التي تنضوي جغرافيا وسياديا تحت الراية المغربية، لكن وجوديا تقع خارج التاريخ المغربي!
بناء على هذا، نعتقد أن الأسباب الخفية التي تجعل السلطات المغربية تحيد عن تبني ملف ضحايا الحرب الكيماوية بالريف، تنبثق، من جهة أولى، من العلاقة المغربية الإسبانية غير المتوازنة، التي تفرض على المغرب التقيد بالمواثيق السياسية والتجارية والاقتصادية والأمنية وغير ذلك، التي تجمعه في الوقت الحالي مع إسبانيا، ولو على حساب مجموعة من القضايا الحيوية التي تمت بصلة وطيدة إلى هوية المغرب وتاريخه وترابه. وتنبثق، من جهة ثانية، من السياق التاريخي الذي كانت تندرج فيه منطقة الريف، وهو سياق يبرر للمخزن الفعل الإقصائي الذي مارسه على شمال المغرب، طوال أكثر من نصف قرن، فكيف له الآن أن يفكر في تجشم هذا التحدي الخطير، الذي قد يزيد الطين بلة؟!
جملة القول..
إن الغرض من كتابة هذه الورقة هي بعث الوعي الكافي في الأذهان، بحقيقة قضية الحرب الكيماوية الإسبانية على الريف المغربي، وهي حقيقة قائمة بالحجة والدليل، تثبت بأن ثمة أكثر من جلاد ساهم في هذه الفعلة اللاإنسانية، وهذا ما يجعل القضية أكبر مما يمتلكه المجتمع المدني الريفي من إمكانيات، فليس أمامه إلا أن يلجأ إلى كل من يحاولون تبني هذا الملف، بأسلوب بريء من الأدلجة والتسييس، لذلك نرى أنه يحق لنا أن نستثمر كل ما يتاح لنا من فرص تخدم هذه القضية، لكن بعيدا عن أي انسياق غير واعي خلف سراب الشعارات، وفي الوقت ذاته نوجه خطابنا إلى الداخل، إعلاميا وأكاديميا وجمعويا، وفي نيتنا أن نحول ملف ضحايا الحرب الكيماوية إلى قضية وطنية.
بقلم/التجاني بولعوالي
كاتب مغربي مقيم بهولندا
www.tijaniboulaouali.nl


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.