المصطفى أمحور، مهتم بتاريخ الريف في الوقت الذي بات فيه من المفروض أن يقف الباحثون والمثقفون والصحفيون صفا واحدا من أجل البحث عن السبل الكفيلة للمصالحة مع تاريخنا، وبناء دولة الحق والديمقراطية، بعيدا عن كل الحسابات الضيقة، نجد بعض أشباه الصحفيين الذين ليست لهم خبرة بالبحث التاريخي، يثيرون بعض المواضيع والقضايا التي ما زالت محط نقاش بين الباحثين والمؤرخين وأهل الاختصاص، والتي يهدفون من خلالها إلى زرع بذور الانشقاق والصراع داخل الوطن، لخدمة أجندة أطراف معينة. وما جعلني أقول هذا هو الموضوع الذي أثارته جريدة "المساء" في عددها 2327 الصادر بتاريخ 20-03-2014 حول المجاهد الريفي محمد بن عبد الكريم الخطابي وعائلته، والتي حاولت إبراز "الوجه الأخر" لهذا المقاوم الذي ضحى من اجل أبناء المغرب بشكل عام، وأبناء الريف بشكل خاص. بحيث اعتبرت انه كان "عميلا" لاسبانيا، وأن انقلابه عليها، ومقاومته لها كان بهدف خدمه مصالح ألمانيا التي أقصيت من موطئ قدم لها في الريف، وأنه قد وظف هو الأخر الغازات السامة في الحرب، إلى غير ذلك من الأمور التي اعتبرها المشرفون على الملف "وجها أخر" لأسد الريف محمد بن عبد الكريم الخطابي وعائلته. لنعتبر أن كل هذا يمثل "وجها أخر" لمحمد بن عبد الكريم الخطابي، ولنعتبر أن المشرفين على هذا الملف كان هدفهم هو "التأريخ الذي يطمح لان يكون علميا-موضوعيا، دونما تحمس إيديولوجي للأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، ودون تحامل عليه"، فلماذا قاموا بقراءة هذا "الوجه الأخر" بمعزل عن السياق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي كان يعيشه الريف في أواخر القرن 19 وبداية القرن 20؟ ولماذا أثاروا موضوع استعماله للغازات السامة في حربه ضد الغزو الاسباني؟ ألا يمكن اعتبار هذا ضربا من الوراء لمجموعة من مؤسسات المجتمع المدني بالريف المطالبة بالاعتراف الرسمي لاسبانيا عن جرائم الحرب التي ارتكبتها بالريف؟ ثم أليس اعتبار حرب الريف كان مجرد خدمة للألمان ضربا ونسفا لشرعيتها ؟ إن تحقيق الموضوعية في مجال المعرفة التاريخية تفترض من الباحث قراءة الأحداث التاريخية في شموليتها ووفق السياق التاريخي الذي أنتجها، دون السقوط في النظرة التجزيئية والانتقائية، وبعيدا عن الأحكام الجزافية والمتسرعة المسكونة بهواجس ايديولوجية، فالريف في أواخر القرن 19 وبداية القرن العشرين، كان يعرف أزمات كبرى على مستوى جميع الميادين، فعلى المستوى الاجتماعي كان الريف يعيش عدم الاستقرار الاجتماعي، الذي كان سببه الصراع المحتد بين القبائل، وعلى المستوى السياسي كانت علاقة الريفيين بالمخزن جد متوترة، ومن الناحية الاقتصادية عرف الريف في تلك الفترة سنوات جفاف متتالية، الشيء الذي أدى إلى تراجع المحصول الزراعي الذي كان يشكل قطب الرحى للنسيج الاقتصادي في المجتمع الريفي، وهجرة أغلبية الريفيين إلى الجزائر بحثا عن مصدر عيش، هذا بالإضافة إلى الأطماع الخارجية التي كانت تبحث عن موطئ قدم لها فيه. فكيف يمكن في هكذا وضعية أن يدخل عبد الكريم الخطابي الأب في حرب مع دولة كانت قوية عسكريا (اسبانيا)؟ إن الالتزام الموضوعي ب"مبدأ السببية" la causalité الذي هو عصب كل معرفة علمية -بما فيها المعرفة التاريخية- يثبت بوضوح أن هذه الأوضاع/الأسباب هي التي جعلت عبد الكريم الخطابي الأب يتريث في الاصطدام مع الأسبان، وهذا التريث هو سبب الخلاف بينه وبين المقاوم الريفي الشريف محمد أمزيان، إذ أن هذا الأخير كان يصر على مقاومة الإسبان، أما عبد الكريم الخطابي فكان يطلب منه عدم التعجل، والتفكير في خطة محكمة قبل مواجهتهم، وهذا ما يؤكده مولاي موحند في إحدى مذكراته(مذكرات الأمير عبد الكريم الخطابي،نشر محمد الكبر، في "مجلة الشأن المسلمين" العدد 31 السنة، 1379ه/ دجنبر 1959) والتي جاء فيها ما يلي: "لقد كان السيد امزيان يصر على مقاومة الاسبان بحرب العصابات الخاطفة، بينما رأى والدي أن هذا الأسلوب من القتال دون خطة ولا إعداد ولا سلاح، قد تكسب عدة مواقع، وقد يخسر العدو بها خسائر فادحة في بداية الأمر، ولكن المعركة ستنتهي بانتصاره…. كان يرى أن حرب العصابات لن توتي ثمارها إلا إذا كان الاسبان ملتزمين بمواقع معينة لا يغادرونها طوعا أو كرها، بينما هم كانوا ينوون التوسع، ويعتزمون مزيدا من العدوان على المناطق التي لم تخضع لهم بعد… وكانت لوالدي مطالب أخرى يرى انه لابد من تحقيقها أولا قبل الاصطدام بالاسبان ليكون انتصارا عليهم أكيدا منها لابد من القضاء على الفوضى الداخلية والتخلص من عملاء الأعداء، ورفع الروح المعنوية، والقضاء على روح الاستسلام… بين معظم الأفراد، وذلك من إنشاء قيادة عامة للقتال على هيئة أركان حرب، تنظم القتال والمتقاتلين، وترسم الخطط بإحكام". يعبر هذا الموفق الذي اتخذه عبد الكريم الخطابي الأب عن الحنكة السياسية والدربة العسكرية التي كان يتمتع بها، وهي التي يمكن من خلالها تفسير علاقته بالإسبان، فمن السهولة بمكان فتح جبهات الصراع مع الخصم، ولكن من الصعب التكهن بالنتائج، وهذا ما جعله يؤجل المواجهة، إلى حين تمكنه من معرفة العدو، وهكذا سعى أولا إلى اختراق الاسبان من الداخل كي يعرفهم، وشتان بين اختراق العدو والانحياز إليه، ولعل ما يثبت ذلك هو انتقاله من ايث ورياغر إلى الجزر الريفية المستعمرة من طرف الاسبان، وإرساله لابنه أمحمد ليتعلم الفرنسية، من اجل فهم المخططات التي يرسمها العدو، وما ينوي فعله، ليسهل كسر شوكته فيما بعد. أما فيها يخص علاقة الأمير عبد الكريم الخطابي بالألمان، التي اعتبرها أصحاب الملف كانت بهدف خدمة مصالح ألمانيا التي لم يكن لها حصة في المغرب. فلماذا لا نقلب المعادلة ونعتبر أن إقصاء ألمانيا من استعمار المغرب ورقة استغلها عبد الكريم الخطابي من اجل أن تكون داعمة له في حربه على الاسبان؟ لنقرأ ما جاء في مذكرات عبد الكريم الخطابي "لن نغسل دما بدم… إن الألمان خدعونا لن يساعدوننا في شيء، ولن يرسلوا لنا الأسلحة التي وعدونا بها. وهم فوق ذلك لن يحاربوا فرنسا في مراكش حتى لو كنا نحن وقود هذا الحرب… ولذلك فان علينا أن نعتمد على أنفسنا في تحرير وطننا المغرب"، أفلا يبرر هذا صحة ما قلناه؟ أما فيما يخص ما أثاره الملف حول استعمال مولاي موحند للغازات السامة في حربه على الاسبان، فانه يطرح أكثر من علامة استفهام، خاصة وأنه لم يمض أكثر من أسبوعين على اعتذار منسق كونفدرالية أحزاب الخضر في اسبانيا طوني روديريك عن الجرائم التي ارتكبها الجيش الاسباني في حق سكان الريف، والتي استعمل فيها الغازات السامة. وإجمالا فمحمد بن عبد الكريم الخطابي كان ولا زال وسيبقى بطلا وأسدا غضنفرا، استطاع أن يلقن العالم بأسره دروسا ومبادئ في اتيقا كتابة التاريخ، ومهما قيل فيه، فإن ذلك لن ينقص من مكانته ورمزيته. فهو سيبقى رمزا ونموذجا يحتذي به أبناء الريف والوطن، بل والإنسانية جمعاء. نعم لقد غادرنا مولاي موحند بجسده، ولكن روحه وفكره وحكمته ستضل نبراسا وسراجا منيرا لطريقتنا نحو الدفاع عن الكرامة والعدل والحرية ، بعيدا عن الشعارات الزائفة، والشعوذة اللفظية، والمفاهيم التي لا تعكس غير فراغ وخواء المضمون، والتحيز السافر للمطالب النفعوية والإيديولوجية التي لا تخدم البعد الإنساني الوطني، وتزج بالحقيقة إلى المُهرَب والمكبوت في التاريخ، وهذا البعد النفعوي والإيديولوجي هو ما يحول بالمغاربة دون التصالح مع تاريخهم وبلسمة جراح ذواتهم. تعليق