ي. منصف – ع. الزعلي محمد بن عبد الكريم الخطابي.. بطل واحدة من أعظم الثورات الشعبية في العالم الحديث. ومؤسس حرب العصابات التي تعلم منها هوشي منه وتشي غيفارا وغيرهما. وهو «بطل العصر الحاضر بين جميع الأمم لا بين المسلمين فقط» كما قال عنه الأمير شكيب أرسلان، الذي كان هو من أطلق عليه لقب «الأمير».. لكن الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي أيضا هو ابن قاضي وزعيم قبيلة كانت تحت إمرة المخزن الشريف، فتحول ولاؤها بدخول الاستعمار الإسباني إلى منطقة الريف، إلى أصحاب السلطة والنفوذ الجدد. هذه البيئة التي ترعرع فيها مولاي موحند، وورثها قبل أن يقرر الثورة عليها، في ظروف تضاربت حولها الأقوال والتحاليل، هي التي نسلط عليها الضوء في هذا الملف الخاص. أن يكون محمد بن عبد الكريم الخطابي، أكثر شخصية مغربية أثارت المؤرخين في مشارق الأرض ومغاربها، فإن جزءا ليس بالهين من بحث هؤلاء المؤرخين لم يكن ليقف عند الجوانب الثورية الجهادية المشرقة لبطل حرب الريف، بل هناك وثائق استنطقها هؤلاء المؤرخون رصدت كيف كان والد الخطابي ضد ثورة الشريف أمزيان، وكيف أنه هنأ الإسبانيين على «عثورهم» على مقاومهم المزعج، أمزيان، وكيف كان مولاي موحند وهو في مليلية يصف الشريف أمزيان في جريدة «تلغراف الريف» الإسبانية ب»بوحمارة الصغير» ويقول إنه ورث «شيطنة» بوحمارة. وكيف أن والده عبد الكريم الخطابي طلب مرارا الحصول على الجنسية الإسبانية.. وكيف أثار ذلك أبناء قبيلته فهاجموا منزله وأحرقوه ثلاث مرات.. الوثائق التي تبسطها «المساء»أمام قرائها تعبر عن نوع من التأريخ الذي يطمح لأن يكون علميا-موضوعيا، دونما تحمس إيديولوجي للأمير محمد بنعبد الكريم الخطابي، ودون تحامل عليه. لقد مر الأمير الخطابي بثلاث مراحل: الأولى أنه كان متعاونا، رفقة أبيه وأخيه، مع الإسبان، وهذه المرحلة تمتد منذ بداية وعيه السياسي وإلى حدود سنة 1917. وهي المرحلة وصف فيها المؤرخ «ألبير عياش» الخطابي بالعميل ثم المرحلة الثانية التي أصبح فيها الخطابي مهادنا للإدارة الإسبانية، وتنسحب على الفترة ما بين 1918 و1921. وصولا إلى المرحلة الثورية التي أعلن فيها الخطابي الجهاد على المستعمر الإسباني والتي ابتدأت من 1921 وانتهت باستسلامه في 1926. هل يمكن أن نعتبر أن محمد بن عبد الكريم الخطابي اصطدم خلال إقامته بمليلية بحقيقة أن الدولة التي تعاقدت مع السلطان مولاي عبد الحفيظ على حماية المغرب الأقصى قد تحولت إلى استعمار غاشم ظالم، مما أدخله في مرحلة تأمل انتهت باقتناعه بأن الاستعمار لا يمكن مواجهته إلا بالنار؟ هذا هو الوارد إذا عملنا بمنطق «الأمور بخواتمها». لكن الصحافي، يلتقي مع المؤرخ في البحث عن التفاصيل لا عن الخلاصات. في ورقة بحثية بعنوان « عبد الكريم الخطابي، بطل لمن؟ أعدها الباحث البريطاني «بروس مادي» ونشرها مركز «تيل أبيب» يشير الكاتب إلى أن الحديث عن الخطابي ووصفه في الكتابات يظل محط خلاف بين الكتاب، حسب توجهاتهم السياسية، تماما كما كان الغموض يلف مواقفه وولاءه قيد حياته، وهو ما تحدث عنه كاتب أسترالي بالقول إنه عندما قبض الإسبان عليه توجه أحد قضاتهم إليه بالقول «أجد أنه من المستحيل أن أعرف لمن هو ولاء شخص مثلك». في كتابه « دولة بحكومة وعلم، الحرب الريفية في المغرب» يسهب الكاتب الأسترالي «ريتشارد بينيل» في الحديث عن محمد بن عبد الكريم الخطابي الكاتب الصحفي الذي داوم على كتابة مقال أسبوعي لصحيفة «تيلغراما ديل ريف»، ويورد الكاتب الأسترالي الحاصل على الدكتورة في التاريخ الإسلامي وكتب كثيرا في تاريخ المغرب، يورد أن المقالات التي كان الخطابي يكتبها أسبوعيا، لا تخفي الوقوف الصريح للخطابي إلى جانب المصالح الإسبانية ودفاعه عنها، إذ كان يدعو المغاربة إلى التعاون مع إسبانيا في شمال المغرب. بدوره يلقي عبد الكريم الفيلالي في الجزء الثامن من «التاريخ السياسي للمغرب العربي الكبير» الضوء على تعاون عبد الكريم الخطابي مع الإسبان ودفاعه عن مصالحهم، مشيرا إلى أنه عند اندلاع ثورة الشريف محمد أمزيان والتي استمرت لأكثر من أربع سنوات، كان محمد بن عبد الكريم خصما ومعارضا شرسا لها منذ اندلاعها، وهو ما تفسره مقالاته الأسبوعية التي كان ينتقدها فيها، وينتقد ثورته في صحيفة «»تيلغراما ديل ريف»، وكان يكتب ضد الثورة التي تقوض مصالح الإسبان في المنطقة. واشتهر الخطابي في دوائر القرار في إسبانيا بأنه من المغاربة الحلفاء للوجود الإسباني، ومدافعا عن مصالح الإسبان بكتاباته في أوساط المغاربة ضد ثورة الشريف أمزيان. وينقل الفيلالي أن الكاتب «جرمان عياش» بدوره أكد من خلال اعتماده على وثائق من أرشيفات فحصها في كل من مدريد، وباريس والرباط، وجنيف، ولندن، أن الخطابي كان في تلك الفترة يعمل لصالح الإسبان سياسيا واقتصاديا، قصد تمكينهم من استغلال المعادن بواسطة رجل أعمال يدعى ايشيفاريتا الذي حل محل الألمان من أجل استغلال معادن الحديد، ولم يكن يخفي ذلك، بل كان معروفا عنه تعاونه مع الإسبان ودفاعه عن مصالحهم. إدارة الألمان لثورة الخطابي علاقة محمد بن عبد الكريم الخطابي بالألمان لإدارة ثورته لم تشر إليها فقط مصادر مغربية ، بل إن الأرشيفات الأوربية تعج بوثائق تشير إلى أن ألمانيا كانت تعتبر أن ثورة الخطابي ضد الإسبان وحروبه ضد الفرنسيين هي حرب لها انتقاما من إقصائها من موطئ قدم في المغرب بصفة عامة وفي منطقة الريف بصفة خاصة، ويحظى حضور الألمان في ثورة الخطابي بجزء مهم من كتاب الكاتب الأسترالي ريتشارد بينيل: « دولة بحكومة وعلم، الحرب الريفية في المغرب»، إذ يتناول الكاتب علاقة الألمان بثورة الخطابي وحضورهم فيها وأسباب هذا الحضور مند البدايات. يشير ريتشارد بينيل إلى أنه في سنة 1916، قرر عبد الكريم الخطابي (الأب) التوقف عن التعاون مع الألمان بشكل نهائي، غير أن الابن محمد، كان له رأي يخالف رأي أبيه، فقد قرر أن يبقى على تعاطفه الكبير مع ما ترمي إليه ألمانيا في المنطقة، ورغبتها في استغلال منجم الحديد، كما أبقى على تعاونه معهم على خلاف أبيه، بل يقول الكاتب إن الخطابي الابن قوى علاقته بالألمان، عبر ربط علاقات مع بعض كبارهم النافذين في مراتب القرار في ألمانيا، وهو ما لم يتوفر لوالده الفقيه عبد الكريم الخطابي، الذي اقتصر تواصله على مبعوثي الإدارة الألمانية إلى المنطقة. ويشير عبد الكريم الفيلالي في «التاريخ السياسي للمغرب العربي الكبير» أن محمد ابن عبد الكريم الخطابي عندما غادر مدينة مليليلة بصفة نهائية كان حسابه البنكي يحتوي على أموال كثيرة، وصلت إلى أكثر من 17 ألف ريال، مضيفا أنه مبلغ يعد كبيرا جدا في سنة 1919. لقد تطورت العلاقة مع الألمان بشكل كبير جدا، إلى درجة أن ألمانيا أرسلت معدات متطورة لمحمد بن عبد الكريم الخطابي لإسقاط الطائرات الفرنسية، بعد نشوب حرب الريف. الشيء الذي يؤكده المؤرخ الفيلالي، عندما يتحدث عن تحكم الأمان في ثورة الريف، هو أن الزعيم الريفي محمد بن عبد الكريم الخطابي عند إعلان جمهوريته وإقرار دستورها، لم يكن يعرف حتى ما هو معنى دستور، أو ما هو معنى جمهورية، مشيرا إلى أن الرجل كان يتصرف بناء على جهات من ورائه، هذه الجهات تتفق الكثير من المصادر، حسب الفيلالي دائما، على أنها ألمانية، قدمت إلى المغرب بحثا عن مصالح اقتصادية، ولمنافسة فرنسا وإسبانيا، لذلك ساعدت محمد بن عبد الكريم الخطابي بحثا عن موطئ قدم في الريف لاستغلال معدن الحديد، وهي الرواية ذاتها التي يؤكدها الأسترالي ريتشارد بينيل في كتابه « دولة بحكومة وعلم، الحرب الريفية في المغرب». وينقل عبد الكريم الفيلالي أن محمد بن عبد الكريم الخطابي بدأ اتصاله بالألمان عندما كان موظفا بمدينة مليلية، اتصالا بدأ بسيطا ليتطور بفضل وسطاء أتراك إلى تعاون تام من أجل مصالح ألمانيا في منطقة الريف. ويشير الفيلالي إلى أن مهمة محمد بن عبد الكريم الخطابي كانت تقتصر في الأول على أن يستلم الأموال من الألمان ويوصلها إلى عبد الملك محي الدين الجزائري، ابن عضو مجلس الشيوخ العثماني الفريق محي الدين باشا، الذي كان من أشد المروجين والمدافعين عن مصالح ألمانيا في المنطقة. ويورد الفيلالي، نقلا عن كتاب «أسد الريف» لمحمد محمد عمر بلقاضي، أنه في سنة 1916، عرفت مجهودات الزعيم الريفي ورفيقه الجزائري نتائج جيدة، إذ أنهما كانا يدعوان إلى محاربة فرنسا، محملين بالمال الألماني الكثير، الذي كانا ينفقانه بسخاء، خاصة في قبيلة اكزناية بالريف رفقة شخص ألماني يدعى «هامان»، بحيث استطاعا بفضل الأموال المتوفرة أن يخلقا بلبلة في المنطقة ويتمكنا، في مدة وجيزة، من أن ينضم إلى صفوفهما عدد كبير من رجال القبائل الأمازيغية، التي كانت حينها غير خاضعة لفرنسا ولا إسبانيا. التسيير والتنظيم ألماني يتفق كل من عبد الكريم الفيلالي في الجزء الثامن من «التاريخ السياسي للمغرب العربي الكبير» و الأسترالي»ريتشارد بينيل» في « دولة بحكومة وعلم، الحرب الريفية في المغرب» على أن ثورة محمد ابن عبد الكريم الخطابي عرفت تنظيما كبيرا، ومعدات حربية متطورة في الفترة التي اندلعت فيها الثورة الريفية، فلم يكن الأمر يقتصر على حرب تقليدية كما يتصور البعض، بل كانت حربا متطورة، استعملت فيها معدات متطورة ليس فقط من جانب الإسبان أو الفرنسيين، بل أيضا من ثوار محمد ابن عبد الكريم الخطابي رغم بساطة ومحدودية مواردهم المالية، إذ توفرت للأمير الخطابي السيارات، وبعض الدبابات، ويضيف الكاتب الأسترالي بأن محمد بن عبد الكريم الخطابي حصل على طائرات، جلبت خصيصا من ألمانيا وقدمت للخطابي، لكنها بقيت معطلة بعدما تعذر وجود وقود لتشغيلها. ويورد الكاتب الأسترالي أن الألمان زودوا الخطابي بتجهيزات عسكرية وأجهزة اتصالات لم تتوفر حتى للفرنسيين، ويكشف أن الثوار كانوا يتوفرون على هواتف من صنع ألماني تمكنهم من ربط الاتصال فيما بينهم، لدرجة أن تحركات الفرنسيين، خلال مواجهتهم المتأخرة معهم، كانت تصل بالتفصيل إلى محمد بن عبد الكريم الخطابي، بل إنه أحيانا كان يتوصل بما تخطط له القوات الفرنسية لمواجهة «المجاهدين» بالتفاصيل. أموال «الإخوان ماسمان» «إخوان» ما سمان» أو شركة ما سمان، كان وراءها ألماني يدعى «كليمس»، وكان يعرف في أوساط المغاربة في المنطقة الريفية باسم «الحاج أليمان» ألقي عليه القبض من طرف فرنسا، يوم 30 من ماي من سنة 1926، بعد أربعة أيام على استسلام عبد الكريم الخطابي يوم 26 ماي من السنة نفسها. وقد عملت الشركة على تكوين دولة تشمل منطقة المعدن ب»ازغنغن»، عندما توصلت عبر خبرائها إلى أن استمرار استغلالها للمعدن دون سلطة سياسية متعاطفة معها يعد أمرا مستحيلا، خصوصا بعد صدور قرار للحكومة المغربية يمنع الشركة من استغلال المعدن سنة 1914. الشركة التي كانت تهتم بمنجم الحديد في منطقة الريف، قدمت الكثير من أجل نيل ثقة أهل الريف وزعمائهم، وقبل وخلال الثورة، جهزوا كل المنطقة التي أصبحت تحت نفوذ محمد بن عبد الكريم الخطابي بشبكة من خطوط الاتصال الهاتفي المتطور، والربط الهاتفي التي تكشف كتابات غربية أنه لم تكن تتوفر عليها كل المناطق الممتدة من تونس إلى الجزائر. في كتابه « دولة بحكومة وعلم، الحرب الريفية في المغرب» يشير الأسترالي ريتشارد بينيل إلى المساعدات المالية المهمة التي كان الزعيم الريفي يتلقاها من الألمان، مضيفا أنه إذا تم توثيق الكثير من الحالات التي ضبط فيها المال الألماني في طريقه إلى الخطابي، فالأكيد أن عشرات الحالات تمت بنجاح، ويورد الكاتب أمثلة متعددة للتمويل الأماني للثورة من أجل استغلال معدن الحديد في المنطقة، ففي سنة 1916، مثلا، يكشف الكاتب، قامت السلطات الإسبانية بحجز أكثر من 800 ألف بسيطة إسبانية كانت موجهة لمحمد ابن عبد الكريم الخطابي، ومن الأمثلة الأخرى أنه في مارس من السنة نفسها حجزت السلطات الإسبانية أكثر من 11 ألف بسيطة كانت في طريقها إلى الزعيم الريفي، ويشير الكاتب نفسه إلى أنه ثم حجز أكثر من 18 ألف بسيطة فيما بعد، كانت موجهة بدورها إلى الخطابي وقادمة من مصادر ألمانية، كما حجزت السلطات الإسبانية، التي كانت تخضع لها المنطقة عدة ساعات ذهبية كان ثمنها يقدر بآلاف «البسيطات» الإسبانية كانت موجهة للثوار، وهذا ما تمكن الإسبان من حجزه، في الوقت الذي كانت مبالغ مهمة من الأموال الألمانية تغدق على ثوار الخطابي. ويكشف الكاتب الأسترالي أن الأمان لم يكونوا يلجؤون إلى السرية في عملهم لأنهم كانوا على اقتناع بأن الخطابي راغب في التعاون معهم، لذلك كانت أموالهم وأجهزتهم ومعداتهم العسكرية تصله بشكل علني، ومقابل ذلك، يورد الكاتب، كان محمد ابن عبد الكريم الخطابي يفسح الطريق أمام الاحتكار الألماني لمعدن الحديد في المنطقة، ومهد لشركة «ماسمان» الألمانية البحت عن المعادن في الريف. هذا الأسلوب الذي سلكه الإخوان «ماسمان» مع الخطابي، كان نفسه الذي لجئوا إليه في ليبيا/ حين أطروا المجاهدين الليبيين وأمدوهم بالعتاد من أجل محاربة سلطات الاستعمار الإيطالية، مقابل استفادتهم من استغلال المعادن في ليبيا. ويكشف الفيلالي أن «جمهورية الريف» لم تكن تتجاوز ميلا أو ميلين، رفع عليها محمد ابن عبد الكريم الخطابي علما، وكان من ورائها شركة «ماسمان» الألمانية، حتى تضفي المشروعية على وجودها واستغلالها لمنجم الحديد. المرابط: الألمان عرضوا على الخطابي أن يكون زعيما على شمال إفريقيا لكنه رفض السكرتير الخاص للخطابي ل«المساء»: مدشر الأمير لم يكن يخلو من عملاء للإسبان - هناك روايات تاريخية تقدم صورة مغايرة عن محمد بنعبد الكريم الخطابي، تصل إلى حد اتهامه بالعمالة لدول استعمارية، خاصة في الفترة التي سبقت حرب الريف؟ أمر طبيعي أن يشتغل الخطابي مع الإسبان في مليلية، وقد شغل عددا من المهام، إذ كان معلما وصحافيا وقاضيا، ثم قاضيا للقضاة في محكمة الأمور الوطنية، وخلال مقامه في المدينة كانت له صداقات كثيرة مع إسبانيين، ومعروف عنه أنه كان يناقش معهم عددا من الأمور، لكن هذا لا يعني بالمرة أنه كان عميلا، لأنه لم تكن غايته من الإقامة بمليلية هي تحصيل ثروة مالية أو التقرب للإسبانيين، بل إن مقامه هناك كان من أجل دراسة الحالة العامة للاستعمار، وكذا طموح الإسبان وأهدافهم، والدليل على ذلك أنه اعتقل بتهمة الخيانة والتعامل مع الألمان. على العكس فقد كان الخطابي يناصر الدولة العثمانية التي دخلت الحرب العالمية الأولى، باعتبارها دولة مسلمة، وبطبيعة الحال حين تمت محاكمته اقتنع كما هو شأن والده الفقيه عبد الكريم، الذي كان بدوره متهما بتعامله مع الإسبان، ما كلفه حرق منزله مرتين، (اقتنعا) بأن إسبانيا مثل غيرها من الدول الاستعمارية ولهذا تجب محاربتها. ولهذا استدعى الفقيه عبد الكريم ابنيه محمد وامحمد الذي كان يدرس الهندسة المعدنية بمدريد وهو على فراش الموت وخيرهما بين مقاومة الإسبان أو الهجرة خارج الوطن. لا ننسى أيضا أن إسبانيا حاولت التقرب من محمد بنعبد الكريم الخطابي حين أطلقت سراحه من السجن وعرضت عليه منصب الحاكم العام للريف، لكنه رفض مفضلا الثورة وتحرير الريف، وهذا دليل على أنه لم يلتفت إلى كل ما تركه وراءه من مغريات كثيرة عرضت عليه. - ألا تعتقد أن هذا التحول في مسار الخطابي كان نتيجة اقتناعه متأخرا بأنه لم يكن سوى أداة تحركها أطماع ألمانيا على وجه الخصوص؟ لو كان الأمر صحيحا لما عمدت ألمانيا إلى تزويد إسبانيا بالغازات التي قصفت بها الريف، حتى إنها لم تستثن الأسواق والنساء والأطفال، ولو كانت لدى الخطابي ارتباطات بألمانيا لكان نجح في حربه ضد الإسبان، لكن الحقيقة أنه حين بدأ حرب الريف كان الجميع يقف ضده ويرغب في نهايته السريعة، وحتى الفقهاء والزوايا والشيوخ والمخزن، وإلى الآن ما زالت أطراف كثيرة تردد فكرة أن بن عبد الكريم لا يملك الشرعية. وعلى العموم لا ننفي أن الخطابي ارتكب أخطاء وهذه طبيعة بشرية، والتاريخ كفيل بتوضيحها لكن أن نرميه بتهمة العمالة وخيانة مبادئه وقضية الريف، فهذا أمر غير مقبول ولا يستسيغه عقل. والحديث عن علاقاته بالإسبان أو الألمان في بعض مراحل حياته استغل للتنقيص من قيمة حرب التحرير التي قادها ولا يعدو أن يكون محاولة لتشويه الصورة. - ماذا عن علاقته بالإخوة الألمان مانسمان ومحاولات ألمانيا الوصول إلى مناجم الحديد بالريف؟ سأحكي لك قصة لأؤكد أن كل ما كتب عن علاقة مفترضة بين الخطابي وبين ألمانيا هي مجرد مبالغات من طرف بعض المؤرخين، وهي قصة وقعت في جزيرة «لاريونيون» خلال الحرب العالمية الثانية، وحين تمكنت القوات النازية من دخول باريس وأسست حكومة فيشي، انتقل عدد من الضباط الألمان للقاء الأمير بشكل سري عبر غواصة وعرضوا عليه دعمه ليكون زعيما على شمال إفريقيا بعد اندحار القوات الفرنسية، وهو الطلب الذي رفضه وتكرر في زيارة أخرى، لكن الأمير أجابهم « الاستعمار هو الذي أخرجني من وطني، ولا يمكن أن أقبل أن أعيد استعمارا آخر على ظهري». لقد كانت مواقف الأمير وتصريحاته، وأيضا أسلوب عيشه تدل على أنه كان يكره الاستعمار، على خلاف زعماء حاليين يرتبطون أشد الارتباط بالأجنبي ويمنحونه كل شيء. - هناك من يتهم الأمير بأنه قاد الريف إلى الهلاك، ولم يستفد شيئا من ثورته، بدليل أن آلاف أبناء المنطقة سارعوا ابتداء من 1936 إلى التجنيد في جيش كان بالأمس القريب يقتلهم بالغازات السامة؟ هذه فكرة كتبت وتبناها الكثيرون، وتحاول أن تقنع الأجيال اللاحقة بأن إسبانيا كانت تحمل مشروعا لتطوير الريف والشمال بشكل عام، وكانت لديها مشاريع لشق الطرق وتعميم التعليم، وهي الإصلاحات التي وقف الأمير في وجهها بسبب ثورة 1921، وكان سببا في حرمان المنطقة من رسالة حضارية.. طيب ماذا حدث بعدما انهزم الأمير وتغلب عليه المستعمر؟ وأين ما كان يعد به المستعمر في شمال المملكة؟ للأسف لا شيء مما كان يروج له تم تنفيذه، والريف بقي على حالته السيئة وعانى على العديد من الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والبنيوية. - هذا يدفعنا إلى قلب الصورة، ماذا كان سيحدث لو انتصر الأمير، ألم تكن لتظهر حينها نزعته الشخصية ورغبته في توسيع مناطق حكمه ونفوذه لتشمل باقي مناطق المملكة؟ لو كان قدر للأمير الفوز في حربه ضد المستعمر لكانت الأمور تغيرت بطبيعة الحال، والأمير لم يكن يحمل البندقية فقط، بل كان يحمل معه فكرا ومشروعا مجتمعيا، وأثناء الحرب كان يقود عددا من الإصلاحات، وفكر في إرسال بعثات إلى الخارج خاصة تركيا ومصر وألمانيا.. أما فكرة أنه كان يطمع في توسيع ثورته لتشمل باقي أنحاء المملكة، فهي أيضا فكرة روج لها في بعض الفترات، ويمكن أن أؤكد- وأنا الذي ارتبطت بالأمير مدة طويلة- أنه كان يرغب في تحرير بلاده من الاستعمار فقط، وكان يريد لمن يحكم البلاد أن يحكمها وفق المبادئ الديمقراطية ومبادئ الشورى التي كان ينادي بها، وأن يكون مصدر الحكم هو الشعب، وليس حكما فرديا بغض النظر عن طبيعة الحكم. على العموم ولتلخيص الأمر، ليس هناك وجه آخر للأمير المجاهد محمد بنعبد الكريم الخطابي، وليست هناك جوانب خفية أو غامضة في مساره، وهو كشخص تربى على الصراحة والوضوح، ولا يمكن تلطيخ صورته فقط لأنه عاش في مليلية واشتغل فيها، ولو كان عميلا لأي قوة أجنبية استعمارية فربما كان سلك مسارا مختلفا عن المسار الذي اختاره لنفسه، وأنتم تعرفون أن العملاء سرعان ما يفتضح أمرهم كما حصل مع محي الدين الجزائري أو بقيش أو بلبوح وعمار حميدو.. وحتى في مدشر الأمير كان هناك عملاء كثيرون للإسبان. ثم حين نال المغرب استقلاله بصورة شكلية رفض بن عبد الكريم أن يعود، لأنه كان مقتنعا بأن بلاده مازالت تئن تحت وطأة الاستعمار الفرنسي. آل الخطابي.. سيرة عائلة اختارت الانحياز لإسبانيا حفظا لمصالحها «في 6 نونبر 1911، أي بعد يومين من إبرام اتفاق جديد بين فرنسا وإسبانيا حول ترسيم الحدود بين البلدين المحتلين على مستوى ورغة، أقدم «العامة» على إحراق بيت القاضي عبد الكريم وقتل بعض أقاربه، فاضطر للجوء إلى النكور ثم إلى تطوانالمحتلة من طرف إسبانيا، ومع أنه لم يعد يتوفر سوى على المعاش الإسباني فإن ذلك لم يمنعه حسب الإسبان- من تدبير بعض الدسائس مع الشركات الفرنسية والإخوة مانسمان، وصار ابنه امحمد يتعلم الفرنسية بالرابطة الإسرائيلية».. سيكون من الصعب فهم مسار قائد ثورة الريف محمد بن عبد الكريم بمعزل عن مسار عائلته، آل الخطابي، وبشكل خاص والده القاضي الذي ربط علاقات قوية مع إسبانيا التي كانت توفر له الحماية والمال في مملكة تتقاسمها الأطماع.. تقول زكية داوود، صاحبة كتاب «عبد الكريم ملحمة الذهب والدم» في وصفها لانحياز الأب القاضي عبد الكريم مبكرا لإسبانيا بحثا عن حفظ سلطة العائلة وحماية لمصالحها: «أفرط القاضي في النظر بعيدا، وهو ما يعتبر في الغالب عيبا من الناحية السياسية، وفي سنة 1907، قام بجمع مجلس العائلة. كان المغرب إزاء أوربا بمثابة طائر مهيض الجناح، يزحف على الأرض والصقر ينقض عليه من السماء. كانت الأوقات عصيبة جدا، والفوضى عارمة، بحيث بات من الأفضل لصون النفس، الدخول تحت حماية الأجنبي الذي صارت هيمنته محتومة. لذلك قال لأبنائه: «اعتقد أن علينا اختيار ما يحفظ مستقبل عائلتنا، لقد درست المعاهدات واستبان لي الدور الذي أنيط بإسبانيا، إنها قوة صغيرة ستكون بحاجة إلينا لتحكم وتقوم بالإصلاحات المفروضة عليها، ويمكننا من جانبنا إفادتها من موقعنا الاستراتيجي ومهارتنا. لهذا قررت أن تذهب أنت يا محمد إلى مليلية لتعمل بها، وأن تشرع يا امحمد يا ثاني أبنائي في تعلم الإسبانية».. تشير الكاتبة في الفصل الثاني من كتابها «الحوادث المزعجة للقاضي عبد الكريم»: «حاصر الشريف أمزيان مليلية وشن معركة في جبل كَوروكَو منيت فيها إسبانيا بخسائر فادحة (..) وأثناء ذلك لم يساور القاضي عبد الكريم المقيم في قبيلته أي تردد: فأمزيان في رأيه ألقى بنفسه إلى التهلكة. ونظير خدماته التي بدأت تثير حفائظ قومه من بني ورياغل، منح الإسبان القاضي معاشا شهريا قدره 300 بسيطة، كما وشحوه بوسام إيزابيلا الكاثوليكية من درجة فارس، والصليب الأحمر للاستحقاق العسكري، ثم الصليب الأبيض وميدالية إفريقيا. كان وضعه حرجا: ألم يرهن ولديه في مليلية، ألم يكن إلى جانب الريسوني، الريفي الذي يعتمد عليه الإسبان أكثر؟ ألم يقدم على هذا الاختيار بوعي مبتغيا فيه خير أسرته وتقدم الريف وتنميته؟ فكيف لأمزيان و»عامته» أن يعكروا صفوه (..) وحيث إن اختياره كان ثمرة تفكير طويل بات القاضي واثقا من أنه على حق، حتى أنه أقدم في 1910 على طلب الجنسية الإسبانية».. في ريف أفقره الجفاف، تقول داوود: «كان الناس يبيعون أنفسهم لقاء كيس من الشعير.. وبينما ضجت القبائل في الغرب بالابتزازات وأعمال النهب فثارت ضد الريسوني، أقدمت في الشرق في دجنبر 1917 على إتلاف وتخريب ممتلكات القاضي مرة أخرى، وعند استسلام ألمانيا، خشي عن حق، وعن علم بسوابق مماثلة، أن تنتقم منه فرنسا، واستغل مناسبة أحد الأعياد الدينية، فأعاد ولديه إلى أجدير في يونيو 1918.. (..) التأم شمل الأسرة أخيرا، وأملى القاضي على امحمد نص رسالة موجهة إلى الإسبان: «لقد اختارت عائلتنا بترو الوقوف إلى جانب إسبانيا، احتراما منا لمعاهدة الجزيرة الخضراء، ويقينا من الاحتلال الحتمي للريف، وذلك على حرص العائلة على اختيار حلفائها بنفسها، ولو كنتم مدركين لمهمتكم لهدأتم الريف ونميتموه، ولكانت الحفارات تعمل به حاليا، لذلك نطوي الصفحة من الآن». هنا تيقن القاضي عبد الكريم الأب بأنه خسر كثيرا من فرصه، فلا هو استفاد من إسبانيا، ولا حفظ ماء وجهه مع قبائل الريف، فكان لزاما -تشير الكاتبة- إلى طي الصفحة، بل إن اقتناعه هذا هو الذي سيقوده إلى تزعم حركة ضد إسبانيا ابتداء من يونيو 1920، وشكلت لاحقا بداية للثورة التي سيقودها عبد الكريم الابن ابتداء من سنة 1921.. تقول: «لقد فعلت الخيبة والملل فعلهما، وعائلة عبد الكريم هي التي قررت من تلقاء نفسها التعاون مع الإسبان لدواع خاصة بها، وبناء على تحليلها للأوضاع الداخلية والخارجية (..) وها قد تحول هذا الاختيار إلى فخ جهنمي، وفقدت العائلة كل ما كانت تحظى به من محبة لدى القبائل، والأدهى من ذلك باتت تحس شأن الريسوني في الغرب بتصاعد نذر النقمة، ناهيك عن أن الألمان وبالتالي الأتراك خسروا الحرب وقامت إسبانيا بتسليم فرنسا ستين ريفيا فوقع في نفس القاضي أنه صار عرضة لانتقام القوى الكبرى».. بن عبد الكريم الخطابي يستعمل أسلحة كيماوية في حربه مع الاسبان يغفل المؤرخون والباحثون في حرب الريف أمر استخدام موحند بن الكريم الخطابي لأسلحة سامة محظورة دوليا. فبمناسبة القصف الجوي الإسباني للقبائل الريفية بالقنابل الكيماوية، كان العديد منها يظل عالقا على التلال الرملية دون انفجار أو بسبب أعطاب ألمت بصاعقها. وهكذا كان المقاتلون الريفيون تحت إمرة الأمير الخطابي ينقلونها إلى أوراش خاصة لتفكيكها وإعادة تصنيع قذائف صغيرة من المواد المسمومة نفسها التي كانت تحتويها. يروي أحد الشهود في مذكراته وهو الذي أوحى بصنع تلك الأسلحة النوعية، سبق وأن خدم في قوات الخطابي، وكان رئيسا للمستودع العام لجمع الذخائر والأسلحة، وهو محمد محمد عمر بلقاضي، رئيس المستودع العام لجمع الدخائر والأسلحة في حكومة الخطابي، قائلا : «كنا بمحكمة «بوهم» التي يرأسها كاتب هذا التاريخ، وكنت أتذاكر مع المعلم التمسماني ألقيت عليه السؤال التالي : -هل تستطيع أن تحل كورة المدفع من عيار 75 من الصنع الفرنسي وتضع فيها شيئا من المادة المسمومة التي نتحدث عنها؟» (أسد الريف، ص : 193)، فقد سبق وأن كان المعلم المذكور بارعا في تفكيك القنابل ذات الحجم الكبير وإعادة تدويرها، واستغلال المواد المتفجرة التي بداخلها، فأجاب هذا الأخير عمر بلقاضي بقدرته على تصنيع القذيفة المدفعية المحشوة بالمواد السامة وقذف العدو بها، دونما أي ضرر يلحق ب»الطبجي» وهو المكلف بقذف «كورة» المدفعية… كما واصل بلقاضي استفسار التمسماني عن تأثير تلك القذائف «المطورة محليا» على النبات والحيوان، ليجيبه بأن لها مفعول مماثل أو أشد..، وهكذا تم إشعار موحند الخطابي ب»الاختراع الجديد» هاتفيا الذي انشرح لسماع النبأ، ليعطي أمره الفوري بتصنيع واحدة منها بقصد التجريب وتزويد المعلم بالمواد الضرورية لهذا الغرض، وبعد العودة إلى معمل «إعكيا» ببني بوعياش، الذي كان عبارة عن ورشة تسليح، قام التمسماني بتصنيع أول قذيفة كيماوية من عيار 75 ملم في ذات الليلة. عندها قام بلقاضي بإخطار الأمير الذي قدم شخصيا إلى محل الورشة في صباح اليوم الموالي، فأمر بإطلاقها على هدف بمنطقة غير مأهولة، وبعد قذفها ذهب الأمير لمعاينة آثار السلاح الجديد، فانبهر لكون النباتات والأشجار الكائنة في محيط الانفجار قد يبست واضمحلت بالرغم من بعدها عن دائرة انفجار القذيفة. وعلى الفور أمر الأمير الخطابي المعلم التمسماني بتصنيع أكبر عدد منها، وبعد عشرة أيام تمكن المعلم من صنع أزيد من مائة قذيفة. بعد ذلك، أمر الأمير الخطابي قائد المدفعية وهو السي حمادي علي الأجديري الذي كان ملقبا ب»غيايا» بأن يقصف بهذه القذائف أحد المراكز العسكرية الإسبانية وهو مركز «إشفرافا»، وبعد تنفيذ أمر القصف فوجئ المقاتلون الريفيون بمقتل جل من كان بداخل المركز من جنود، والذين بقوا على قيد الحياة كانوا قد فقدوا بصرهم، كذلك الأمر بالنسبة للحيوانات، كالخيل والبغال التي نفقت جراء القذائف الكيماوية. كما يضيف صاحب المذكرات معطى مثيرا متحدثا: «وكان المجاهدون يتسربون ليلا ويضعونها-المواد السامة- في الآبار التي يسقي منها العدو، أو الخضر والفواكه التي ينتجها العدو لصالح الجيش، وغير ذلك ممن يرون فيه إلحاق الضرر بمصالح الأعداء..»، لقد ساهمت قوات الخطابي دون شك –بحسب الرواية- في تلويث الفرشة المائية وتراب المنطقة بتلك المواد الكيماوية المستخرجة من قذائف القصف الجوي، ولم يكن يخطر ببالهم –آنذاك- أن تلك المواد السامة يلزمها مئات السنين كي تتحلل داخل الطبيعة… دعم الفقيه عبد الكريم الخطابي للمخزن العزيزي في اخماد ثورة «بوحمارة» في إطار طموحاته لتوحيد ولاءات القبائل الريفية لصالحه، عمل الجيلالي الزرهوني المعروف ب»بوحمارة» على اكتساب ولاء قبيلة بني ورياغل، على اعتبار أنها كانت تشكل إحدى ركائز العصبية القبلية بالمنطقة. وكانت هذه القبيلة تراوغه منذ بدء هجومه على سلوان واحتلال قصبتها تحت شعار «لا طاعة ولا عصيان»، بالرغم من استقدامه لسلوان مجموعة أعيان من القبيلة نفسها وأمدهم ب»ظهائر» تعيين، مثل القائد «موش» على ربع بني بوعياش، وعلوش الحاج حدو الموسى وعماري على ربع أيت علي، وبوكار الحاج محمد أشن الأجديري على ربع أيت يوسف وعلي، وسيدي أعمار من أولاد سيدي امحمد أوموسى على ربع المرابطين، وعمر بوتقابوت على ربع أيت عروص، والسيد امحمد بن السيد عمر على ربع بني حذيفة، وعمر بن طاهير على ربع بني عبد الله. في أوائل سنة 1909، وهي الظرفية الذي أحس فيها «بوحمارة» بالعظمة والاطمئنان بعد بسط سيطرته على قبائل الريف، صار يفكر في الهجوم على فاس واتخاذها عاصمة له، قبل أن ينبري له رجلان من خريجي القرويين وهما الفقيهان عبد الكريم الخطابي ومحمد بن حدو العزوزي من دوار زاوية سيدي عيسى بن عبد الكريم، اللذين يتحدران من قبيلة بني ورياغل. قام الفقيهان ببث الدعاية بين الناس بحقيقة نسب «بوحمارة» وأنه ليس ابنا للسلطان المولى الحسن كما كان يدعي، وكانوا يطلعون الناس في الأسواق وأماكن التجمع على اسمه الحقيقي «الجيلالي الزرهوني» وأن مسقط رأسه هو قرية أولاد يوسف بجبل زرهون، وأن الاستعمار هو الذي يمده بالمال والأسلحة لإضعاف المخزن واختراقه اقتصاديا وعسكريا. كما بعث الفقيهان نفسهما مراسلات عديدة بهذا الشأن إلى أعيان القبائل المجاورة، محرضينهم على مواجهة أعوان «بوحمارة» الذين كانوا محط انزعاج وتذمر من الأهالي، بحكم سطوتهم وتجبرهم عليهم، وهم الذين كانوا يتحركون في مجموعات تفوق العشرة فرسان مختارين بقاماتهم وجثثهم الضخمة، وحدث أن أثاروا الرعب في أحد أسواق اثنين بوعياش ليستهزئوا بالأهالي…فكان مصيرهم هجوم جماعي لأهل السوق عليهم وضربهم وتجريدهم من أسلحتهم، قبل أن يقتادوهم إلى القائد «موش» الذي ولاه «بوحمارة' على ربع بوعياش. لقد كان لواقعة «تأديب» أعوان الثائر «بوحمارة، من طرف بني ورياغل أثر الصدمة على سيدهم الذي سارع إلى «إصلاح ذات البين» وترضية أنفة القبيلة، حينما أرسل المسمى ابن شلال من قبيلة «قليعة» لإقرار الصلح وتسامح أهالي القبيلة والأعوان العشرين الذين كانوا مصدر المشاكل…وتم تحميلهم المسؤولية عما وقع. بالرغم من سياسة المهادنة التي نهجها «بوحمارة» عند تعاطيه مع قبيلة بني ورياغل، إلا أن الفقيه عبد الكريم الخطابي تابع حملته لفضح حقيقة «السلطان المزعوم» مما نتج عنه تمرد قبيلة بني توزين أياما قليلة بعد حادث تأديب بني ورياغل لأعوان «بوحمارة» ، وذلك حين تمرد أهل القبيلة على الولاة الذين عينوا عليهم، وبدأ العصيان يستفحل في الأوساط القبلية التي كانت إلى عهد قريب تدين بالولاء ل»بوحمارة»، مما اضطر هذا الأخير إلى توجيه «حركة» إلى المنطقة تحت إمرة «قائد الرحى» الذي التقى متمردي القبيلة عند موضع «أمزاورو» فكان له النصر قبل أن يسارع رجال القبيلة إلى التراجع خوفا من إبادتهم. بعد تأديب قبيلة بني توزين، ذهب قائد «حركة» خجهل الروكي إلى بني ورياغل، بعد أن تلقى أوامر من سيده بإخضاع بني ورياغل مهما كلف الثمن ذلك، فكتب قائد «الحركة» إلى القبيلة يأمرهم بالمبادرة إلى تقديم الطاعة ل»بوحمارة» وإلا سيكون مصيرهم كمصير قبيلة بني توزين، ولما وصلت رسالته إلى أعيان القبيلة، نادوا في الأسواق واجتمعوا لمدارسة الأمر، فانتصب أحدهم وهو الفقيه محمد بن السيد حدو قائما، وقال عن قائد «الحركة»: « أتعلمون من هو سيده ومالكه الذي بعثه للقضاء على شخصيتكم وقوميتكم…إنه بوحمارة اسم لإناث جنس الحمير، لا لمذكره، وهو الذي سمى نفسه زورا وبهتانا بمولاي محمد بن مولاي الحسن». كما عرج في معرض كلامه على السوابق التي دعمت فيها بني ورياغل المخزن مثل دعمها ل»حركة» بوشتى البغدادي الذي بعثه السلطان مولاي عبد العزيز لتأديب قبيلة «بقيوة» بعد أعمال النهب والقرصنة التي كانت تمارسها، عند جنوح السفن إلى مجالها بسبب الرياح والأمواج المرتفعة. عندما احرق الريفيون دار عبد الكريم الخطابي ثلاث مرات لتعاونه مع الاستعمار منذ سنة 1916 وبمناسبة الحرب الكونية الأولى، اشتغل والد الأمير موحند الخطابي في خدمة كل من الألماني «هامان» وحفيد الأمير عبد القادر عبد الملك، اللذان ظهرا بالمنطقة الشمالية واتخذا مركزا لهما بقرية «إفران» بقبيلة «كزناية»، وأخذا يدعوان لمناهضة فرنسا، حيث كانا يمدان الخطابي الوالد بالمال لنيل ولاء وتحالف أعيان القبائل. وبعد أن وضعت الحرب الكونية أوزارها، اتجه عبد الكريم الخطابي صوب الإسبان يخدمهم ويوصي الأهالي بعدم التعرض لهم عسكريا، بدعوى عدم قدرتهم على نزال الإسبان، وقد استمر في مساعيه تلك لمدة طويلة تحت إشراف قائد جزيرة النكور الذي كان يمده بالمال للغرض نفسه، وفي السياق نفسه كان أهالي قبيلة بني ورياغل لا يترددون في اتهام عبد الكريم الخطابي بالعمالة للإسبان بالنظر إلى دور الوساطة الذي كان يلعبه بين الأعيان والحكومة الإسبانية. كما حدث وأن نودي في الأسواق بأن الخطابي بات نصرانيا، وأنه يخدم الإسبان فكان الأهالي يهرعون إلى داره يحرقونها بعد أن ينهبوا كل ما بداخلها، ليعمد عبد الكريم الخطابي إلى الالتحاق بجزيرة النكور، ومنها إلى تطوان حيث كان يمكث لشهور حتى تهدأ الأوضاع، ليعود من جديد إلى أجدير… وقد تكررت حوادث حرق داره ثلاث مرات، كان في كل منها يهرع فارا إلى النكور، وفي كل تلك الحوادث كانت الحكومة الإسبانية بوساطة قائد النكور تعرض عليه مده بالسلاح والرجال لصد المهاجمين على داره، أو بإنزال بحري لإنقاذه لما يهجم عليه الأهالي. أمام تراجع شعبية عبد الكريم الخطابي ومكانته القبلية، قامت الحكومة الإسبانية بتعيين شخصين آخرين للعب دور الوساطة والاتصال بأعيان القبيلة، وهما الحاج محمد شدي الأجديري وأحمد بورجيلة من أولاد سيدي امحمد أوموسى الورياغلي. وكلفتهما بالأعمال نفسها التي كان يقوم بها الخطابي بمفرده، وصار الشخصان المذكوران يقومان بجد واجتهاد، وبإخلاص تام لإرضاء الحكومة الإسبانية التي كانت سخية مع أعيان القبائل. وقد كان مصير هاذين الأخيرين كمصير الخطابي حين عمد الأهالي إلى حرق دار أحمد بورجيلة ونهبها بعد أن اعتصم ببناية جده سيدي محمد أموسى، في حين قام الثاني وهو محمد شدي بمواجهة الأهالي، بدعم من أنصاره، فكانت معركة قتل فيها عدد كبير من الجانبين… تعليق