(متابعة الحوار مع الأستاذ الحقوني مرزوق) الملاحظة الثالثة: الإسلام والحرية الدينية: حول هذه النقطة بالذات ذكر الكاتب / الحقوني الآية الكريمة (( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فاليكفر ))، لكن مع الأسف ذكرها في غير محلها وسياقها. فبغض النظر عن بتره للجزء الثاني من الآية، حيث بدونه لا تكتمل المعنى، وبغض النظر كذلك عن أسباب وظروف نزولها، فإن هذه الآية لا تفيد بأي شكل من الأشكال حرية الاختيار والاعتقاد الديني كما يقول السيد الحقوني حيث أورد قائلا في مقاله السابق الذكر (انظر الجزء الثاني) ما يلي (( ثم وضع الإنسان في موقف الاختيار ” فمن شاء فليؤمن ومن شاء فاليكفر .. )). بقدر ما أنها تفيد التهديد والوعيد والزجر حسب التفسيرات التي قدمها معظم العلماء المسلمين، ونذكر منهم القرطبي والطبري وابن كثير وغيرهم كثيرون. فالآية كاملة هي ” وقل الحق من ربك فمن شاء فليؤمن ومن شاءفاليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه، بئس الشراب وساءت مرتفقا. إن الذين امنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع اجر من أحسن عملا “(35). ولكن، لنفترض جدلا أن هذه الآية تفيد بالفعل الاختيار كما يقول الأستاذ الحقوني وغيره طبعا، فما موقع الآيات التي تؤكد العكس، هل سنعمل بها أم لا؟ ومنها الآية التي تقول “ ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ” (36) ، وكذلك الآية التي تقول “ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا”.(37) والآية التي تقول” إن الدين عند الله الإسلام”.(38) علاوة على هذا، إذا كان الإسلام قد منح للإنسان حق الاختيار من خلال الآية 29 من سورة الكهف وأية 256 من سورة البقرة التي تقول ” لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي” وغيرها من الآيات، فما موقع الحديث التالي ” من بدل دينه فاقتلوه “ ؟
هذا الكلام يقودنا إلى موضوع آخر، لكنه أكثر تعقيدا وحساسية؛ وهو موضوع حروب ” الردة “ التي خاضها الخليفة أبو بكر الصديق ضد المسلمين الذين رفضوا أن يدفعوا له الزكاة بعد وفاة النبي(ص)، حيث من حقنا كمسلمين أن نعرف هل كانت هذه الحروب مشروعة من الناحية الدينية أم لا؟ علما أن مسألة الإيمان هي مسألة اختيار حسب الآيات التي سلف ذكرها !!. وإذا كان علماء المسلمين بمتخلف مشاربهم ومذاهبهم يقرون جميعا أن القرآن هو الأساس في التشريع وليس الحديث حيث أن الحديث لا ينسخ القرآن والعكس هو الصحيح، فإن الحروب التي خاضها الخليفة أبو بكر ضد من اعتبرهم ” مرتدين ” هي حروب غير شرعية من الناحية الدينية، وبالتالي فإنها مخالفة لشرع الله بقوة النص القرآني، حيث يقول سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم ما يلي ” ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون” (39) ، ومن الواضح جدا من هذه الآية الكريمة أن الله سبحانه وتعالى لم يأمر أبدا بقتل المرتدين وإنما ترك عقابهم إلى يوم الآخرة؛ أي أن الله هو من يتولى معاقبتهم وليس البشر. وإذا كان الإسلام قد وضع الإنسان في موقع الاختيار حسب رأي الأستاذ الحقوني، فكيف يفسر الأستاذ مسألة الحروب التي خاضتها الدولة العربية الإسلامية تحت يافطة نشر الإسلام في كل من إيران والشام ومصر وشمال أفريقيا وأوربا/ الأندلس وغيرها من الأماكن التي غزتها جيوش الدولة العربية الإسلامية، علما أن الله سبحانه وتعالى يقول بشكل واضح في كتابه الحكيم ما يلي ” لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلونكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم أن الله يحب المقسطين ” (40) . بل، ولماذا يتعرض المسلمون الآن للقتل والسجن بسبب تخليهم عن الإسلام بشكل حر وعن طواعية، أليس مسألة الاعتقاد مضمونة دينيا ؟ ولماذا يتم تكفير المفكرين الحداثيين بمجرد تعبيرهم عن الرأي في الإسلام؟
ينبغي الإشارة هنا إلى أن اكبر معضلة تواجه المفكر ين الإسلاميين هو عدم قدرتهم على الاعتراف بوجود ثلاث معضلات دينية ومعرفية ونفسية، أساسية ومركزية في الفكر الإسلامي، التي تشكل عائقا موضوعيا في مسار تجديد الفكر الإسلامي، أولها هو عدم القدرة على الاعتراف بعدم وجود حرية التعبير في الإسلام عموما، وحرية الاعتقاد خصوصا،بالرغم من محاولة توظيف بغض النصوص الدينية التي أوردناها سابقا لتثبيت وتأكيد العكس ( راجع الآيات التي ذكرناها أعلاه)، نشير هنا أن الإسلام يعطي الأولوية للدين قبل الإنسان ، وهو الشيء الذي يجعله يقف في وجه الاختيارات الإنسانية التي تتناقض وتتعارض مع الدين، وثانيها هو عدم القدرة على الاعتراف بالجرائم التي ارتكبتها الدولة العربية الإسلامية إثناء غزوها للشعوب الأخرى؛ وهي جرائم تعتبر في عصرنا الراهن جرائم ضد الإنسانية، وثالثها هو عدم القدرة على التمييز بين الإسلام والعروبة، فالأولى شيء والثاني شيء آخر، فالعروبة تعتبر عائقا جوهريا في تقدم المسلمين عموما، والعرب المسلمين ( الدول العربية ) خصوصا، وعندما نقول العروبة فإننا نتحدث – أساسا – عن التاريخ والثقافة العربيتين، وهنا تمكن المعضلة. فأينما حل الإسلام والعروبة معا حلت المصيبة والكارثة على الإنسان فمن اجل التقدم والتطور نرى أنه من الضروري حذف احدهما ، حذف الإسلام أو العروبة. فاحد إسرار تقدم الدول الإسلامية الغير العربية مثل تركيا واندونيسيا وماليزيا وغيرها، هو حذف العروبة التي تشكل عائقا في التطور والتقدم في تصورنا.
الملاحظة الرابعة: حول الدين والعلم
كثيرا ما نقرأ في كتابات وحوارات الإسلاميين أن ” الإسلام دين علم ومعرفة” أو أن ” الإسلام دين علم وعقل “ وغيرها من المقولات التي تمجد وترفع من قيمة العلم والعقل والمعرفة في الإسلام، نقراها، أو نسمعها، في خطابات الإسلاميين ، وهي مقولات غامضة وملتبسة لدى عموم الجماهير مثلها مثل مقولة ” الإسلام هو الحل” أو الحاكمية لله ” وغيرها من المقولاتوالشعارات التي يتم ترديدها في خطابات الإسلاميين. وعادة ما يفهم من هذه المقولات الأمرين التاليين، الأول هو أن الإسلام دين علم ومعرفة، وبالتالي فإنه يدعوا إلى العلم والمعرفة حيث جعل من العلم فريضة( غير ملزمة) على كل مسلم ومسلمة، فحول هذا الموضوع يقول الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه ” ملامح المجتمع المسلم” مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 2001، ص 122، أن القرآن (( يعتبر النظر فريضة، والتفكير عبادة، والبحث عن الحقيقة قربة، واستخدام أدوات المعرفة شكرا لنعم الله، وتعطيلها سبيلا إلى جهنم)). والثاني هو أن الإسلام يدعوا إلىاستعمال العقل، بل أنه قائم على العقل يقول احد الإسلاميين (41)، من أجل معرفة حقيقة وجود الله ، ومعرفة إسرار الكون والطبيعة وغيرها من القضايا التي يجعلها الإنسان هدفا في أبحاثه ودراساته.
طيب، إذا كانت المقولة الأولى؛ أي أن الإسلام دين علم ومعرفة، التي يرددها فقهاء الإسلام باستمرار لا تهمنا في هذا السياق؛ أي أن موضوع هل الإسلام دين علم ومعرفة لا يهمنا في هذا المقام، والسؤال المطروح هنا هو: هل الإسلام دين علم ومعرفة أم انه دين الهداية؟
إذا كان موضوع هل الإسلام هو دين علم ومعرفة لا يهمنا في هذا المقام، فإن مسألة هل الإسلام دين علم وعقل تهمنا في هذا المقام، حيث يهمنا أن نعرف على سبيل المثال ما هي الحدود التي يسمح بها الإسلام للعقل؟ وعن أي علم وعقل يتحدث عنه الإسلام؟ وما هي حدود العلاقة بين العلم والإيمان؟ وإذا كان الإسلام قد جعل من العلم فريضة بإجماع علماء المسلمين فلماذا يتم محاكمة العلماء والمفكرين على اجتهاداتهم، علما أن الإسلام لم يضع لنا حدود معينة لاستعمال العقل ولم يحدد لنا المجالات التي يسمح بها لاستعمال العقل والتي لا يسمح بها؟
وقبل الانصراف إلى الإجابة عن الأسئلة التي طرحناها، ولو بشكل مختصر وعام، نظرا لضيق المجال، إلى جانب تطرقنا كذلك إلى المواضيع التي أوردها الأستاذ الحقوني في مقاله السالف الذكر، وتحديدا في محوره المتعلق بالدين والعلم ( الدين والعلم في خدمة المجتمع )، نود أولا التأكيد هنا على ثلاثة أمور أساسية وجوهرية في الموضوع الذي نحن بصدده ، وهما:
الأمر الأول: هو أن القرآن يدعوا بالفعل إلى العلم والمعرفة حيث هناك ما يقارب 750 أية تحث على العلم والمعرفة والعقل، بينما لا يتجاوز عدد آيات الفقه والتنظيم الاجتماعي 250 أية فقط (42)؛ الأمر الثاني: هو أنني اتفق مع الكاتب في قوله أن المسلمين قد ساهموا بنصيب وافر في الحضارة الإنسانية على اعتبار أن الحضارة لا تحمل لون ما أو جنسية ما..الخ. ولكننا في نفس الوقت لا نتفق معه بتاتا في مسألة أن المسلمين كان لهم الفضل والتفوق في مجال العلم التجريبي والطب وغيره من العلوم التي باشرها الإنسان قديما وحديثا، حيث أن الحضارة العربيةالإسلامية تعتبر امتداد للحضارات التي كانت سائدة قبل بروز الإسلام على مسرح الأحداث وتحوله بعد ذلك إلى قوة دينية وسياسية وفكرية وعسكرية نتيجة عوامل موضوعية وذاتية يطول فيها الكلام. نحن نعلم علم اليقين من خلال ما تم انجازه إلى حد الآن من الدراسات والأبحاث حول الحضارات الإنسانية عامة، وحول الحضارة العربية الإسلامية خاصة، أن هذه الأخيرة (= الحضارة العربية الإسلامية) قد تأسست بعد استيلاء المسلمين على الحضارة الفارسية والرومانية والإغريقية والأمازيغية وغيرها من الحضارات التي كانت سائدة قبل ظهور الإسلام، سواء عن طريقالغزو والاستعمار الذي تم تحت ذريعة نشر الإسلام، أو عن طريق الترجمة كذلك.
ففي هذا الصدد نشير إلى أن خالد بن يزيد بن معاوية (703 ميلادية) هو من أمر للمرة الأولى بالترجمة بعد أن استحضر مجموعة من فلاسفة اليونانيين وأمرهم بنقل الكتب في الصنعة من اللسان اليوناني والقبطي إلى العربي (43)، ومن خلال هذين العاملين؛ أي عامل الاستيلاء والترجمة، تأسست الحضارة العربية وبرز التدوين ( نشير هنا أن الشيعة كان لهم الفضل فيممارسة التدوين قبل السنة وباقي الفرق الإسلامية) والفقه والحديث والتفسير والكلام والفلسفة والتصوف وغيرها من العلوم . لقد استفاد المسلمون بشكل كبير وواسع جدا من الحضارات السابقة عن الإسلام، وخاصة الحضارة الإيرانية، وتحديدا في مجال تنظيم الدولة والجيش والمال. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الإيرانيون على سبيل المثال كانوا قبل بروز الإسلام يعتبرون اكبر قوة بحرية آنذاك، حيث كانوا يملكون مئات السفن البحرية (44) ، كما كانوا أيضا متفوقين ومتقدمين في الطب والجراحة (45). طبعا، كلامنا هذا لا يعني، بالضرورة، عدم وجود الحضارة لدى العرب قبل بروز الإسلام، بقدر ما كانت لديهم حضارة مزدهرة، خاصة في اليمن، لكنها كانت حضارة محلية وبدوية مقارنة مع الحضارات الأخرى، كما يؤكد ذلك القرآن نفسه في العديد من الآيات. الأمر الثالث: هو إنني اتفق مع الكاتب في مسألة أن العلم يخدم الإنسانية، وبالتالي فإنني اتفق معه أيضا في مسألة أن العلم يسعى إلى انقاد البشرية، ولكنني لا اتفق معه في موضوع أن الدين ( أي دين) يخدم الإنسانية، وإنما الدين يخدم فقط فئة ومجموعة محددة، وهي الفئة التي تعتقد وتؤمن بالخطاب الذي يقدمه له الدين الذي تؤمن وتعتقد به. ولقد كان الدكتور يوسف القرضاوي صادقا ومحقا حينما قال في معرض حديثه عن أنواع العلوم في الإسلام (( أن فرض الكفاية كل ما به قوام الدين والدنيا للجماعة المسلمة من علوم الدين وعلوم الدنيا..)) (46). ومن أجل التوضيح أكثر نذكر هنا مجموعة من الفوارق الجوهرية الموجود بين الدين والعلم ، فالخدمة التي يقدمها العلم مثلا هي خدمة مادية محسوسة يستفيد منها الإنسان بشكل مباشر،فالخدمات التي يقدمها العلم في مجال الكومبيوتر مثلا، أو الطائرات، أو البواخر، أو السيارات، أو الطب، أو الهندسة، أو الفلاحة، أو غيرها من العلوم يستفيد منها الإنسان بشكل مباشر،وبالتالي فإن العلم يقدم خدمة مباشرة للإنسان ، وبالتالي فإنه(= العلم) يتيح ويقدم إمكانيات هائلة لسعادة الإنسان . بينما نجد في المقابل أن الدين ؛ أي دين، يقدم خدمة معنوية غير محسوسة، كما أن الدين يخدم الإنسان بعد موته ومغادرته للدنيا. كيف لا، والقرآن يقول في سورة الذاريات، الآية 57 { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}. كما أن العلم شيء نسبي، والدين شيء مطلق ، فالعلم يسعى إلى معرفة الحقيقة بينما الدين هو الحقيقة نفسه ، وأي خروج عن الحقيقة الدينية يعتبر طعن فيه، وبالتالي فان كل من يحاول تجاوزها يتعرض للتكفير والتهديد، بل إلى القتل والتصفية كما يشهد بذلك التاريخ الديني. علاوة على هذا كيف يمكن المقارنة بين شيء يحمل في طياته أسباب الدمار والخراب؛ وهو الدين( أي دين)، مع شيء يحمل أسباب السعادة والتطور؛ وهو العلم؟ فالعلم لا يحمل، في تقديرنا، أسباب دمار وتعاسة الإنسان من الناحية المبدئية، أما مجالات استعماله وتوظيفه وطريقة استعماله فهذا شيء آخر، بينما نجد أن الدين – مبدئيا – يحمل أسباب الدمار، وهذا خلاف جوهريبين العلم والدين.
كيف لا، وكل خطوة يخطوها المرء في سبيل الله (= الجهاد) تعادل حسب الخليفة أبو بكر سبعمائة حسنة تكتب له، وسبعمائة درجة يرتفع له، ويرفع عنه سبعمائة خطيئة(47). وعندما نقول هذا الكلام فإننا نستحضر مجموعة من النصوص القرآنية التي تدعوا إلى القتل والجهاد والمفاضلة بين البشر.في القران مثلا هناك ما يزيد عن 100 أية قرآنية تمجد وتدعو إلى القتال والجهاد في سبيل الله. ومنها الآية التالية (( فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان )) الآية 12 من سورة الأنفال. ويقول أيضا في سورة محمد / الآية 4 (( فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء)) .
في كتاب” جدلية الحوار: قراءة في الخطاب الإسلامي المعاصر ” للدكتورة مريم آيت احمد الصادر سنة 2011 عن مجلة علوم التربية /العدد 24 ، على سبيل المثال وليس الحصر نجد وصفا دقيقا لمظاهر التمييز الديني الذي مارسه المسلمون ضد الآخرين ، وهو الأمر الذي أكده كذلك الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه المذكور أعلاه( انظر ص 130 ). ففي كتاب الدكتورة مريم آيت احمد نقرا ما يلي (( فقد أمر الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز(م720 -717 ) بطرد النصارى من وظائف الدولة. كما فرض إجراءات صارمة تتعلق بالملابس وحلق الرؤوس وارتداء أحزمة من الجلد وركوب الحيوانات بلا سرج، بهدف تمييزهم عن المسلمين.كما منعهم من بناء الكنائس ورفع أصواتهم في الصلاة )). (ص 93) طبعا هناك شواهد كثيرة من التمييز الديني يؤكدها التاريخ الديني والاجتماعي للمسلمين بشكل واضح لا غبار عليه، ومن جانب آخر يعتبر التمييز والعنف ظاهرة دينية موجودة في جميع الديانات حسب الباحث الانثروبولوجي روني غدار، حيث هناك العديد من الشواهد التاريخية التي تثبت صحة هذا الرأي والتحليل، شواهد تؤكد استناد الإنسان في حروبه وغزواته الاستعماريةإلى نصوص دينية، ومنها على سبيل المثال الغزوات الاستعمارية التي قام بها العرب المسلمين في مختلف مناطق المعمورة خلال القرن السادس والسابع الميلادي حيث كان الدين هو المحرك الأساسي لتلك الحروب وفق ما تؤكده الدراسات والأبحاث التاريخية في هذا المجال، ونفس الشيء نجده أيضا في الحروب الصليبية التي خاضتها أوربا المسيحية في أسيا وشمال إفريقيا حيث كانت تشن حروبها الاستعمارية التبشيرية بدعم ومباركة الكنيسة، وتتم تحت أسم ” الحروب المقدسة”.
ففي الإسلام مثلا، هناك العديد من الآيات والأحاديث التي تحث الإنسان المسلم على القتل والجهاد ضد الكفار والمشركين، وبالتالي فهي نصوص تشرع وتحث الإنسان على الدمار والخراب ومنها الآيات التالية { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخرة ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}(48). والآية التي تقول { جاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم أن كنتم تعلمون }(49) وهناك آيات أخرى كثيرة، كما أن الرسول (ص) كان يحث على القتال حسب ما ورد في صحيحالبخاري ومسلم من الأحاديث ، ومنها الحديث التالي ” أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إلاه إلا الله وان محمد رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا من دمائهم وأموالهم …” ، كما قال أيضا ” أبواب الجنة تحت ضلال السيوف “ وغيرها من الأحاديث التي تؤكد على القتال والجهاد في سبيل الله، وأمام هذا الكم الهائل من الآيات والأحاديث التي تدعوا إلىالقتال والجهاد يحق لنا التساؤل عن أية حرية يوفرها الإسلام للإنسان في الجانب ألاعتقادي؟ وعن أي اختيار يتحدث عنه الزميل الحقوني في مقاله السالف الذكر؟ وما هي نوع الخدمة التييقدمها الدين للإنسان على ضوء ما سبق ذكره من المعطيات التاريخية ؟
وبناءا على هذا التحليل نرى أن العمليات الإرهابية التي تقوم بها الجماعات الإسلامية في مختلف إرجاء المعمورة، ماعدا العمليات التي يقوم بها حزب الله في الجنوب اللبناني وحركة حماس قبل أن تشارك في الانتخابات وتتولى السلطة، تجد مبرراتها في النصوص التي يتيحها ويوفرها الدين ( القران والأحاديث)، على اعتبار أن الجهاد في سبيل الله ضد الكفار واجب ديني مقدس على كل مسلم. فعلى سبيل المثال استندت الجماعة الإسلامية بالجزائر على الآية 5 من سورة السيف في قطع رؤوس الرهبان السبعة في دير تبحرين غرب الجزائر. ومن هنا نرى أنالجرائم والدمار الذي تسببت فيه هذه التنظيمات الإرهابية في مختلف أرجاء الكون هي – أساسا - جرائم دينية، حيث أن الدين هو من يشرعها ويزكيها وليس العلم.
وبعد تقديمنا لهذه التوضيحات الضرورية من اجل استيعاب الاختلاف القائم بين الدين والعلم ننتقل الآن لمناقشة بعض الأمور والقضايا التي أوردها الحقوني في مقاله، والتي لها علاقة، بشكل مباشر أو غير مباشر، مع موضوع العلم والدين، وسنقتصر هنا على ثلاثة مواضيع رئيسية، وهي : الجاهلية، العبودية والشورى .
الملاحظة الخامسة: حول الإسلام والجاهلية:
حول موضوع الجاهلية التي تطرق إليها الكاتب كما اشرنا سابقا، هنا ينبغي أن نوضح مسألة في غاية الأهمية؛ وهي أن مرحلة وفترة ما قبل ظهور الإسلام، التي أسماها الإسلام بالجاهلية لم تكن تتميز بالظلم، بمعنى غياب القانون والجهل والفوضى كما قد يفهم من السياق العام للكلام الذي أورده الكاتب عن الجاهلية، حيث قال “ إن مجتمع الجزيرة العربية كان مجتمعا ظلاميا، أطلق عليه الإسلام عصر الجاهلية، ثم أشرق نور الإسلام فحطم قواعد الظلم ”. إن الجاهلية التي يتحدث عنها القرآن لا تعنى بأي شكل من الإشكال وجود التخلف والجهل المعرفي، وإنما المقصود بالجاهلية بالمعنى القرآني كما نقراها في سورة الفتح، الآية 26 هو الجانب الأخلاقي والسلوكي ولا تعنى الجهل المضاد للمعرفة ، كما تعنى لدى البعض عدم الاهتداء إلى أحكام الله (50)، ولكن السؤال المطروح هنا وهو: كيف سيهتدي الناس إلى أحكام الله والقرآن كان غير معروف وموجود ؟
مما لا ريب فيه أن الإسلام أثناء فترة بروزه؛ أي بعد منتصف القرن السادس الميلادي، كان ثورة شاملة بمقاييس تلك المرحلة وظروفها، ثورة دينية وثقافية وأخلاقية وقانونية وغيرها من المجالات التي شملها التغيير والإصلاح الإسلامي، وبالتالي فإنه (= الإسلام) قاد ثورة شاملة نحو تغيير نمط وقيم عيش الإنسان العربي آنذاك، المستهدف الأول من طرف الإسلام، فإذا نظرنا مثلا إلى ما قدمه الإسلام للمرأة العربية/المسلمة أنذلك ، وخاصة في المجتمع العربي الصحراوي البدوي، أو ما قدمه أيضا في موضوع الرق/ العبيد يمكن القول، بل ونستطيع الجزم أن الإسلام قد قام أثناء بروزه بثورة على القيم والمبادئ التي كانت سائدة في المجتمع العربي آنذاك، سواء على المستوى الديني والثقافي أو على المستوى الإنساني والاجتماعي والتنظيمي و الاقتصادي وغيرها من المجالات التي شملها التغيير بفضل الإسلام. ففي مجال الحقوق والمساواة قدم الإسلام حلول متقدمة وراقية مقارنة مع ما كانت عليه الأوضاع آنذاك في جزيرة العرب، خاصة في موضوع حقوق المرأة والعبيد بالرغم أن الإسلام لم يدعوا نهائيا إلى تحرير العبيد وتحريم الظاهرة كما فعل مع مجموعة من الظواهر الاجتماعية الأخرى، وإنما دعى فقط إلى تقنين ظاهرة العبيد فقط كما سنرى في المحور القادم حول الإسلام والعبودية. لكن عندما ننظر إلى موضوع الحقوق والمساواة في العصر الراهن ونقارن ذلك مع ما يقدمه الإسلام، وخاصة في موضوع المساواة بين الرجل والمرأة، أو في موضوع الرق/العبيد، أو في موضوع الشورى، أوفي موضوع الحريات الدينية والفردية وغيرها من مجالات الحقوق والمساواة نجد أن الإسلام متخلف للغاية قياسا إلى ما وصلت إليه الآن وضعية حقوق الإنسان، وعندما نقول هذا الكلام فإننا ندرك جيدا أن المرجعية التي يستمد منها الإنسان المسلم والحاكم المسلم (السعودية،إيران، السودان، المغرب، مصر ..الخ)أحكامه وقراراته من أجل وضع وسن الحقوق والحريات نابعة من الإسلام ( = القرآن والحديث) ، وبالتالي فإن أللوم هنا يقع على الدين وليس الإنسان الذي يشرع فقط ما يقره الدين.
الملاحظة السادسة: الإسلام والعبودية:
موضوع العبودية كان هو أيضا من المواضع البارزة التي حاول الإسلام معالجته، وقدم بشأنه حلول واقتراحات تقدمية مقارنة مع ما كانت عليه وضعية العبيد قبل بروز الإسلام ، لكنه لم يحرم ظاهرة العبيد كما اشرنا إلى ذلك في المحور السابق. والأساسي في موضوع معالجة الإسلام لظاهرة الرق هو أن الإسلام قد أسس لثقافة جديدة تجاه العبيد، الثقافة التي سمحت بنوع من التنظيم والمساواة مقارنة مع ما كان عليه الأمر قبل بروز الإسلام، وبالتالي فلا مجال للمقارنة بين وضعية العبيد قبل بروز الإسلام وبعد بروزه، أو ما يسمى دينيا بالعصر الجاهلي.
لقد ادخل الإسلام مجموعة من التعديلات الهامة على وضعية العبيد دون أن يحرم الظاهرة بنص قراني واضح وقطعي، والدليل الثاني الذي يثبت عدم تحريم الإسلام للعبودية هو استمراره حتى بعد وفاة صاحب الدعوة، كما تؤكد مختلف المصادر التاريخية، حيث أن عائشة نفسها أعتقت 67 عبيدا ، والسؤال المطروح هنا هو : كيف امتلكت عائشة 67 عبيدا وهي التي تزوجها الرسول في التاسعة من عمرها؟ كما أن التاريخ يؤكد أيضا أن عثمان بن عفان ترك خلفه 1000 مملوك بعد اغتياله. أما موسى بن نصير فقد غنم من شمال إفريقيا بعد غزوها واستعمارها 300.000 من النساء/الجواري، بعث 60.000 إلى الخليفة الوليد بن عبد الله على اعتباره ممثل الله في الأرض آنذاك، تماما وفق ما ينص عليه في القرآن في أية 41 من سورة الأنفال التي تنص على أن خمس الغنيمة تعطى لله.
هذا بالإضافة إلى قيام ثورة العبيد في البصرة بقيادة علي بن محمد ضد الدولة الإسلامية؛ وهي الثورة المعروفة في كتب التاريخ بثورة الزنج. وحول الحركات الاحتجاجية للعبيد في ظل الدولة الإسلامية نورد هنا فقرة من كتاب “ تكوين العقل العربي ” للمرحوم محمد عابد الجابري، الطبعة الرابعة، إصدارات المركز الثقافي العربي – ص 59 يقول المرحوم (( فوجدت المعارضة الصامتة، معارضة الموالي الذين كانوا على هامش الدائرة العربية، وجدت متنفسا بل مجالا للحركة.من هنا أخذت تتبلور فكرة ” الدولة الإسلامية”، فكرة تريد من الدولة أن تكون دولة جميع المسلمين لا دولة العرب وحدهم،فبالأحرى جماعة منهم. ولما كان غير العرب يشكلون الأكثرية في المجتمع الإسلامي الجديد ينتمون إلى شعوب مختلفة فلقد اتخذت المعارضة شكل ” شعوبية” أي حركة شعوب إسلامية غير عربية، تطالب، إن لم يكن بديمقراطية الأغلبية فعلى الأقل ب ” المساواة ” ..)).
والدليل الثالث هو أن ظاهرة الرق مازالت مستمرة إلى يومنا هذا في ما يسمى بالعالم الإسلامي، وخاصة الجزء العربي منه. فالسعودية مثلا ألغت نظام العبودية رسميا سنة 1962 ولكنه مازال مستمر بشكل غير رسمي، بينما أن الدول الأوربية والأمريكية بدأت في منع تجارة الرق ما بين القرن الثالث عشر والتاسع عشر. والانكى من ذلك أن يتواجد بيننا من العلماء المسلمين اليوم من يدافع عن الرق كأنهم مازالوا يعيشون في البدايات الأولى لظهور الإسلام، معتبرا أن الرق جزء من الإسلام؛ أي أن الإسلام ينص على ذلك، كما فعل أحد شيوخ السعودية سنة 2003 وهو الشيخ صالح الفوزان. كما أن دساتير الدول الإسلامية لا تنص صراحة على تحريم ومنع ظاهرة العبيد. وعلى ضوء هذه المعطيات التي قدمناها حول موضوع العبودية في الإسلام، بحيث هناك تفاصيل ومعطيات تاريخية أخرى كثيرة لا يسمح المجال بتناولها جميعا، هل يمكن الاستمرار في الحديث على أن “ المسلمين سواسية كأسنان المشط “ ؟ وعلى ضوء المعطيات التي شملها المقال حول التمييز الديني وانعدام الحرية الدينية واستمرار ظاهرة العبيد في ظل الإسلام، هل سنستمر في التباهي وادعاء أن الإسلام دين المساواة والحرية؟ الملاحظة السابعة: الإسلام والشورى:
قبل البدء في مناقشة هذا المحور ( الإسلام والشورى)، أود أولا أن أشير هنا إلى أنني لم أتحدث في مقالي السابق عن الشورى، أو الديمقراطية، خلال فترة القرون الوسطى، وإنما تحدثتعن إمكانية التطبيق الراهن أكثر مما تحدثت عن النظرية، بمعنى آخر تحدثت عن موضوع كيف نطبق الشورى في الوقت الراهن( هذا هو المقصود) ولم أتطرق إلى الموضوع في جانبه التاريخي؛ أي كيف كان يطبق في الحقب الزمنية العابرة ، وبالتالي فإن عملية المقارنة بين الوضع السائد خلال القرون الوسطى واليوم هي مقارنة غير صائبة. كما أنني لم أقول ، أو على الأقل أنني لم اقصد ما فهمه الأستاذ الحقوني في موضوع أن الشورى في ضحى الإسلام لم تكن نموذجا للعدل وإنما كنت اقصد تجربة الدولة الإسلامية في العدل بعد وفاة الرسول (ص) وليس الشورى كنظام” سياسي”.
هذا من جهة، ومن جهة ثانية شخصيا لا اعتبر أخطاء البشر هي أخطاء في الدين الإسلامي وإنما، أريد، و أحاول، أن أوضح للقارئ الكريم أن الأخطاء التي يرتكبها البشر في تنفيذه لمقتضياتالشرع الإلهي المنصوص عليها في القرآن الكريم هي نتيجة الغموض والالتباس الموجود في ذات النصوص نفسها، وبالتالي المسؤولية الأولى تقع على النصوص والتفسيرات التي تقدم لها حيث أن الإنسان في هذا الحالة مسؤول عن التنفيذ فقط وليس التشريع، فعلى سبيل المثال الإسلام يؤكد على مبدأ الشورى ( ويلزمها كالصلاة والصوم والزكاة..الخ) ولكنه لم يوضح لنا كيف سنطبق هذه الشورى حتى لا نخطئ في تطبيقها؟
والنقطة الأخيرة في موضوع التعليق الذي خص به الأخ الحقوني كلامنا حول الشورى هو انه لا يمكن المقارنة بين الأخطاء التي تتم باسم الشورى والأخطاء التي تتم باسم الديمقراطية، فالأولشيء مقدس والإنسان مأمور بفعله ولا يحاسب عليها في الدنيا، وبالتالي فإنه لا يتحمل المسؤولية المباشرة أذا أخطأ في تنفيذ أوامر الله ، خاصة إذا كان الأمر غير واضح بشكل كافي في القرآن أو السنة، بينما أن الأخطاء التي يرتكبها الإنسان في ضل النظام الديمقراطي هي أخطاء بشرية محضة يحاسب عليها مباشرة من طرف الشعب( البرلمان، المحكمة ..).
وبهذا نقول أن موضوع الشورى يعتبر من أبرز القيم والمبادئ التي اقرها الإسلام بشكل رسمي(= ملزمة) ولكنها من الأمور والمواضيع الغامضة والشائكة ، وهذه أحد الأسباب الرئيسية التي تجعلنا نتحفظ على مبدأ الشورى بمفهومه السائد ونفضل الديمقراطية عنها لوضوحها وتجردها من الدين. فالشورى تطرح عدة إشكالات دينية/فقهية يصعب علينا حلها بشكل يرضي الجميع، فالشورى تضعنا في تصادم مباشر مع عدد من القضايا الأخرى، منها قضية الدولة التي نريد: هل نريد دولة دينية أم مدنية؟ ويضعنا أيضا؛ أي نظام الشورى في تصادم مباشر مع موضوع الحرية والمساواة، ومنها مسألة مكانة المرأة والأقليات داخل نظام الشورى، هل يحق مثلا للمرأة أن تكون خليفة للمسلمين؟ وهل يحق لها المساواة مع الرجل في الإرث والشهادة ؟ وهل يحق لغير المسلمين أن يتولوا منصب الخليفة؟ وما هي صلاحيات الخليفة ومدة توليه الحكم/ الخليفة؟ وكيف سيتم اختياره؟ وهل يمكن في ظل الشورى تأسيس الأحزاب السياسية؟ هذه الأسئلة وغيرها كثيرة هي التي تشكل عائقا حقيقيا في نهج أسلوب الشورى في الوقت الراهن بينما هذه القضايا عير مطروحة في النظام الديمقراطي.
35: سورة الكهف، الآية 29 36: سورة .. الآية 37: سورة.. الآية 38: سورة .. الآية 39: سورة البقرة ، الآية 216 40: سورة .. الآية … 41: نفس المرجع يوسف القرضاوي 42:انظر ” الإسلام اليوم ” للمؤلف مارسيل بوازار منشورات اليونسكو ، الطبعة الأولى 1987 – ص 177 43: انظر كتاب ” تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية ” تأليف مصطفي عبد الرزاق منشورات سلسلة العلوم الاجتماعية 44: انظر ” الإسلام وايران ” للمؤلف آية الله نرتضى المطهري / ترجمة محمد هادي اليوسفي الغروي – منشورات منظمة الإعلام الإسلامي قسن العلاقات الدولية – الجزء الأول – الصفحات 14 -15 -16 -17 -18 -19 -20 45: نفس المرجع السابق آية الله نرتضى المطهري 46: المرجع السابق القرضاوي 47: المرجع السابق خالد محمد خالد 48/ آية قرآنية 49: آية قرآنية 50: انظر كتاب ” جاهلية القرن العشرين ” للمؤلف سيد قطب منشورات دار الشروق