أقوى معارضان للنظام العسكري في الجزائر يحلان بمدينة بني انصار في المغرب    إبراهيم دياز مرشح لخلافة ياسين بونو ويوسف النصيري.. وهذا موقف ريال مدريد    نهيان بن مبارك يفتتح فعاليات المؤتمر السادس لمستجدات الطب الباطني 2024    إقليم الحوز.. استفادة أزيد من 500 شخص بجماعة أنكال من خدمات قافلة طبية    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    بنكيران: مساندة المغرب لفلسطين أقل مما كانت عليه في السابق والمحور الشيعي هو من يساند غزة بعد تخلي دول الجوار        نادي عمل بلقصيري يفك ارتباطه بالمدرب عثمان الذهبي بالتراضي    مدرب كريستال بالاس يكشف مستجدات الحالة الصحية لشادي رياض    مواقف زياش من القضية الفلسطينية تثير الجدل في هولندا    مناهضو التطبيع يحتجون أمام البرلمان تضامنا مع نساء فلسطين ولبنان ويواصلون التنديد بالإبادة    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد    إعطاء انطلاقة خدمات 5 مراكز صحية بجهة الداخلة وادي الذهب    إسدال الستار على الدورة الحادية عشرة لمهرجان "فيزا فور ميوزيك"        ما هو القاسم المشترك بيننا نحن المغاربة؟ هل هو الوطن أم الدين؟ طبعا المشترك بيننا هو الوطن..        موجة نزوح جديدة بعد أوامر إسرائيلية بإخلاء حي في غزة    الدكتور محمد نوفل عامر يحصل على الدكتوراه في القانون بميزة مشرف جدا    فعاليات الملتقى العربي الثاني للتنمية السياحية    الإعلام البريطاني يعتبر قرار الجنائية الدولية في حق نتنياهو وغالانت "غير مسبوق"    الأمن الإقليمي بالعرائش يحبط محاولة هجرة غير شرعية لخمسة قاصرين مغاربة    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    "كوب-29": الموافقة على 300 مليار دولار سنويا من التمويلات المناخية لفائدة البلدان النامية    موسكو تورد 222 ألف طن من القمح إلى الأسواق المغربية    ثلاثة من أبناء أشهر رجال الأعمال البارزين في المغرب قيد الاعتقال بتهمة العنف والاعتداء والاغتصاب        عمر حجيرة يترأس دورة المجلس الاقليمي لحزب الاستقلال بوجدة    الأرصاد: ارتفاع الحرارة إلى 33 درجة وهبات رياح تصل 85 كلم في الساعة    ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    قاضي التحقيق في طنجة يقرر ايداع 6 متهمين السجن على خلفية مقتل تلميذ قاصر    ترامب يستكمل تشكيلة حكومته باختيار بروك رولينز وزيرة للزراعة    الغش في زيت الزيتون يصل إلى البرلمان    الاحتفال بالذكرى السابعة والستين لانتفاضة قبائل ايت باعمران    كوب 29: رصد 300 مليار دولار لمواجهة التحديات المناخية في العالم    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    مظلات ومفاتيح وحيوانات.. شرطة طوكيو تتجند للعثور على المفقودات    غوتيريش: اتفاق كوب29 يوفر "أساسا" يجب ترسيخه    دولة بنما تقطع علاقاتها مع جمهورية الوهم وانتصار جديد للدبلوماسية المغربية    قوات الأمن الأردنية تعلن قتل شخص بعد إطلاقه النار في محيط السفارة الإسرائيلية    "طنجة المتوسط" يرفع رقم معاملاته لما يفوق 3 مليارات درهم في 9 أشهر فقط    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة    انقسامات بسبب مسودة اتفاق في كوب 29 لا تفي بمطالب مالية طموحة للدول النامية    المغرب يعزز دوره القيادي عالميا في مكافحة الإرهاب بفضل خبرة وكفاءة أجهزته الأمنية والاستخباراتية    هزة ارضية تضرب نواحي إقليم الحسيمة    أشبال الأطلس يختتمون تصفيات "الكان" برباعية في شباك ليبيا    لقجع وبوريطة يؤكدان "التزام" وزارتهما بتنزيل تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية بالمالية والخارجية    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جدلية العلم والدين في الخطاب الإسلامي..3 /4
نشر في أريفينو يوم 17 - 12 - 2012


(متابعة الحوار مع الأستاذ الحقوني مرزوق)
الملاحظة الأولى: حول الفكر الإسلامي:
لقد تناول الكاتب / الحقوني في مستهل مقاله المذكور سابقا ( انظر الإسلام والعلمانية بين الذاتية والموضوعية)، علاقة العقل/ الفكر بالذات المنتجة للفكر (= علاقة الذات بالموضوع)، وكذلك مفهوم النقد وشروطه ( ذكر منها مسألة الموضوعية والحياد وطرح البدائل ..) حيث قال بالحرق ما يلي (( قلت سابقا أن الإنسان، في المجال الفكري، لا يناقش ويساءل كشخص، بل يساءل كذات مفكرة تجاه موضوع ما، ونعني بالمسالة تلك المحاكمة الموضوعية لفكر معين، وهي ما يصطلح عليها ب ” النقد” وهذا النقد له شروط وطرقه ومدارسه ..)).
وبدون أن ندخل في تحديد المفاهيم الفلسفية التي تناولها الكاتب في المقال الذي بين أيدينا، ومنها مفهوم المنطق، والعقلانية، والفكر، والحداثة وغيرها من المفاهيم الفلسفية التي تحتاج إلى مقالات مستقلة، بل إلى دراسات مركزة و خاصة، نود الإشارة هنا إلى أن كلام الكاتب/ الحقوني حول النقد وشروطه يتناقض كليا مع ما أعقبه واتبعه من الكلام والتحليل بعد ذلك، كما أوضحنا ذلك في الجزأين الماضين. فبالإضافة إلى تعرضه لشخصنا المتواضع، أكثر من مرة، قبل أن يتعرض لأفكارنا، واتهامنا أيضا بتهم سخيفة لا ترتقي بصاحبها إلى المستوى الفكري الذي يخوض فيه، فإن المقال الذي نتناوله هنا بالتحليل والنقد يعج بالتناقضات والمغالطات.
ومن صور هذه المغالطات مسألة الخلط بين الفكر الإسلامي والفكر السياسي الإسلامي. فالسيد الحقوني يساوي هنا بين الفكر الإسلامي الذي هو أوسع واشمل وبين الفكر السياسي الإسلامي الذي يتمحور – أساسا – حول شخص الحاكم والإمامة/ الخلافة. فعندما نتحدث عن الفكر الإسلامي فإننا نتحدث عن مجموعة من المبادئ والآليات التي من خلالها ينظر الفقهاء المسلمين لقضايا الحياة والموت (= الدنيا و الآخرة)، ومنها على سبيل المثال : فضية وجود الله، النبوة، الوحي ، التوحيد، القدر، الجنة، النار، المصير، نشأة الكون، الأخلاق، الحرية، المساواة، العمران/الحضارة الطب، الهندسة، الفلك وغيرها من القضايا الدينية والدنيوية، بالإضافة طبعا إلى القضايا المتعلقة بأمور العبادة مثل الحلال والحرام، أحكام وفرائض الصلاة والحج والزكاة وآداب النكاح وغيرها من القضايا التي تهم حياة الإنسان المسلم في حياته اليومية. بينما عندما نتحدث عن الفكر السياسي الإسلامي فإننا نتحدث – أساسا- عن الفكر الذي أنتجه المفكرين العرب والمسلمين حول مسألة الحكم والإمامة/ الخلافة سواء خلال مرحلة العهد الأول للدولة الإسلامية؛ أي مرحلة الخلفاء الراشدين أو ما تم إنتاجه بعد ذلك. ومن هنا فإننا نتحدث في العمق عن تصور تيار الإسلام السياسي الذي تمتد جذوره إلى البدايات الأولى لظهور مشكل الخلاقة، ولا نتحدث، بالضرورة، عن الفكر الإسلامي الذي أنتجه علماء وفلاسفة المسلمين الكبار مثل ابن رشد وابن سنا والفارابي وابن عربي وغيرهم كثيرون .
يأتي هذا التوضيح في سياق الكلام الذي أورده الحقوني في حقنا، حيث يتهمني بكلام خطير للغاية، لكنه كالمعتاد كلام دون حجج تثبت صحته ، واليكم التهمة كما جاءت في كلامه بالحرف (( ولكنه ينفي أن لهذا الدين وجود واقعي تمت معايشته في زمن ما من تاريخ الإسلام، فلا أحد عاش فترة الازدهار للدين الإسلامي حتى في عهد عمر بن الخطاب ..))، ثم أضاف يقول أيضا (( وإنني لأرى أن أي عاقل يقرأ عن الإسلام يجد فسحة عظيمة لإعمال الفكر والتدبر، حتى أن هناك اتجاه فلسفي اسمه الفكر الإسلامي..)).
واليكم الآن دليلي القاطع على أنني لم أنكر أبدا وجود الفكر الإسلامي ، ولا عدم ازدهار الدين الإسلامي كما يتهمني الحقوني بذلك، حيث قلت في مقالي السابق ما يلي (( كما يمكن اعتبار هذا المعطى من أبرز العوامل الموضوعية التي أدت إلى بروز وازدهار الفكر والحضارة الإسلاميين، وبالتالي فإن تطور وتقدم ما سار يعرف لدينا ب ” الحضارة الإسلامية ” والفقه/ الفكر الإسلامي تم في أحضان العلمانية (= فصل الدين عن السياسة) وليس في أحضان التزمت والتشدد في تطبيق الشريعة..))(18).
فهذه الفقرة تكفي لدحض المغالطات والمزايدات التي أوردها الحقوني في مقاله المذكور سابقا، حيث أنها تؤكد بالملموس أنني أقر وأعترف بوجود الفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية، وبالتالي لا ادري لماذا يتهمني الحقوني بإنكار وجود الفكر الإسلامي، وازدهار الحضارة الإسلامية !!؟ هذا بقطع النظر هل يوافقني الرأي أم لا حول أسباب ازدهار الفكر والحضارة الإسلاميين فهذا موضوع آخر. بحيث أن مسألة ازدهار الفكر والحضارة الإسلامية هي حقيقة تاريخية موضوعية لا يمكن تجاوزها بعض النظر عن موقفنا منها ، وبصرف النظر كذلك عن نوعية هذا الفكر، وكيفية ازدهاره، وفي أي إطار تم ازدهاره، المهم انه موجود ولا يمكن تجازوه. ومن هنا نعتقد – ربما – أن الحقوني يعتمد الهرمينوطيقيا في تعامله مع النص / المقال، ونظرية الهرمينوطيقيا تعتمد التخمين الخفي والعدمي في فهم وتأويل النص.
انطلاقا من هذا نري أن الإشكالية الحقيقة تكمن – أساسا- في نظرة كل واحد منا إلى التراث الإسلامي الذي يجب أن يعاد قراءته بشكل نقدي وعقلاني، وخاصة في الأمور الخلافية فيه، حيث هناك من ينظر إلى النصوص القرآنية كنصوص ثابتة لا تتغير نهائيا ، وهناك من ينظر إليها كنصوص قابلة للتطور ، وبالتالي فإنها قابلة للتجديد والتأويل العصري؛ أي وفق شروط ومشاكل العصر الذي نعيش فيه. فعلى سبيل المثال فقط، إسلام طالبان أو جماعة العدل والإحسان، أو أنصار الشريعة ، أو إسلام باقي الجماعات الإسلامية الساعية إلى الحكم لا يمثلني شخصيا كمسلم أعيش في القرن الواحد والعشرين، فإذا كانت حركة طالبان على سبيل المثال تقتل النساء رميا بالحجارة في الأماكن العمومية بدافع ” تطبيق ” أحكام الشريعة، وإذا كان النظام السوداني يقطع أيادي الناس بدافع “تطبيق” الشريعة(19) دون أن يبحث في موضوع لماذا يسرق الناس؟ ولا يتحدث عن الفساد السياسي والإداري والمالي المنتشر في البلد فهذا الإسلام لا يمثلني ولا انتمي أليه. كما أن الإسلام الذي يتم تقديمه في الفضائيات حول تطبيق حد الزنا وقطع الأيادي ومنع الخمور، وفرائض الإسلام والخمار والجهاد ..الخ، ولا يتحدث عن ملكت اليمن التي يتمتع بها الرؤساء وملوك المسلمين، ولا يتحدث عن الحرية والمساواة والعدل والتسامح والرحمة من جهة، ولا يتحدث عن الاستبداد والقهر الذي يمارسه قادة المسلمين باسم تطبيق الشريعة كما هو الأمر في السعودية والمغرب والسودان وإيران وغيرها من الدولة الإسلامية ، فهذا النوع من الإسلام لا يمثلني في شيء ولا يعنيني إطلاقا.
الملاحظة الثانية: حول عدالة عمر بن الخطاب:
بخصوص هذه النقطة يعتقد الكاتب/ الحقوني أنني قد قلت أن الخليفة الثاني – عمر بن الخطاب – قد مارس نوع من التمييز والتهجير الجماعي، وهذه تهمة حظيرة للغاية أتمنى من الأستاذ أن يسحبها فورا، فانا لم أقول بهذا الكلام إطلاقا، وإنما قلت ما يقوله التاريخ، وليس أي تاريخ، وإنما التاريخي الإسلامي السني بالذات ، وبالتالي فإن التمييز بين هذين الأمرين يعتبر أمرا ضروريا، بل أنه من الواجب القيام بذلك، فانا لا اكتب التاريخ وإنما أقرا التاريخ فقط. هذا أولا، وثانيا إذا كان الأستاذ الحقوني يجهل هذه الحقيقة المؤلمة، أو أنه لا يريد الاعتراف بها؛ أي انه لا يريد الاعتراف بسياسة التمييز والتهجير الجماعي التي نهجها عمر بن الخطاب أثناء توليه الحكم/ السلطة، حيث قام بتهجير اليهود من خيبر والنصارى من نجران(20)، فهذا لا يلغي شيء من الحقيقية التاريخية التي وثقتها مختلف الكتب التراثية السنية قبل غيرها من المراجع الإسلامية والغربية . ولكن، في المقابل من حقنا كمسلمين أن نعرف كيف يفسر المدافعين عن ” السلف الصالح” عموما، وعن عدالة عمر بن الخطاب تحديدا، الأحداث والوقائع السياسية التي سجلها التاريخ السني عن عمر بن الخطاب، وهي أحداث ووقائع خالف من خلالها الخليفة بشكل صريح وواضح القيم والمبادئ الدينية التي ينص عليها القرآن الكريم . ومن الإعمال التمييزية الأخرى التي سجلها التاريخ عن عمر بن الخطاب على سبيل المثال هو منعه لليهود من السكن في بيت المقدس بعد عزوها واحتلالها من طرف الجيوش العربية الإسلامية(21) ، بينما سمح بذلك لأهلها شريطة أن يدفعون له الجزية حسب رواية ابن كثير (22 ).
وبناءا على هذه الحقيقة الموضوعية التي لا يجهلها أي باحث ودارس للتاريخ الإسلامي عموما، والتاريخ السياسي للإسلام خصوصا، نقول أن ما ذكرناه في حق عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة، ليس من وحينا واجتهادنا الخاص، وإنما هو موجود في الكتب التاريخية، وبالتالي لم نأتي بشيء جديد في هذا الموضوع، كما لم تكن غايتنا – إطلاقا – هي التشويه والتزييف كما قد يعتقد البعض، وإنما جاء في سياق التعليق على كلام الحقوني الذي وصف مرحلة تولى عمر بن الخطاب الحكم ومرحلة عمر عبد العزيز من أفضل الفترات والمراحل التي انعم وتمتع فيها المسلمون بالعدالة، وبالتالي فإن حديثنا عن سياسة عمر بن الخطاب جاء في سياق الرد على كلام الحقوني أولا. وثانيا جاء في سياق توضيح أمرين أساسيين في الموضوع، أولهما هو أن الخليفة مارس نوع من العلمانية أثناء حكمه؛ أي أنه قام بفصل الدين عن السياسية وليس الدين عن الدولة (وأظن أن صاحبنا يعرف جيدا الفرق بين هذين المفهومين).
فبالإضافة إلى هذا الحقيقة التاريخية التي لا يمكن تجاهلها وتجاوزها بالمطلق، فإن أية محاولة لتحليل وفهم مرحلة تولى الخلفاء الراشدين للحكم وما تلالها بعد ذلك من الأحداث والوقائع السياسية الإسلامية خارج هذا السياق؛ أي خارج سياق فصل الدين عن السياسة، سيصطدم صاحبها مع إشكاليات عويصة قد لا يجد لها تفسيرات مقنعة، ومبررات منطقية، حيث أن جزء من سياسة عمر بن الخطاب مثلا (محور الحديث)، وبعض مواقفه تتعارض طولا وعرضا مع القيم الدينية التي بشرنا بها النبي صلوات الله عليه. ومنها على سبيل المثال فقط موقفه(= عمر بن الخطاب) من الحرب التي شنها أبو بكر ضد الذين رفضوا إعطاء ودفع الزكاة لبيت المال(23)، حيث ساند ودعم موقف وقرار الخليفة الأول أبو بكر بشن حرب لا هوادة فيها على هؤلاء الناس، هذا بالرغم أن الرسول الأعظم قد نهى وحرم عن قتل كل من قال لا ٌإله إلا الله (24). كما أن الله سبحانه وتعالي يوصينا بالرسول (ص) حيث قال في كتابه الحكيم “{ ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } (25). فإذا نظرنا إلى هذه الموضوع من الزاوية الدينية نستطيع الجزم بأن عمر بن الخطاب قد ارتكب مخالفة واضحة لتعاليم الرسول (ص)، وبالتالي فإنه قد ارتكب مخالفة صريحة لكلام الله القائل { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعصي الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا} (26).
طبعا، نحن لا نقول أن عمر بن الخطاب، أو غيره من الصحابة قد خالف الله ورسوله (ص) في أمور الدين، فلا احد يستطيع أن يشك في إيمان وتقوى هؤلاء الصحابة ماعدا بعض الجاحدين، بل حتى الذين شهد لهم التاريخ بالانحراف وارتكاب المعاصي لا يمكن لنا التشكيك في إيمانهم، وإنما الموضوع هو موضوع دنيوي سياسي. وحول هذا الموضوع يقول المفكر المصري الدكتور سيد القمني ما يلي ” عندما تدقق في تاريخ الخلفاء الأربعة ستكتشف أنهم كانوا على دراية واضحة غير ملتبسة لما هو سياسي دنيوي وبما هو روحي ديني، وأنهم في السياسي الدنيوي أباحوا الأخذ بأنظمة كفار البلاد المفتوحة من دواوين وهندسة معمارية وزراعة، لان هذا كله لم يكن ضمن ما هو موحى به، فصلوا في معظم المواقف بشكل واضح ما بين الصح والخطأ وبين الحلال والحرام، ولم يكن هذا الوعي بالفصل بين المجالين شيئا محدثا لأنهم رأوه في نبيهم وفي قراراته ..” (27). فكيف سيخالف عمر بن الخطاب أوامر الله ورسوله وهو اعلم وافقه بأمور الدين حسب عبد الله بن مسعود، الذي قال في حقه ما يلي ” كان عمر أعلمنا بكتاب الله وافقه في دين الله” (28)، وبعد هذا التوضيح يهمنا معرفة رأي صاحبنا فيما أوردناه من الكلام حول الموضوع.
ومن خلال هذه المعطيات التاريخية الموضوعية يمكن لنا استنتاج أمر أساسي؛ وهو أن فصل الدين عن السياسة كان من ابرز الأسباب التي أدت إلى تطور وازدهار الحضارة الإسلامية، حيث لا يمكن تحقيق هذا الازدهار في ظل دمج الدين بالسياسة، والسياسة بالدين، وهو ما حصل في الغرب أيضا بعد قرون من ازدهار الحضارة الإسلامية نتيجة هذا المعطى؛ أي نتيجة فصل الدين عن السياسة تقدمت أوربا وليس في أحضان الدين. وثانيهما هو أنني حاولت أن أوضح – قدر الإمكان – أن فترة حكم عمر بن الخطاب لم تكن تتميز بالعدل والمساواة المطلقة كما يقال ويشاع في الكتب التراثية، وإنما عرفت هي أيضا الكثير من الخروقات والتجاوزات التي لا يمكن التغاضي عنها، خاصة أن تجربته تعتبر نموذجا يحتدا بها في خطابات ومشروع الجماعات الإسلامية الساعية إلى السلطة. وهو الأمر الذي يجعل قراءة ودراسة هذه التجربة المتميزة في التاريخ السياسي الإسلامي مسألة ضرورية لفهم واستيعاب التطور السياسي للدولة الإسلامية، وما ترتب عنه من الأحداث الاجتماعية والسياسية والفكرية، خاصة بعد مقتل عمر وتولي عثمان الحكم وما نشب بعد ذلك من الخلافات والصراعات السياسية التي أدت في نهاية المطاف باغتياله( = عمان)؛ وهو الاغتيال الذي سيشكل نقطة مفصلية في التاريخي السياسي العربي الإسلامي، حيث أن تأثيراته السياسية والفقهية مازالت قائمة إلى يومنا هذا.
ومن جانب آخر يعتبر عمر من أبرز الصحابة والفقهاء الذين اجتهدوا مع وجود النص، وليس أي نص، وإنما نص قطعي وثابت الدلالة، مخالف بذلك أهم قاعدة فقهية لدى المسلمين بالإجماع، وهي عدم الاجتهاد مع وجود النص. وهو الأمر الذي يجعل قراءة ودراسة تجربة عمر في الحكم ومساهماته في الفقه الإسلامي بشكل عام، والفقه السياسي بشكل خاص، أمرا ضروريا على أي باحث موضوعي يسعى إلى معرفة الحقيقة والمساهمة في تصحيح التاريخ. ومنها على سبيل المثال وليس الحصر اجتهاده في نص قطعي ثابت الدلالة حول إعطاء الصدقات(29)، حيث منع (= عمر) إعطاء الصدقة لمؤلفة قلوبهم لأن الإسلام لم يعد يحتاج إلى المؤلفة قلوبهم بعد أن أصبح قويا(30). واجتهاده أيضا في تحديد المهر رغم وجود نص ثابت وقطعي في الموضوع، ولما واجهته احد النساء بالآية التالية { واتيتم احدهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيا، أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا }، قال آنذاك مقولته المعروفة ” أصابت امرأة واخطأ عمر ” (31) . بل أنه حتى طريقة وكيفية وصوله للحكم كانت غير شرعية أصلا أذا ما طبقنا مفهوم الشورى كما هو متعارف عليه دينيا. فمن المعروف أن عمر بن الخطاب جاء إلى الحكم عن طريق التعيين والعهد من طرف أبي بكر وليس عن طريق الاختيار كما تنص الشورى على ذلك ( 32) ، هذا إذا ما تجاوزنا جدلا بأن الشورى تفيد الحكم(= السلطة)، ففي هذا الموضوع؛ أي موضوع العهد، يقول الدكتور مصطفى الرافعي (( طريقة العهد، هي أن يعهد الخليفة قبل موته إلى رجل بالخلافة، وأول من فعل ذلك أبو بكر، فقد اختار للمسلمين عمر بن الخطاب خليفة، وكتب بذلك كتاب ..))، أما في موضوع الشورى فأورد الكلام التالي (( أما طريقة الشورى فهي أن يسمى الخليفة عددا من الرجال الذين يرجى أن يكون الخليفة واحد منهم ، ويأخذهم بان يجتمعوا بعد وفاته ويتفقوا على اختيار احدهم للخلاقة، ثم يعرضوا اسمه على الأمة..)) ( 33 ) .
وبعد عرضنا لهذه الوقائع التاريخية المعروفة والمتداولة في كتب التاريخ ، طبعا هناك وقائع أخرى لا يتسع لنا المجال لذكرها جميعا، نود معرفة موقف ورأي الأستاذ الحقوني في هذا الموضوع؛ أي في موضوع تولى عمر بن الخطاب الحكم؟ هل خالف عمر قواعد الشورى أم لا؟ إذا كان الجواب بنعم فما هو حكم الإسلام على ذلك؟
وسبب طرحنا لهذا السؤال هو أن السيد الحقوني ذكر لنا فقط الآية التي تقول ” وأمرهم شوري بينهم ” ولم يذكر لنا أسباب نزول هذه الآية أولا، ولم يذكر لنا أيضا بأن الشورى ملزمة على المسلمين كالصلاة تماما لقوله تعالى { والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون } . وحول هذا الموضوع يقول زعيم جماعة العدل والإحسان الشيخ عبد السلام ياسين رحمه الله ” والشورى عبادة قبل كل شيء، وأمر الهي، وصفة إيمانية تتوج صفات أخرى تتكامل وتتضايف وتتساند, متى انخرمت صفة من تلك الصفات الواردة في سياق الآيات الأربعة الكريمة فسم نظامك ما شئت غير الشورى “(34).
والسؤال المطروح هنا هو: إذا كانت الشورى ملزمة دينينا وعمر لم يلتزم بها فما حكم الإسلام على ذلك؟ وهل تعتبر هذه مخالفة صريحة من قبل عمر بن الخطاب لشرع الله أم لا ؟
علاوة على ما سبق ذكره يقول السيد الحقوني في معرض رده على كلامنا السابق (( أري أن الإسلام الذي يجري عليه الكلام في أقوال بلحاج/ ليس الإسلام نفسه، بل الإسلام الذي ينتجه فكره، والعلمانية التي يقصدها ليست العلمانية نفسها بل العلمانية التي ينسجها فكره أيضا، وهذا التناقض في المفاهيم يلائم أهواء الثقافة الغربية المغرضة ..)).
صراحة لا ادري ماذا يريد وينتظر مني الكاتب أن أقول ، هل يريد مثلا أن أقول وأفكر كما يفكر هو في الإسلام والعلمانية؟ هذا بالإضافة إلى أنني لم أقول في مقالي السابق، ولا في أية مقال آخر من المقالات التي نشرتها سابقا أن الإسلام الذي أقدمه وأدافع عنه هو من أنتاجي الخاص، فانا لا أنتج إسلاما جديدا، وإنما أناقش فقط الإسلام الكائن والموجود، والاختلاف حوله موجود وقائم مند وجوده وليس شيء جديدا، وبالتالي فأنني أحاول أن أقدم وجهة نظري الخاصة في الموضوع؛ أي موضوع التاريخ الإسلامي عامة، والتاريخ السياسي خاصة. وجهة نظر أتخيلها صائبة وصحيحة حتى يثبت لي العكس. كما أن العلمانية التي أقدمها ليست من أنتاجي الخاص وإنما أحاول أن أقدم فقط وجهة نظري في موضوع العلمانية التي اعتبرها الحل المناسب في ظل الظروف والمناخ السائد حاليا في ما يسمى بالعالم الإسلامي ، وهي وجهة نظر موجودة ومتداولة في الأوساط الفكرية والإعلامية وليست جديدة.
وفي نهاية هذا المحور نقول انه من الظلم أن نرى الاجتهاد الذي قام به الخليفة عمر بن الخطاب، أو غيره من الخلفاء، مخالفة للدين وإنما هو اجتهاد فرضته حركة التاريخ التي لا يستطيع الخليفة أو غيره من أقافها أو تغيير مسارها، أو بصيغة أخرى كانت هناك ظروف ومعطيات اجتماعية واقتصادية وسياسية وعسكرية وأمنية وثقافية تستوجب الاجتهاد حتى في حالة وجود نصوص ثابتة وقطعية الدلالة كما هو الأمر مع مسألة قطع يد السارق والمؤلفة قلوبهم وغيرها من الأمور التي استوجبت المستجدات والظروف الجديدة تجديد تأويلها و وقف العمل بها خدمة لمصلحة المسلمين أولا ، والإسلام ثانيا.
يتبع …
محمود بلحاج / لاهاي
للتواصل :[email protected]
الهوامش:
18: راجع مقالنا تحت عنوان ” الإسلام والعلمانية مرة أخرى .. تعقيب وقراءة في مقال الأستاذ مرزوق الحقوني” المنشور على شبكة دليل الريف للإخبار
19: انظر كتاب ” ما قبل السقوط” فرج فودة ؛ من ص 67 إلى 83
20: انظر كتاب ” تاريخ صدر الإسلام والدولة الأموية : تأليف عمر فروخ ، منشورات دار العلم للملايين، بيروت – الطبعة السابعة 1986 – ص 104
21: المرجع السابق ابن كثير – باب فتح بيت المقدس على يدي عمر بن الخطاب – ص 55 .
22: انظر كتاب ” حضارة العرب ” للدكتور نصطفي الرافعي منشورات الشركة العالمية للكتاب ، الطبعة الرابعة، ص 102
23: المرجع السابق الرافعي ، انظر كذلك كتاب ” التاريخ الإسلامي: الخلفاء الراشدين ” لمؤلفه الدكتور محمود شاكر / منشورات المكتب الإسلامي ، الطبعة الثانية/ ص 67
24: حديث صحيح رواه البخاري ومسلم
25: آية قرآنية
26: سورة الأحزاب ، الآية 36
27: المرجع السابق سيد القمني
28: انظر كتاب ” خلفاء الرسول ” للدكتور خالد محمد خالد منشورات دار المقطم للنشر والتوزيع- القاهرة، الطبعة الأولى ملونة – ص 133
29: سورة التوبة، الآية 60
30: المراجع السابق – الرافعي ص 105
31: المرجع السابق خالد محمد خالد – ص 126
32: المرجع السابق ابن كثير ، باب خلاقة عمر بن الخطاب رضي الله عنه – ص 18
33: المراجع السابق الرافعي –ص 168 -169
34: انظر كتاب مرشد جماعة العدل والإحسان الشيخ ” حوار مع الفضلاء الديمقراطيين” منشورات مطبعة الأفق – الدار البيضاء – الطبعة الأولى 1994 – ص 65


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.