لم أحْضُر جزءاً من مهازل الحملة الانتخابية الجارية في المغرب هذه الأيام. فقط٫ كنتُ، وأنا في مَنْأًى عن هذا الضَّجيج الرّثِّ الذي خبرته جيِّداً، وعِشْتُ فُصولَه، حين كانت الدَّوائر، وعدد المقاعد، مُتَواطَأٌ عليها، من طرف الجميع، أي باعتبار الانتخابات، كانت نوعاً من الصَّفْقَة السياسية، بين الأحزاب ووزارة الداخلية٫ ممثَّلَة في شخص إدريس البصري، أُتابِع من بعيدٍ، بعض ما كان يَصِلُني من أخبار، كانت، هي نفسُها التي عرفْتُها، وعِشْتُها في السَّابق. لا شيء تَبدَّل، نفس الوُجوه، نفس السيناريوهات، ونفس الإخراج، الممثلون الرئيسيون، أو أبطال المهزلة، وأنا هُنا أستعمل المُقابل القديم لمفهوم الملهاة، لا يتغيَّرُون، فقط الكومبارس، هُم من يتغيَّرون، وبعض الأكْسِسْواراتْ الطَّفيفَة، التي لا يترتَّبُ عن تغييرها، أو اسْتِبْدالِها، أي تغيير، أو اسْتِبْدال في المشهد العام. العجيب، في ما يجري، أنَّ النَّصّ المسرحيَّ، لم يَطْرأْ عليه تغيير، وكأنَّ الجميع تواطَأُوا على لعب دَوْر فَاوُسْت، في مسرحية يوهان جوته الشهيرة، الَّتي وضَع فيها هذا البطل «المأساوي»، دَمَه، أو رُوحَه، بعد موته «رهينةً» في يَدِ الشيطان، أو وَضَع، بالأحرى، وُجودَه في يَدِ غيره، ولم يعُد هو نفسُه، لأنَّ ما كان يَهُمُّه، هو أن يمتلك «سُلْطةً»، في حياتِه، ظنَّ أنَّها كافِيَةً لتأكيدِ هذا الوُجود، وتَثْبِيت ذاته، التي لم تكن قادرةً على الوُجود بذاتها، أي بما هو إنسانيٌّ فيها، بل بما هو وَحْشِيّ، أو شيطانِيّ، بما أُوازِيه، هنا، بالسلطة، حين تُؤْخَذُ بالمَكْر، والخديعة، والإكراه، أو باستعمال المال، وبيع الضمير، و «النفس»، وشراء ذِمَم البشر، ودِمائهم، واستغلال فقرهم، وحاجتِهِم إلى المال، مثلما فعل الشيطان «مفستوفليس» مع فاوُسْت، تماماً. أذْكُر، أيَّام النِّضال السياسيّ، بالمعنى النبيل للكلمة، الذي كان فيه المُناضِلُ شخصاً له مبادِيء، ومواقف واضحة، وكان لا يدخُل الحزب، أو يكون منخرطاً فيه، إلاَّ بعد المرور من امتحانات، واختباراتٍ عسيرةٍ، وليس بالصُّورة التي باتَ فيها مفهوم النِّضال فاقِداً لِمائه وطَعْمِه القَاسِيَيْن، أي حين كنتُ مُرَشَّحاً باسم «الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية»، في إحدى دوائر منطقة «درب السلطان» بمدينة الدارالبيضاء، وهو المكان الذي فيه وُلِدْتُ ونشأتُ، وكان مَرْتَعَ طفولتي وشبابي، وكان المنافس الوحيد لي، وهو مُرشَّح مستقل، أي مُرشَّح السلطة، بائعاً متجوِّلاً، لا يعرف القراءة والكتابة، كيف كُنَّا نُتواجَه مع أعوان السلطة، ومع من كانت تستعملهم السلطة لتضليل الرأي العام، ولتحريف مسار الدوائر، وصناديق الاقتراع، وكيف كُنَّا نتعرَّض لكل أشكال التهديد، والتَّرهِيب، لكننا، كُنَّا ثابتين على صُمودِنا، ومُصِرِّين، على فَضْح ما كان يجري من مهازل، مهما كانت النتيجة. كان الحزب، آنذاك، حزباً شعبياً، جماهيرياً، حالَما ننزل للشارع، نُحِسّ بالتفاف النَّاس من حولنا، وتضامنهم معنا، لا أحدَ، سوى السلطة، كان يُضايقنا، رغم وجود أحزاب هي صنيعة هذه السلطة، كان مُرَشَّحُوها، يعرفون، سَلَفاً، أنَّهم فائزون لا مَحالَةَ، وهذا ما كان يجعلهم لا يدخلون معنا في أي نوع من المُواجهة، كما أنَّنا، نحن أيضاً، أدْرَكْنا أنَّ حَرْبَنا، كانت مع المخزن، وأعوان المخزن، ومع خرائط إدريس البصري، التي كانت مُصَمَّمَة بعناية كبيرة، ولا مكان فيها لليسار، باعتباره أغلبيةً، قبل أن يظهر «إسلامويوا» التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، في ما بعد، أي بعد أن خرجُوا من جُحورهم، وأصبحوا يدَّعُون الدِّين بالدُّنيا، أو يستعملون الدِّين لبلوغ السلطة، لتصير الأمور إلى ما وَصَلَتْ إليه، على أكثر من صعيدٍ: اليسار تَصدَّع، وأصبح الحزب اليساري القوي، آنذاك، أحزاباً، لا شيء يجمع بينها، سوى الحرب والضغينة. تَفَتَّت «الاتحاد الاشتراكي»، وبدا أنَّ شعاراته، كانت مُجرَّد خدعة كبيرة، ليس لأنها، هكذا كانت في الأصل، أو من حيث المبدأ، بل لأنَّ الحزب، حين اختار الدخول إلى بيت الطَّاعَة، وهو ما حدث للإسلامويين أنفسهم، لم يدخله ببرنامجه هو، ولا بأفكاره، فهو تنازل عن كل تاريخه، وعن نضالاته، مقابل سلطة وَهْمِيَة، سيعترف عدد ممن تَوَلَّوْا السلطة في حكومة التناوب، بذلك، وعلى رأسهم عبد الرحمان اليوسفي، وسيدَّعُون أنَّ هناك لُوبِيَاتٍ، وهي نفسها «تماسيح» بنكيران! لم تسمح بالتَّغْيِير، ما سرَّع بالإخفاق والفشل، وانهيار البيت على قاطِنِيه. بانهيار مشروع اليسار، وأعني به هنا، مشروع التداول على السلطة، أو التناوب عليها، انْهَارَ اليسار كامِلاً، أو ضَعُفَ وتَشَظَّى، ولم يَعُد ممكناً تأليف القلوب، قبل البرامج والأفكار، ما جعل السَّاحَة تفرغ أمام الإسلامويين، ليملأوا هذا الفراغ، بما يَسَّرَتْهُ عليهم الشِّعارات الغيبية التي حَمَلُوها، باسم الدِّين، وباسم مُحارَبة الفساد، والانتصار للفقراء، من اكتساحٍ لقلوب الناس، ممن ضَنُّوا أنَّ بالدِّين يمكن إصلاح أمور السياسة، وتدبير شؤون الإدارة، وضمان حقوق المواطنين، في الشغل، والسكن، وفي العيش الكريم، فَجَنَوعا، بذلك على الدِّين، كما جَنَوْا على السياسة، وعلى مُكتسبات الشعب الهزيلة، والقليلة. اخْتَلَط الحابِل بالنَّابِل، وأفْضَى كل هذا إلى مزيدٍ من التَّشَرْدُم، والرَّغْبَة في السُّلْطة، وفي احتلال الغُرَف، والمجالس، وكراسي الوزارات، وغيرها، مما يُخَوِّل لهؤلاء، أن يعبثُوا بمُقَدِّرات الشَّعب، وبمُكْتسباته، التي جاءت نتيجة نضالات مريرة، لم يكن فيها دور للإسلامويين، الذين كانت السلطة تستعملهم لمواجهة اليسار، وأغلبُها، أجْهَزَ عليها بنكيران ومن معه، في قُمْرَة قيادة الحكومة، بمن فيهم «الرِّفاق» من «الحزب الشيوعي المغربي». المشهد، كامِلا، مَهْزَلة، والجميع فيها يلعبون دَوْر فاوُسْت، الذي لا يهمُّه مع من يتحالَف، ولا يَهُمُّه أمْر دَمِه، ولا ما قد يترتَّب عن هذا التَّحالُف من نتائج، بقدر ما هو مشغولٌ بشهوة الحُكْم والسلطة، والتَّحَكُّم في رِقاب العِباد، واسْتِنْفاذ جُهْدِهِم، وما كسبوه من رِزْق ومال، مثلما في رغبة بنكيران، ومن معه، في تمديد سن التقاعُد، وفي مُضاعفة انخراطات الموظفين، لحماية الصندوق من السقوط في الماء، عِلْماً أنَّ الذين أفْرَغُوا الصندوق، وشربوا ما فيه من دِماء العُمَّال والموظفين، ليس العمَّال والموظفين، بل من اسْتَعْمَلُوا هذه الأموال في غير ما وُجِدَتْ له، واغْتَنَوْا على حساب عرق البسطاء، الذين اختار بنكيران، أن يجعل من هؤلاء البسطاء، الحائِط القصير الذي يسهل القفز عليه، لِحلِّ مشكلة، لا يَدَ لهم فيها، في ما لَمْ يَجْرُؤ على تَحْرِيك ولَوْ شعرة واحدة من رأس أصحاب المال والأعمال، والمُتَنَفِّذين من «التماسيح» والديناصورات. ما الذي يُسَوِّغ لهؤلاء الفاوُوسْتِيِّين، أن يخرجُوا اليوم، بكُلِّ ألوانهم، وأقنعتهم، وألْسِنَتِهِم، لِيَدَّعُوا، وبدون حَياء، أو ذَرَّة خَجَل واحدة، أنَّهُم جاؤوا ليُغَيِّروا، وأنَّهُم سَيُصْلِحُون، مثلما يَدَّعِي العَطَّار، ما أفْسَدَه الدَّهْرُ؟ أليست هذه مهزلة، وهي بين ما دفع بعض الأطراف تخرج لترفع شعار المقاطعة؟ أليس شعار المقاطعة، من حيث المبدأ، مثله مثل شعار المشاركة، وهو حق، وتعبير ديمقراطي، جَهَر به، هؤلاء الذين بدا لهم أنَّ لا شيء سيحدث في الأفق؟ لستُ مع هؤلاء، فالواقع، بما فيها من التباساتٍ، وتعقيداتٍ، لا يحتمل مزيداً من الهُروب، أو التَّنَصُّل من المسؤولية، مهما كانت عبثيتُها، أو لا جَدْواها، لكنَّنِي، مع ضرورة أن نخرج من النص القديم، ومن الإخراج الفَجّ الذي لا يُوافق الزمن، ولا المرحلة الدقيقة التي نحن فيها، ومن نفس الممثلِّين، الذين لا يُجيدون سوى الخُطَبَ، ولا يملكون ما يدفعون به الجمهور للتَّصفيق، طَواعِيَةً، لِما يُبْدِعونه من أفكار، وحركاتٍ، ما يُضْفُونَه على النص من ابتكارٍ وتغييرٍ كبيريْن، وهذا يحتاج، أوَّلاً لمحاسبة كل من تحمَّل المسؤولية سابقاً، ومعاقبتهم برفض قبول ترشيحهم، ومتابعتهم قضائياً، لأنَّهُم فاشلون، ورُبَّما سُرَّاق ومُفْسِدون، أو أشخاص لا أفكار لهم، أو خَذَلُوا الناس، وتنكَّروا لبرامجهم. لا أحد حاسَبَ الكثيرين من هؤلاء الذين عادوا من جديد لِيَتَبَجَّحُوا أمام الشَّعب، بوجُوه سافِرَةٍ، في الجرائد، وفي التلفزيون، والراديو، وفي الساحات العامة، بأنَّهُم، هُم من يملكون خاتَم سليمان، وأنَّهم سَيُطَوِّعُون الجِنَّ والإنس، إذا ما تَمَّ انتخابُهُم، ثانيةً، وثالثةً، ورابعةً، وهَلُمَّ جرّاً… لا تستغفلوا الشعب، ولا تعتبروا الإنسان المغربيَّ بدون ذاكرةٍ، أو هو يَصْفَح وينْسَى، حين يتعلَّق الأمر بالفساد، وبالمُفْسِدين، وبمن يأكُل خُبْزَه، ويمنع عنه الماء والهواء، أو يعبث بشيخوخته، وبتقاعده، وبالغاز الذي يستعمله في طَهْيِ طعامه البسيط، المتواضع، ولا تَظُنُّون أنَّ الشعارات، وما يتحلَّق حولكم من أتباع وحوارِيِّين، أنَّ هذا هو الشعب، الشعب هو هذا الوجدان العام الذي منه تتألَّف قلوب الناس وعقولهم، وما يجمعُهم من إحساس بالظُّلْم والقَهْر، مهما كان مصدرُه، وهو تللك الأمواج البشرية التي خرجت، بتلقائية وعفوية، في الشوارع العربية لتقول لا للفساد والاستبداد، وهو هؤلاء الذين يسخرون منكم ومن شعاراتكم في الفايسبوك، وفي التَّجمُّعات التي تُقيمونها، فيدْحَرؤنَكُم، مثلما حدث مع أكثر من وزير، وأكثر من مسؤول، كان آخرهم بنكيران في مدينة تازة، الذي فرَّ مذعُوراً، رغم ادِّعائه الشَّجاعة والجُرْأَةَ. فمهما ادَّعَيْتُم من تآمُر عليكم، فهذا هو الشَّعب، الذي ما يزال في حاجَة، فقط، للوعي بمُواطَنَتِه، وبدوره كمواطن، وهذا يحتاج لشروطٍ، لم يتوفَّر الكثير منها عندنا، ولا دور للإنسان فيه، بل هذا دور المدرسة، والإعلام، ودور الجمعيات لممدنية، والأحزاب السياسية، والدولة، أيضاً، وتغييب الثقافة، كمُحرِّك لهذا الوعي عند الإنسان. فليس بالخُبْزِ وَحْدَه يَحْيَى الإنسان، وفق العبارة المعروفة في «الكتاب المقدس».