تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    بيدرو سانشيز: إسبانيا تثمن عاليا جهود صاحب الجلالة الملك محمد السادس من أجل الاستقرار الإقليمي    قضايا المغرب الكبير وأفريقيا: المغرب بين البناء والتقدم.. والجزائر حبيسة سياسات عدائية عقيمة    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    تثمينا لروح اتفاق الصخيرات الذي رعته المملكة قبل تسع سنوات    مجلس الأمن: بلينكن يشيد بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.        أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا        تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    دورية جزائرية تدخل الأراضي الموريتانية دون إشعار السلطات ومنقبون ينددون    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    هجوم ماغدبورغ.. دوافع غامضة لمنفذ العملية بين معاداة الإسلام والاستياء من سياسات الهجرة الألمانية    ترامب يهدد باستعادة السيطرة على قناة بنما على خلفية النفوذ الاقتصادي المتنامي للصين    تفكيك أطروحة انفصال الصحراء.. المفاهيم القانونية والحقائق السياسية    مجموعة بريد المغرب تصدر طابعا بريديا خاصا بفن الملحون    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    الأستاذة لطيفة الكندوز الباحثة في علم التاريخ في ذمة الله    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    التقلبات الجوية تفرج عن تساقطات مطرية وثلجية في مناطق بالمغرب    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    علوي تقر بعدم انخفاض أثمان المحروقات بالسوق المغربي رغم تراجع سعرها عالميا في 2024    جلسة نقاش: المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة.. الدعوة إلى تعزيز القدرات التمويلية للجهات    بطولة انجلترا.. الإصابة تبعد البرتغالي دياش عن مانشستر سيتي حوالي 4 أسابيع        دراسة: إدراج الصحة النفسية ضمن السياسات المتعلقة بالتكيف مع تغير المناخ ضرورة ملحة    بريد المغرب يحتفي بفن الملحون    اصطدامات قوية في ختام شطر ذهاب الدوري..    العرض ما قبل الأول للفيلم الطويل "404.01" للمخرج يونس الركاب    جويطي: الرواية تُنقذ الإنسان البسيط من النسيان وتَكشف عن فظاعات الدكتاتوريين    مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل يمكن لليسار أن يستعيد دوره الثقافي؟
بعد ارتباك أدائه السياسي وتراجع أدواره المجتمعية..
نشر في المساء يوم 13 - 05 - 2015

إن أي حديث عن الثقافة المغربية الحديثة لا يمكن تحققه إلا بربط هذه الثقافة، وبالتالي المعاني التي عملت على صوغها، بالحقل السياسي الذي مثل اليسار مرتكزه الأساس. ذلك أن الدعوة إلى التفعيل العقلاني، وسيادة مبادئ التنوير، لم تكن لتخلخل التقليد لو لم يتم التفاعل وحصيلة القناعات الفكرية التي رسخت الفكر المغاير الذي دعا إلى طرح بدائل تساير التحولات التي عرفها ويعرفها العالم. إلا أن توجها من هذا القبيل لم تتح له إمكانات فرض الذات والوجود، إلى المقاومة التي يجابه من خلالها التقليد نزوعات الحداثة والتحديث، خاصة أن القاعدة الثابتة تؤكد أن القبول بالجديد والمغاير لا يمكن أن يتم بانتفاء الدور المؤسسي الذي جسده السياسي ممثلا في أكثر من تنظيم حزبي، والمدني وفق ما عبرت عنه جمعيات ومنظمات ثقافية وطلابية، إلى الإشعاع الثقافي والمعرفي الذي دلت عليه مجلات ثقافية رائدة: أنفاس، أقلام، الثقافة الجديدة، الزمان المغربي، المقدمة، جسور، المشروع، البديل، وغيرها مما لا أستحضره الآن. هذه المجلات رسمت صورة المثقف الجديد المناهض لأشكال التقليد وتمظهرات اليمين، الذي لم ولن يمثل الوجه الحق والحقيقي للثقافة المغربية الحديثة، إذ إلى اليوم، فإن المتداول على المستوى العربي ككل هذا التوجه الذي وسم الثقافة العربية بقوة الحضور، وبالتالي عمق الانتباه لقلق الأسئلة التي طرحها الفكر المغربي من خلال أعلامه البارزين : الراحلان محمد عابد الجابري وعبد الكبير الخطيبي، علي أومليل، طه عبد الرحمن، محمد مفتاح وغيرهم من يحفرون بالجدة والعمق مسار الواقع العربي بحثا عن حلم نهضوي يؤسس لمجتمع متقدم، حر ومفتوح على التعدد.
ولم تكن ريادة هذه المجلات لتتوقف عند الخصوصية المحلية المغربية، وإنما خلقت حوارا ثقافيا تقدميا على المستوى العربي، حيث استضافت ضمن أعدادها الصادرة أسماء عربية طليعية وازنة، عملت على دعم وتقوية جسور الثقافة اليسارية المناهضة، وفي الآن ذاته انفتحت على الفكر الغربي العالمي، حيث نشرت نصوصا عميقة لكل من: لوسيان غولدمان، جورج لوكاش، بيار بورديو، لاكان، بارث، فوكو، ماركس، إنجلز وغرامشي.
ويحق في هذا المقام بالضبط الإشادة بالدور الفاعل الذي تبنته لاحقا على مستوى الترجمة مجلة «بيت الحكمة»، التي أصدرها القاص مصطفى المسناوي. فهذه الحركية الثقافية التقدمية استلزمت تداول معجم ساير طبيعة تحولات المرحلة، إذ أصبح الكلام يتم عن: التغيير، البديل، الثورة الثقافية، المثقف العضوي، البنية السطحية، البنية العميقة، الطبقة الكادحة، الوعي العمالي إلخ.. ولم يغب عن هذه المجلات إيلاء قضية العرب الأولى، القضية الفلسطينية، المكانة المستحقة.
والواقع أن هذه الجهود مجتمعة، لم تكن لتفرض قوة الحضور، دون المس بالحريات الفردية، حيث ثم اعتقال أدباء ومثقفين عقابا لهم على مواقفهم النضالية والتقدمية، مثلما منعت هذه المجلات، التي غدا ذكرها وتذكرها بمثابة حنين لدور اليسار الفاعل والمنتج في المسألة الثقافية التي لم تستطع مؤسسة الدولة ككل تأمين إصدار مجلة ثقافية ناطقة باسمها، مغربيا وعربيا، لتبقى الجهود في مجملها فردية، وخاصة المتاعب التي تشكلت على مستوى الموارد المالية.

اليسار والثقافة
سعيد بنكراد
تقتضي الإجابة عن هذا السؤال الإحالة على سؤال آخر يخص علاقة اليسار ذاتها بالثقافة. فكيف نظر مناضلو هذا التيار إلى الثقافة سابقا؟ وكيف مارسوها في الفضاء العمومي ونوعية الفكر الذي أُنتج ضمن ما كان يَعِد به الحراك الثوري بدءا من السبعينيات إلى بداية التسعينيات؟ عناصر يمكن أن تكون مدخلا لترسيم حدود جديدة بين نشاطين لم نعرف، إلا في النادر من الحالات، كيف نفصل بينهما. فلم تكن «الثقافة»، بمفهومها الواسع، على امتداد تاريخ هذا اليسار، سوى واجهة من واجهات الصراع مع السلطة، دون أن تُشكل، إراديا أو نتيجة قصور في الفهم، خلفية حقيقية تُسند الفعل السياسي وتفتحه على ما هو أبعد من الكسب المباشر في التمثيلية أو في حصة المناصب (أترك جانبا المشاريع الفكرية الكبرى التي تُنسب لليسار، فتلك قضية أخرى). وهو ما كان يعني، وربما مازال، أن الثقافة يجب أن تظل في أحسن الحالات، تابعة للسياسة، وفي أسوئها مجرد نشاط داخلي يؤطره المناضلون والمتعاطفون والباحثون عن ريع. والحال أن الثقافة، وهي إنتاج فكري ومعرفي، وليست أنشطة للتوعية والتوجيه والتربية على المواطنة فحسب، لا يمكن أن تكون رديفا مِطواعا للفعل السياسي، ولا مجرد رافد من روافده. إنها الأصل فيه، أو هي الثابت الذي لا يمكن للفعل السياسي أن يستوعب محيطه ويفعل فيه خارج «أُطر» التوجيه القيمي الذي يتضمنه. فيافطات الحداثة كلها اختصرت في شعارات سياسية تدعو إلى تغيير يتم في «هرم السلطة» خارج «حقائق التخلف الشعبي» و»خصاصه الحضاري». لذلك لم يلتفت اليساريون، في أغلب الأوقات، إلى قيم الفردية والعلمانية والتعددية، فمن يتولى السلطة، في نظرهم، وحده قادر على التغيير بالسياسة لا بالثقافة.
وهذه «الحقيقة» هي التي تقتضي، اليوم، النظر إلى الثقافة باعتبارها فعلا يتم ضمن أفق منفتح على العلم والمعرفة والخبرة الإنسانية خارج كل مردود يُقاس بعدد الأصوات أو المقاعد. فلن تكون السياسة، خارج هذا الغطاء، سوى كيد وغِل أو سلسلة لا تنتهي من المناورات والدسائس.
ليس مطلوبا من السياسي أن يتخلى عن وظيفته، فهو فاعل حقيقي لن يستقيم التنظيم الاجتماعي دون إسهامه هو، وإسهام كل مؤسسات الدولة والمجتمع المدني، ولكنه ليس معنيا بتفاصيل الفعل الثقافي، ولا يمكن أن يوازي بين الفعلين في «التنظيم» و»توزيع المهام». ومن حق المثقف أن يكون فاعلا في الحزب، فذاك حق من حقوقه. ولكن ليس من حقهما الخلط بينهما. فميدان الثقافة هو الرمزي في المقام الأول، أما السياسة فتكتفي بمساءلة الواقعي والملموس ضمن أولويات يحددها الفاعل السياسي استنادا إلى موازين قوى لا تقوم دائما على تشخيص موضوعي ومستقل. بعبارة أخرى، يُغطي الرمزي كل شيء في وجود الناس، بما فيها عوالم السياسة ذاتها، ولكن سلطان السياسة لا يمكن أن يتجاوز حدود ما يُصنف ضمن الواقعي وحده. تقوم السياسة على «الولاء» و»التكتلات» و»الأحلاف» التي تتشكل وتنحل وفق مصالح دائمة التحول، أما الثقافة فوجهتها الحقيقة والعدل خارج ضرورات التأطير السياسي.
السياسة «تشرح»، إنها «خطاب» يحيل دائما على مضمونه المباشر: فهو إجابة عن سؤال آني، أو تلبية لحاجة ملموسة، وهو في الوقت ذاته جزء من «خطة نضالية»، أما الثقافة «فتفهم» و»تؤول». إنها لا تكترث بالوقائع المعزولة، فغايتها فهم سلوك الناس ضمن تراكباته غير المرئية. إن السياسة وحدها تقبل القسمة، وتعلن عن نفسها في الفضاء العمومي من خلال «برنامج» تلعب فيه الكاريزما وشخصية «المتلفظ السياسي» الدور الرئيس، أما الثقافة فتصنف خارج ثنائية الأغلبية والأقلية. إنها تُمارس في «الظل» الاجتماعي والسياسي، إنها تُوجه الناسَ إلى مضمون الخطاب خارج «نجومية» المتلفظ و»جماهيريته». استنادا إلى ذلك، وجب النظر إليها باعتبارها «نسقا يتم من خلاله الكشف عن تجربة وجودية عامة» (إدغار موران)، في حين تُعد السياسة برنامجا سياسيا ليس من ميزاته الثبات في اللحظة والمكان.
وبهذا المعنى، لن يكون المثقف «معنيا» بجوع الناس وفقرهم، فما يعنيه حقا هو قيم العدالة والمساواة والحق والواجب والفضيلة والكرامة الإنسانية. إنه يقدم للسياسي «المبرر» القيمي الذي يُصرِّف من خلاله تكتيك السياسة واستراتيجيتها بما يقود إلى تجسيد هذه القيم في واقع ملموس يشمل كل الناس. إن الخير ليس «طبقيا» دائما، تماما كما أن الحرية ليست سياسة فقط، إنها ما يشكل تفاصيل الوجود الإنساني.
استنادا إلى كل ذلك، من واجب اليسار، الآن، أن يتبنى كل المشاريع التي تحتفي بالقيم الإنسانية النبيلة، لا أن يكون وصيا عليها أو يكتفي بخلق غيتوهات ثقافية تحتفي ب»الحداثة الحزبية» في انفصال عن «المثقف الحداثي». فالتفاصيل السياسية ليست جزءا من برنامج الثقافة، واليسار ليس طائفة، عرقية أو دينية، إنه مشروع حضاري مفتوح على المستقبل وموجه لاستيعاب كل القيم التي تحتفي بالإنسان وتصون كرامته.

هل مازال اليسار قادرا على خلق فعل ثقافي؟
عبد الرحمان غانمي
يبدو أن التفكير في السؤال يعكس ما يعتمل في أتون الواقع حول وظيفة اليسار راهنا، في علاقة كل ذلك بالفعل والسيرورة الثقافية، وأيضا طغيان هاجس الشعور بتراجع الفعل الثقافي الذي كانت تنجزه ثقافة اليسار تاريخيا ولعقود، ما يطرح قضايا واستشكالات صعبة ومرة.
ولعل التصريح والتسليم بانكماش اليسار، ثقافيا وفكريا وفلسفيا وجماليا، هو نوع من تشخيص واقع قائم، أصبح يكرس السأم والبؤس الثقافيين، والضجر من كل فعل ثقافي متوثب، لذلك من المشروع البحث في أسباب هذا المآل، وعن التماس الذي يحدث في مرحلة تاريخية معينة، وفق خصوصيات معينة، بين الفعل الثقافي والعوامل الحضارية والتاريخية والاجتماعية والسياسية التي تشرطه.
ويبدو لي أنه من الضروري التمييز بين مستويين بخصوص مضمون اليسار وأبعاده، وما يصله بالفعل الثقافي:
أولا، استحضار اليسار بمفهومه السياسي والإيديولوجي والحزبي، لما لعبه هذا اليسار من أدوار تاريخية وثقافية، بمختلف مرجعياته الفكرية وتناقضاته، على مسار عقود من تاريخ المغرب الحديث (أساسا بعد الاستقلال)، حتى أصبحت أصداؤه جزءا من مكونات المجتمع، وقد كان الفعل الثقافي يشكل ملمحا زاخرا من هوية هذا اليسار، وكل ما كان يتطلع إليه من مشاريع اجتماعية وأحلام، مما جعل الثقافة رافدا حيويا لكل أفق محتمل ورحب، لذلك ليس غريبا أن نرى كثيرا من المثقفين والمبدعين والمفكرين، الذين أثثوا المشهد الثقافي المغربي والعربي وحتى العالمي، ارتبطوا بشكل مباشر أو غير مباشر، وعضويا باليسار، هذا المعنى يعيش اليوم انحصارا وانكفاء على الذات، إن لم نقل إن اليسار السياسي يحيى اليوم نكسة حادة، تظهر تداعياتها في تبخيس الفعل الثقافي والتبرم منه.
ثانيا، اليسار بالمفهوم الثقافي والفلسفي، الذي يتخطى إطار الانتماء السياسي الضيق، حينما يعبر هذا اليسار عن القيم الإنسانية النبيلة، التي تنشد التغيير والحرية والإبداع، والتي ينبغي أن تتميز بالاستقلالية عن كل الإطارات والمرجعيات السياسية والإيديولوجية التقليدية الجاهزة، والقادر أيضا على استنبات الأسئلة المربكة وتحريك الآسن وعدم الانغلاق والتقوقع على الذات، وامتلاك ناصية النظر إلى الواقع بعينين مفتوحتين، والحذر من الانزلاق في إنتاج خطابات عقيمة وفجة، مثل ما أصبح سائدا ومتسيدا.. هذه المنظومة الفكرية من اليسار يمكن أن تتكيف مع مسارب التحولات، وتنجز فعلا ثقافيا، في سياقات مختلفة، لكن بدورها يمكن أن تنتابها حالات من الارتداد، والاستعصاء المزمن أمام سطوة التافه والمسترذل من الممارسات والإنتاجات والقيم في مجتمع يعاني من تمزقات على مستوى تأصيل هويته ومرجعيته اللغوية والثقافية، وأيضا تطلعاته الاجتماعية والحضارية.
وبصفة عامة، فإن منظومة اليسار ليست إطارا مجردا ومثاليا، أي أنها تقع خارج التاريخ والزمن. هذه المنظومة بطبيعتها متغيرة، مثل كل المنظومات الإنسانية، ولا يمكن لليسار ثقافيا أن ينهض بنفس الأدوار والوظائف التي كانت له من قبل، بنفس الرؤى والأساليب، لأن السياق التاريخي يتغير جذريا وعميقا، في مرحلة تاريخية متقلبة تنتج خطابات وقيما وأدوارا جديدة وعلائق غير مألوفة. وتأسيسا عليه لم يعد الفعل الثقافي، بالضرورة، متصلا بمرجعية واحدة مثلما أنه لا يمكن أن يكرر نفس المضامين مادام مضمون اليسار لم يعد كما كان من قبل، وبالتالي فإن اليسار بشكله الحالي يقف عاجزا وبئيسا عن فعل شيء ملموس. في المقابل يمكن لقنوات عديدة أن تساهم في هذا البناء الثقافي، ومن ضمنها اليسار الذي يمكن أن يعبر عن فهم ومفهومين جديدين للوظيفة التاريخية والثقافية، لأن العملية برمتها ليست حلما، واليسار الحالي غدا مجهضا.

جُرْعَة السُّم الأخِيرَة التي أجْهَزَتْ على سُقراط
صلاح بوسريف
تاريخياً، كانتْ قُوَّة اليسار في مُثَقَّفِيه، أو في المُثقَّفِين الذين كانوا يساريين في فكرهم، وفي طبيعة رؤيتهم للأشياء. لم يكن ماركس، ولا إنجلز، ولا لينين، ولا ماوتسي تونغ، ولا غيفارا، وحتَّى كاسترو، خارج السياق الثقافي، أو بعيدين عن الثقافة، باعتبارها تفكيرا واشتغالا في مجال الرُّموز والدَّلالات. ولعلَّ أنطونيو غرامشي، الذي أعاد التأسيس للفكر اليساري، ليس بمعناه الماركسي المُتَحَجِّر، أو الماركسية التي باتتْ عند مُتَطِرِّفي الفكر الماركسي بمثابة الصَّلاة أو عبادة الأوثان، في ما اقْتَرَحَه من تصحيحاتٍ لهذا الفكر، أو بالأحرى من مراجعاتٍ، هو المثال الأكثر تعبيراً عن علاقة اليسار بالثقافة، أو تأسيس الفكر اليساري وتشييده على يَدِ المثقفين ممن كانوا يشتغلون في مجال الأفكار.
فلا يسارَ بدون فكرٍ يساريّ، كما لا يمينَ بدون فكرٍ يمينيّ. وهذا الفكر ليس قراراً يتَّخِذُه «الحزب»، بأغلبية المُؤْتَمِرين، ولا بصياغة أفكارٍ لا تقوم على تصوُّراتٍ وتَشْييداتٍ نظرية، هي في أساسها، قراءة للواقع وللتاريخ أو التواريخ المُحايِثَة لهذا الواقع، بل إنَّ المُوَجِّهات الفكرية والأيديولوجية للحزب، كيفما كان هذا الحزب، هي حصيلة وَعْيٍ بطبيعة المعطيات والحقائق، وما تُفْرِزُه من نتائج أو من توجُهاتٍ تكون بمثابة «التقرير الأيديولوجي»، الذي هو الخيط النَّاظم لسير الحزب ولنضالاته أو للأفق الفكري والسياسي لهذا الحزب، بكل ما يترتَّب عن هذا من التزام بطبيعة هذا التقرير وبمضامينه، التي بدونها يبقى الحزب فاقداً لمعناه، وفاقِداً لطريقه، أو مُضَلَّلاً، لا ضوء ولا هادِيَ له.
هذا ليس دور القادة، ممن يتكفَّلُون بتدبير العمل النضالي، وتفعيل هذا التقرير في الواقع، فالمثقف داخل الحزب كان هذا هو دورُه، فهو المُنْقِذ من الضَّلال، ومن يحمل مصباح دْيوجِينَ، ولو كانت الشمس في قلب السماء.
حين نعود، اليوم، إلى الأحزاب اليسارية في المغرب، وفي العالم العربي، نجد أنَّ الأحزاب، قاطِبَةً، تخلَّصَتْ من مُثَقَّفِيها واسْتَبْعَدَتْهُم وضَحَتْ بهم، أو هُم من نَفَضُوا أيديهم من هذه الأحزاب، وتخلَّصُوا منها، لأنَّ هذه الأحزاب اكتفَتْ بالسلطة، أو الرغبة في السلطة، وب»التناوب»، كما حدث عندنا، دون برنامج، بما يعنيه هذا البرنامج من تنزيل لفكر الحزب في الواقع، ومن عملٍ على الالتزام بالمبادئ الكُبرى والعامَّة للحزب. ما جرى كان هو إفراغ الحزب من كل هذا، ما يعني، أيضاً، إفراغ الحزب من الفئة المُزْعِجَة والضَّالَّة، أي المثقفين، وهذا كان بمثابة جرعة السُّم الأخيرة التي أجْهَزَتْ على سُقراط.
لا أعتقد أنَّ اليسار في المغرب سينهض من هذا الضَّلال الذي دَخَل فيه إذا لم ينتبه إلى أنَّ جَسَد سقراط هو الذي مات، وليست روحه، وهو مُطالَب بفتح حوار عميق وطويل مع المفكرين والكُتَّاب والفنانين والمبدعين، من مختلف الأجيال والأعمار، لأجل تقييم حصيلة نصف قرن من العمل السياسي، ولأجل البحث في مكامن الخلل، في صيرورة هذه الأحزاب، وما ارْتَكَبَتْه من أخطاء في الطريق، وإعادة قراءة الفكر اليساري، خصوصاً كتابات ومذكرات غرامشي التي كتبها في السجن، وأيضاً إعادة صياغة المفاهيم، والمضامين الفكرية والسياسية، حتَّى تتواءَم مع ما حدث، في علاقة اليسار بمناضليه، وعلاقة اليسار بالدولة، ومفهومه للسلطة، ولتدبير الشأن العام، وطبيعة الروابط الممكنة مع «الإسلاميين»، الذين أصبحوا واقعاً، وحقيقةً لا يمكن التغاضي عنها، وغيرها من الأمور المُسْتَعْجَلة، التي لا تقبل التأجيل.
اليسار، اليوم، مُفَكَّك، مُتَرَهِّل، تقوده خلافاتُه، وتُشَتِّتُه، ولعلَّ «الإسلامويين»، وهذا هو التعبير الذي ينبغي استعمالُه هنا، هُم من استفاد من هذا الوضع، خصوصاً في وصولهم إلى السلطة، وفي تبخيس التاريخ النضالي لليسار، الذي لا دَوْرَ فيه لهؤلاء سوى دور الوساطة في اغتيال عمر بنجلون، وفي جرائم سياسية، هاهو غُبار الزَّمَن يمحوها وكأنَّ لا شيء حدث.

ليستعيد اليسار دوره الثقافي عليه أن يستعيد يساريته
نجيب العوفي
في كنف اليسار المغربي ترعرعت وأينعت الثقافة المغربية الحديثة والحداثية.. حيث ارتبط السياسي بالثقافي في عروة وثقى . فكانت السياسة مسكونة بالهاجس الثقافي، وكانت الثقافة مسكونة بالهاجس السياسي.. دون الدخول هنا في تفاصيل من يهيمن على من؟. فالعبرة بالوفاق الذي كان قائما بين السياسة والثقافة، والذي أضحى الآن شقاقا وجفاء بين الطرفين، حتى طغى السياسي تماما على الثقافي وأزاحه من سدته.
واليسار المغربي المعني هنا، يشمل مختلف فصائله وأطيافه في المشهد السياسي غداة الاستقلال/ الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الاتحاد الاشتراكي، التقدم والاشتراكية، ثم اليسار الجديد، المحظور سياسيا والناشط ثقافيا وأدبيا.
في كنف هذه المظلة اليسارية القزحية الألوان، وجدت الثقافة مرتعها ومرعاها.. أو على الأقل وجدت هامشا وفسحة للحراك.
ولا مراء في أن الحراك الثقافي اليساري في أفق الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الفارط كان مالئا الساحة وشاغلا الناس. وحين نستحضر الآن الملاحق الثقافية للجرائد الوطنية آنئذ، والمجلات الثقافية التقدمية الحداثية،
من عيار، أنفاس، الثقافة الجديدة، والزمان المغربي، والبديل، والجسور، والمقدمة.. وحين نستحضر في السياق ذاته وفرة الملتقيات والمنتديات الثقافية.. حين نستحضر ذلك، يحضر بجلاء وبهاء ذلك الحراك الثقافي، ويتأكد ذلك الوفاق بين اليسار والثقافة. لقد كانت ثمة بوصلة نظرية تهدي وتقود السياسة والثقافة معا. وكان ثمة التحام عميق بمشاغل ومشاكل المجتمع والأمة.كان الالتزام شعار المرحلة.
كان ثمة وضوح في المقاصد والأهداف، ورسوخ في المبادئ والمواثيق. ويبدو اليسار السياسي والثقافي، الآن، كأنه فقد البوصلة. إذ فقد صلابته وتماسكه وزخمه. يبدو كأنه فقد يساريته. لا شك في أن مياها كثيرة جرت تحت الجسر، وأن كثيرا من هذه المياه كان عكرا كدرا، مما أثر سلبا على قوى اليسار وصلابة مواقفه. وليستعيد اليسار دوره الثقافي، عليه، في تصوري، أن يستعيد بوصلته اليسارية الضائعة والشاردة بين الأنواء والأهواء والتباس الأجواء. على اليسار أن يستعيد يساريته وعنفوانه والتجارب العويصة تشكل مصهرا ومطهرا، وقد عودنا اليسار، دائما، أنه البوصلة، والنجمة المضيئة الهادية وسط دياميس الظلام المطبقة.
ليستعيد اليسار دوره الثقافي لا بد من وفاق جديد بين السياسي والثقافي.
وضمن هذا الوفاق الجديد بين الطرفين، لا بد أن يراجع اليسار مواقفه المتأخرة جذريا وبشجاعة نقدية لا هوادة فيها ولا لين.. في قرن واحد (بالفتح) مع المراجعة الفكرية والنقدية لإيديولوجيته ومبادئه الاشتراكية، لتجديدها وترسيخها وإعادة صياغتها في حلة جديدة، منقحة ومزيدة. وتبقى الرسالة التاريخية لليسار، من قبل ومن بعد، هي الانحياز المطلق لجماهير الشعب الكادحة والمقهورة، والمواجهة الشجاعة والمنهجية لقوى الاستغلال الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي.. وأيضا وأساسا وهنا والآن، مواجهة القوى الظلامية الدينية، المسيسة والمحرفة للإسلام السمح الحنيف، والمنادية بالتكفير ضدا على التفكير.. والإسلام براء من هذه الجاهلية الجديدة. هكذا تبدو الحاجة ماسة إلى يسار جديد، وثقافة جديدة، حتى لا يضيع دم اليسار بين القبائل.
وأستحضر، كمسك ختام لهذه الملاحظات، هذا المقطع الشعري من قصيدة «صلاة» للشاعر أمل دنقل، فلعله ناطق بلسان الحال: «تفردت وحدك باليسر.. إن اليمين لفي الخسر، أما اليسار ففي العسر، إلا الذين يماشون، إلا الذين يعيشون يحشون بالصحف المشتراة العيون فيعشون، إلا الذين يشون، وإلا الذين يوشون ياقات قمصانهم برباط السكوت.

الصعب الممتنع
شعيب حليفي
إن جوهر اليسار هو فكر حداثي وتنويري يعمل على تحقيق واقعي للعدالة والديمقراطية والعيش الكريم. وفكر اليسار، كما تَمثَّله المثقف المغربي منذ ستينيات القرن الماضي وعرف نضجه في السبعينيات، ارتبط بشروط عامة وخاصة، وبكاريزمات على المستوى السياسي العالمي والمغربي كانت لها تنظيرات جذرية في واقع على حافة السقوط.
اليوم، أشياء كثيرة تتحول، أهمها أن الثقافة باتت عنصرا أساسيا في بناء المجتمع وتطوره؛ والمثقف يُشكل جسرا بفكره ومساهمته في مجالات الانتقال من مرحلة إلى أخرى، سواء بكتاباته أو مساهماته المباشرة في الإعلام المكتوب والمرئي والمسموع.. وأي خذلان سيكون من طرفه، بشكل مباشر أو غير مباشر.
ربما أراه شكل من أشكال الانكسار الذي طال صوتنا، وبالتالي فعلنا، كمثقفين وُجِدنا من أجل قضايا خارج اهتمامات الحاكمين وسياستهم، ومن أجل أفكار واقفة لا تنبطحُ.. وهو ما تجلى في كتاباتنا وفعلنا الثقافي داخل المجتمع. انكسار مدوٍّ بعد إجهاض تجربة التناوب السياسي في المغرب منذ سنته الأولى، وهو ما كنا نتنبأ به حينها، ولكننا كنا نُمني النفس بالمعجزات.
الآن، اليسار الذي لم يجدد نفسه وأدواته مات وترهل ولن يستطيع حتى التنفس أو النظر بشكل سليم إلى عالم مجنون بإمكانه تدمير كل شيء. أما اليسار، الذي أعاد قراءة الواقع من منظورات جديدة، وتخلى عن كل الأدوات، التي تبين أنها لم تكن لتصمد طويلا أمام الخيانات الإنسانية وأمام واقع أشرس مما وضعنا في التوقعات الأخيرة، فهو اليسار الذي ستكون له، بلا شك، المقدرة على تحفيز الإرادة الخاملة لفعل سياسي وثقافي في المجتمع.
يتبين بالملموس أن مجتمعنا عرف تحولا، ضمن منعرج صعب، رأيناه دون أن نستوعبه أو نفهم القياسات التي اتخذها. الآن، هناك فراغ رهيب في المجال الثقافي، ولن يملأ هذه المهمة إلا المثقفون الملتزمون والمتشبعون بفكر حداثي بعيد عن الانتهازية، التي باتت تطبع كل حركة من حركات العمل داخل المجتمع. الحاملون لوعي ملموس ضمن جمعيات ومؤسسات ونواد ومراكز تنشر ثقافة تقوي دور العقل والمعرفة، وتحارب أيضا قيم التخاذل والفساد.
إنها رحلة طويلة وصعبة، ولكنها ليست مستحيلة، بل رحلة ممتعة.

أولاد أحمد: إذا كان لا بد من خيار بين الشِّعر والحياة سأختار الحياة
الشاعر التونسي ل« »: بورقيبة انتصر على الإخوان المسلمين والتونسيون انتصروا عليه
حاوره – صلاح بوسريف
أولاد أحمد، شاعر تونسي، عُرِفَ بكتاباته الشِّعرية السَّاخِرَة. حتَّى في حديثه العام، وفي ما يمكن أن يجري بينَك وبينه من حوار، أو نقاش حول الشِّعر، وحول القضايا الثقافية العامة، لا بُدَّ أن يُعْمِل السُّخْرِيَة، باعتبارها طريقتَه في النظر إلى الأشياء وفهمها. غارقٌ في الوضوح، وفي المباشرة، وفي نسق شعري غلبت عليه السياسة، وبَقِيَ أسيرَ نظام التفعيلة بصورتها التقليدية، لكنه، كعادته، يُجِيبُ بأكثر من لسان، إذ بقدر ما يَدَّعِي أنه سيتفرغ للمعنى الجمالي في الشِّعر، بقدر ما يعود إلى ماضيه الشِّعري الذي لم يخرج منه. وفي هذا يبدو ذلك القلق الذي لم يخرج منه الشَّاعِر، ليختار السياق الذي ينتصر به لأفكاره. في الثورة التونسية اعْتَبَر نفسَه واحداً ممن "قادوا" هذه الثورة، بتدوينها، ومواكبتها، بالكتابة عنها لحظةً بلحظة، وتأريخها، حتى لا تضيع الأحداث في غمرة الانفعالات والتَّقاطُبات. لا يمكن الحديث عن الشِّعر التونسي المعاصر، دون ذكر أولاد أحمد، وذكر تجربته، رغم ما تتَّسِم به من بقاء في مربع كتابةٍ، ظلت هي نفسها، رغم ما عرفه الشِّعر في تونس من انتقالات عند الأجيال التالية عليه، فهو شاعر مُشْكِل، والشَّاعِر المُشْكِل يحتاج إلى مسافة لقراءة شعره، ولاختبار تجربته، خارج كل المواقف المسبقة، التي غالباً ما تكون خاطِئة، وحاقدة، أو عمياء، أي بما يطمس النص، في مقابل الشخص، كما يحدث في النقد العربي المعاصر.
– كجيل السبعينيات في تونس، وكشُعراء تونسيين معاصرين، تعيشون، اليوم، ما يمكن أن أُسَمِّيه حَجْب أبي القاسم الشابي لكم، بما له من رمزية، أو باعتباره الشجرة التي أَخْفَت الغابة، ووضعت تجربتكم أو أصواتكم الشعرية خارج الاهتمام العام، كيف تنظرون إلى هذا الحَجْب شعرياً؟ وكيف تنظرون إليه كظاهرة ثقافية في تونس؟ وهل استطعتُم أن تخترقوا هذه الغمامة التي شكَّلَها هذا الشَّاعِر، رغم المسافة التي تفصل، اليوم، بينكم وبينه؟
أبو القاسم الشابي عاش في الثلث الأول من القرن العشرين، عاش تحت الاستعمار الفرنسي، والاحتلال العثماني، فهو لم يصل إلى مرحلة الاستقلال، ومع ذلك، ورغم مرور قرن على رحيله مازال اسمُه طاغياً. وهذا يعود إلى عدة أسباب: أولاً، هو نفسُه كان مظلوماً ومُحاصَراً في عصره من طرف مُجايِلِيه، وكانت هناك خصومات ضدَّه، كان يشتكي منها، ولهذا التجأ إلى جماعة «أبولو» في مصر، ومنها عاد إلى تونس شاعراً، مثلما ذهب السياسيون وعادوا أيضاً. كان لا بُدَّ من الهجرة أو الحج الثقافي إلى المشرق. هناك سبب آخر، هو التعليم، والمناهج المدرسية، لأنَّ أشعارَه موجودة في الكُتُب المدرسية، في التعليم الابتدائي والثانوي، وفي التعليم العام. والمُفارَقَة أنَّ هذا الاسم الكبير، تونسياً، وعربياً، وفي الترجمات، لو تسأل الشعب التونسي: ماذا تحفظ لأبي القاسم الشابي، سيجيبك: بيت واحد، هو: إذا الشَّعبُ يوماً أراد الحياة... التاريخ ينصف أحياناً، أنا في كتابي الجديد، وهو «يوميات الثورة التونسية»، وضعتُ له عنوانا هو «القيادة الشعرية للثورة التونسية»، من أين أخذتُ هذا العنوان؟ جميع الأحزاب يميناً ويساراً وإسلاماً لم تدَّعِ أنها قائدة الثورة. أنا افْتَرَضْتُ أنَّ بيتَ أبي القاسم الشابي، هذا، هو الذي قاد هذه الثورة، لأنَّ الكثير من الشِّعارات وقع تَخْرِيجُها من هذا البيت، منها «الشعب يريد إسقاط النظام»، «الشعب يريد إسقاط الحكومة»، «الشعب يريد إسقاط الاستبداد». وقد سافر هذا البيت إلى البلدان التي قامت فيها الثورات.
– بمعنى أنَّكَ تختزل شعرية أبي القاسم الشابي في جانبها السياسي الأيديولوجي فقط.
هو لا علاقة له بالشعر الحديث. هو شاعر، ما في ذلك شك، وناثر، وكَتَبَ «الخيال الشعري عند العرب». أعتقد أنه لا يمكن نقدُه أو تَقْيِيمُه ومُوازَنَتُه إلاَّ في عصره. نحن، اليوم، نكتب بشكل مختلف تماماً، ودخلنا ما يمكن أن نسمِّيه القصيدة العربية الحديثة. أحياناً نستلهم من شعراء أجانب أكثر مما نستلهم من الشعر العربي الجديد. نحن نعيش، اليوم، حداثة كونية. لم تعُد هناك فواصل بين اللغات، والترجمات، والسفر. إذن، الشابي يبقى رمزاً، ما في ذلك شك، ولكن، كما قلتُ لك، أغلب الناس يجهلون شعره.
– هل يمكن أن نتحدَّث عن اختراقات شعرية وجمالية، في شعركم، لهذه الغمامة الكثيفة التي لا تزال إلى اليوم قائمة، رغم بعض ما تَسَرَّب منها من ضوء؟
هنا أعود إلى سبب ثالث، هو مشكل النشر والتوزيع. عادةً الكُتُب التونسية لا تُوزَّع في البلدان العربية الأخرى. فدور نشر بيروت هي التي تُوَزِّع الكُتُب والأشعار. عندنا مشكلة في تونس، فهي تبدو كأنَّها إمبراطورية قديمة، رغم أنَّها بلد صغير، فحتَّى محمود المسعدي، وما أدراك ما المسعدي، لم ينتشر عربياً، كأنَّ هناك لعنة ترى أنَّ الأدب التونسي ينبغي أن يبقى تونسياً، ومحلياً، رغم وجود الوسائل الحديثة الاتصال. إذن هناك مشكلة ينبغي أن تُحَلّ من العديدٍ من الجوانب: النشر، التوزيع، وغير ذلك. لا بُدَّ من الاعتراف بأنَّ هناك كمية كبيرة من الشِّعر الرديء، ومن الفكر الرديء. الإبداع نادر في كل العصور.
– قرأْتُك، كصديق شاعر، جمعتني بك علاقة شعرية منذ سنوات بعيدة، لكن عندما اسْتمَعْتُ إليك، في اللقاء الشعري الذي جَمَعَنا معاً بالمعرض الدولي للكتاب بالدار البيضاء، انتَبَهْتُ إلى أنَّك ما زِلْتَ في نفس المساحة الشِّعرية التي كُنْتَ فيها من قبل، بما في شعرك من نقد وسخرية لاذِعَة ومُرَّة، كما تحافظ على الوزن في صورته الكمية، الكلاسيكية المعروفة. هل هذا يعني أنَّك غير مُقْتَنِع بأنَّ الشِّعر ينبغي أن يُحْدِثَ نَقْلَةً ما، في تجربتك أولاً، وفي التجربة الشعرية التونسية المعاصرة ثانياً، وفي التجربة الشعرية العربية المعاصرة ثالِثاً؟
أنتَ مُحِقٌّ في طرح هذا السؤال. في الحقيقة، أنا أتصرَّف كإنسان، وليس كشاعر. يَهُمُّنِي أن يصل الإنسان إلى حريته مباشرةً، ثم يذهب إلى الحياة، وأنا على يقين من أنَّ الظروف السياسية والاجتماعية، ورغبتي في أن يتحرَّر الشعب التونسي، كانت طاغية على ما يمكن أن نُضْفِيه من جماليات على النص الشعري. لم يكن وضع البلاد مُهَيَّأً ليترك لك مساحةً للخلق والإبداع. كان عليك أن تُخاصِم، يومياً، وتُحارِب، يومياً، من أجل معاشِكَ، من أجل ألاَّ تُصادَر كُتُبُك، وألاَّ يُصادَر صوْتُك. ليس عندنا اختصاص، كأن يكون الشِّعر مهنة، تستغرق وقَتَك كُلَّه. الشِّعر، بهذا المعنى، يتشَظَّى، في الاجتماعي، وفي السياسي، وفي الخطابة، أحياناً، وفي المباشَرِيَة. من حُسْن الحظ أنَّ الثورة قامت في تونس، فهذا النوع من الشِّعر قد يكون أدَّى واجِباً ما. فأنا كنتُ دائماً أسعى وأطْمَح أنْ أُزِيلَ عن شعري، بعد أن تحقَّقَت الثورة، كُلَّ هذه الخطابَة والمُباشَرَة، ولكن المباشرة، أيضاً، من ناحية أخرى، لا تعني أنَّ الخِطاب غير جمالي. هناك كثير من النصوص التي يبذل فيها بعض الشُّعراء جُهْداً بلاغياً ولغوياً، وهي في الحقيقة نصوص تافِهَة، استعارات بعيدة، وعدم قدرة على التعبير. أكبر الشُّعراء، المتنبي مثلاً، يُفْهَم. الآن في المدرسة نفهم الفيزياء، فكيف لا نفهم القصيدة. أنا قرَّرْتُ منذ الآن أن أشتغل على النص، بما هو وُجود، وحياة، وجمالية. ولكن تعرف أنني أكتب النثر أيضاً، فنثري وشعري يتداخلان: ثمَّة نثرية في الشعر، وثمَّة شعرية في النثر، بل ثمَّة من يقول إن أولاد أحمد شاعر في نثره، وناثر في شعره.
– ألا ترى أنَّ هذا الالتحاق بشعرية النص، في اللحظة الراهنة، بعد حدوث الثورة، ويقينك الشخصي بأن الثورة تحقَّقت بالفعل في تونس، وهذا سؤال يبقى مطروحاً، خصوصاً مع عودة العديد من رموز النظام السابق، جاء مُتَأَخِّراً، خصوصاً في الذهاب إلى المساحات الشعرية التي تنتصر للشِّعريّ، الذاتي، الجمالي، والوجودي الذي يَسَع كل التفاصيل والجزئيات، ويَلُمُّها في نسق شعري، أوسع من حَرَج القصيدة السطحية المباشرة؟
أنا أعتبر نفسي محظوظاً خلال هذه الثورة، وثمَّة عدد كبير من الشعراء العرب، ومنهم درويش وفؤاد نجم، صار شعرهم شعارات في الثورات، ومعلَّقات، فالشعب استدعى الشِّعر، بما فيه من تكثيف لكي يقاوم المستبد، سواء في شكله الديني، أو في شكله الأيديولوجي، أو النظام الاستبدادي القديم. ولكن ما معنى الجمال في القصيدة؟ أعتقد أنه إذا كان لا بُدَّ من خيار بين الشِّعر والحياة، سأختار الحياة، فالشاعر إنسان، كائن موجود في مكان ما، يشتغل في لحظة ما، في زمن ما، في محيط ما، هو ليس هَيُولَى، لا يوجد. هذه كلها مؤثِّرات: الذاكرة، الخيال، المجتمع، الواقع، الطموحات، وعلى الشِّعر أن يكون إنسانياً، لا جمالياً. فالسؤال هو هذا: هل على الشِّعر أن يكون جمالياً أو يكون إنسانياً؟ فيما أعتقد، موضوعي في كل كتاباتي، شعراً ونثراً، وأسلوبي هو النقد، والسخرية، أيضاً، كما أشَرْتَ قبل قليل. هناك تهريبٌ للشِّعر عن الإنسان، هناك عدد من الشُّعراء يستعملون التَّقِيَّة، لكي لا يُعبِّروا عن مواقفهم، حتى الجمالية الحقيقية، في وقتٍ ما، ونعرف الكثير منهم، وقد كانوا مُتَورِّطين مع السُّلَط الاستبدادية، يعني، مصالحهم، ومواقعهم الوظيفية، بها أنْتَجُوا شعراً غريباً عن الشِّعر، لكي لا يقولوا شيئاً، لكي لا يتَّخِذُوا موقفاً، في زمن ما. أنا مع هايدغر، في هذا الموضوع، وهو أنَّ الشِّعر ابن اللحظة، أي اللحظة المُتتابِعَةLe temps perpétuel ، تلك اللحظة المُكَثَّفَة التي تتكاثف في كل الأزمنة، لا فرق فيها بين الماضي والحاضر والمستقبل.
– عندما بدأت الثورة في تونس، وخرج الشبان إلى الشوارع لمواجهة نظام بنعلي بصدور عارية، وبنوع من البراءة الفكرية والسياسية، أي دون أي تأطير سياسي أو نقابي، أين كان أولاد أحمد؟
أجَبْتُ الكثير من المرات عن هذا السؤال. فأنا كنتُ في بيتي، لأنني أنا أيضاً مُسْتَهْدَف، وكنتُ أكتبُ يوميات الثورة، وقد صدر الكتاب..
– أنا أتحدَّث عن اللحظة التي بدأت فيها الثورة، قبل أن تشتعل بصورتها المعروفة.
هذه اللحظة التي تتكلّم عنها بدأتْ، من حسن الحظ، في المدينة التي أنتمي إليها، سيدي بوزيد. البوعزيزي من سيدي بوزيدي، وأنا، ساعَتَها، كنتُ في تونس، وزرتُ سيدي بوزيد لكي أرى ما جرى بصورة مباشرة. الثورة كامِلَة دامت وقتاً قصيراً: تسعة وعشرون يوماً منذ بداية الثورة حتى هروب بنعلي. ووسائل الاتصال الحديثة هي التي أتاحت هذا الوقت القصير والوجيز، وهذا ما حدث في مصر مع حسني مبارك، ولذلك هي ثورة ما بعد حداثية. العالم كان يرى ما يحدث بشكل مباشر وحي. أنا ما كان يهمني هو أن أُدَوِّن هذه اليوميات، لأنَّ التاريخ يقع دائماً تزويره في الأزمنة الحاضرة. وبالتالي، رأفةً بالأجيال القادمة، أردْتُ أن أُساهِم، وأن أشْهَد على ما عشتُ بكل ما يمكن من الدِّقَّة، وأن أصف هذه الصراعات، وأن أتَّخِذ منها موقفا. في الجهة المقابلة، كان هناك من يكتب تاريخاً آخر، وأنا أعاصِرُه.
– مع حدوث الثورة، كما حدث في أكثر من بلد عربي، هناك دائماً يَد، تأتي من فوق، وتستولي على هذه الثورة، وتقطف الثمرة ناضِجَةً، وتعمل على توجيه الثورة في الاتجاه الذي تريد، وأعني، هنا، «الإسلاميون» بشكل خاص. كيف نظرت إلى وجودهم في الحراك الاجتماعي الذي حدث في تونس؟ وكيف نظرت إلى وجودهم في السلطة فيما بعد؟ وكيف تعامَلْتَ، شخصياً، مع حضورهم هذا، علماً أنَّ علاقتَك بهم كانت دائماً متوترة؟
منذ بداية كتاباتي، أي منذ بداية الثمانينيات من القرن الماضي، كان لي موقف واضح من الإسلام السياسي، وأنا لا أعطيه أي فرصة لكي يتناقش، خصوصاً مع الشعر ومع الأدب والفكر. ومن سوء الحظ، أنَّ الكثير من المفكرين العرب والفلاسفة، أو من يُسَمَّوْنَ الفلاسفة، لا زالوا يعطون للغيبيات مجالاً، وكأننا في حاجة إلى قرون أخرى لكي نُجرِّب داعش، والإسلام السياسي. أولاً، في الشرع، الثورة حرام شرعاً، وأنا كتبتُ أن الثورة حلالٌ شِعراً. لذلك فالنهضة وغيرهم من الإسلاميين، لم يُساهِمُوا ولو بشهيد واحد في الثورة، وهم مُحِقُّون لأنَّ الثورة حرام شرعاً، يعني أن الخروج على الحاكم حرام شرعاً. إذن، هم لم يُساهِمُوا في الثورة، فهُم كانوا إمَّا مُنْدَسِّين مع أحزاب أخرى، يسارية، أو في الخارج، أو مع نقابات، والبعض منهم كانوا في السجن، ولم يكونوا الوحيدين، إذ كان في السجن اليساريون والقوميون وغيرهم من المعارضين. وقد عادوا من الهجرة، فهُم يُؤمِنُون بالهجرة، وتسلَّمُوا الحكم لأسباب تتعلَّق بالفراغ السياسي لأن الأحزاب الأخرى لم تكن منظمة، ومهيكلة، ومُعَسْكَرَة مثلهم. من حسن الحظ أنَّ الثورة التي قامت في تونس لم تقم ضد استبداد بنعلي، بل ضد استبداد دام أربعةَ عشر قرناً، ليس فقط في السلطة، بل في العائلة، وفي المدرسة، وفي الشارع. فنحن العرب عندنا أوراش كثيرة لتصحيح ما نعيشه من استبداد، فنحن اليوم عالةً على العالم، وصرنا نُهَدِّد الإنسانية. من حُسْن الحظ أنهم وصلوا إلى السلطة لكي ينفضح خطابهم المزدوج، خطابهم الذي يوهِم الناس، أو الغرب، بأنهم يؤمنون بالديمقراطية، فهم جزء من الذين صنعهم الغرب، وقد غادروا الحكم في الانتخابات الأخيرة، لكنهم بقوا ككتلة موجودة في المجتمع، ولذلك لا بُدَّ من صراع طويل. قضية الحرية في تونس أصبحت محسومة. لن يأتي زعيم أو وزير أو رئيس يوضَع له تمثال في الشارع. ستصير تحرُّكات في الشارع. الخوف الآن من المجتمع، من أن يذهب شاب إلى معرض رسم، أو يحضر أمسية شعرية. قد يعتدي على شاعر أو على رسام لأنه في ثلاث سنوات وصلنا إلى الإرهاب، إلى الاغتيال السياسي، وقد سقطوا، لكنهم ما زالوا موجودين. في فترة حكمهم كنتُ سَمَّيْتُهُم في كتابي «حكومة احتلال». ماذا يفعل الاحتلال عادةً؟ أولاً، ينهب الثروات، وهذا ما فعلوه في عاميْن، عوَّضُوا أنفسهم من أموال الشعب. ثانياً، الاستعمار يعمل على تغيير الثقافة، يزرع ثقافة جديدة، وهذا ما فعلوه، أيضاً، فنحن عندنا شعب مسلم، إسلام مالكي، وهُم أتَوْا بإسلام وَهَّابي. فأنا أعتبرهم نوعا من الاستعمار، وأنفي عنهم صفة التونسي، فحتى في خطبهم لا يستشهدون ببورقيبة، ولا بالشابي، ولا بقرطاج، كأن تاريخ تونس بدأ مع عقبة بن نافع.
– وهل ترى أنَّ الباجي قايد السبسي هو الرجل المناسب، الذي سيمثل مُكتسبات الثورة، وسيُحافظ عليها، رغم أنه يختفي وراء شخصية بورقيبة، علماً أنه كان في صُلب النظام السابق؟
ما الذي حصل، كل التونسيين كانوا في الأنظمة السابقة…
– وأنتَ؟
بمن فيهم أنا، فأنا لم أكن مع النظام، ولكن عشتُه، لأنك تستطيع أن تأتي بمدرِّس، وتقول له أنت في النظام السابق، هذا سهل. كل الناس كانوا موجودين على الأرض، إما في السجن، أو في الخارج، أو ممنوعين. النظام السابق لا يعني شيئا، فالشعب هو من يُعيد تَشَكُّلَه، ولذلك تصير المحاسبة والمصالحة. في الانتخابات الأخيرة، حين لم يحصل الإخوان على المرتبة الأولى، قلتُ، آنذاك، إنَّ بورقيبة، كمشروع مجتمعي حداثي، انتصر على الإخوان المسلمين، وعلى الإسلام السياسي، ولكن الشعب التونسي انتصر على بورقيبة في مسألَتَيْن: الحرية والديمقراطية. العودة إلى الوراء ليست دائماً سيئة، في القفز العالي لا بُدَّ أن تعود إلى الوراء، لكي تقفز. هناك إعادة تشكُّل، والثورات لا تنجح في عام أو عاميْن. هناك فرز يقع الآن، في المستوى السياسي، وفي المستوى الاجتماعي. هو، إذن، تصويتٌ ذكي. فرغم أن نِصْفَ الشعب التونسي لم يصوت، فهو لم يعط الأغلبية لأي حزب، إذ ما زال يجرب أو ما زال يتفقَّد سياسياً المراحل القادمة.
– أنا أسألك عن دور المثقفين، في كل ما جرى، وعن دورهم في المرحلة الراهنة. هل ترى أنَّ لهم دورا معينا، أم أنهم استقالوا تماماً من الساحة السياسية والاجتماعية التونسية، وربما شُغِلُوا بالبحث عن مواقع جديدة، في سياق ما جرى من تحوُّلات، ولو على الأقل تحوُّلات فيما هو ظاهر؟
المثقفون، عموماً، ينقسمون إلى جزأيْن كبيريْن: جزء منهم جهاز تنفيذي للسلطة، مثل العسكر والبوليس ووزارة المالية والبنك المركزي، هؤلاء وُجِدُوا في كل العصور، فهم موظفون في الحقيقة، ودورهم تزييف ما يكتبون، وما يقولون، ويزيفون أفكارهم وهذا دورهم. وجزء آخر، صامد، وله تأثير على المجتمع، وهو موجود في وسائل الإعلام، وفي المواقف، في الكتابات. أنا أرى، مثلاً، أنَّ استئصال العُشب الميت أو الفاسد جيد، واستئصال المرض أيضاً، لكن في السياسة يكون الاستئصال غير مفيد. ففي السياسة لا بُد من عزل السياسة عن الدين، سيظل الاستبداد قائماً. كل دين، وأي دين، يرتبط بالسياسة، يُنْتِجُ استبداداً وإرهاباً، هذا لا ينطبق على الإسلام فقط، بل على كل الديانات. نحن لم نصل إلى المرحلة اللائكية كما في فرنسا، ثم إنَّ الدين لا يمثله الإخوان، فهم لم يبنوا ولو جامعاً واحداً عندما وصلوا إلى الحكم، كل الجوامع والصوامع بناها الشعب التونسي بأمواله، وبنتها الدولة. لا بُدّ، الآن، من أن تعود إلى الدولة هيبتُها، لم يعُد ممكناً في تونس، اليوم، أن يتصرَّف البوليس كما كان من قبل. الذين يحكمون، اليوم، صاروا خائفين.
– حدث شطط وعنف من قبل البوليس في بعض المناطق، واحتج الناس وتظاهروا، وحدثت عملية قتل، فهل معنى هذا، كما تقول، أن سلوكات الماضي انتهتْ؟
هذه التجاوزات موجودة، ولكن مقاومة الشعب، والمجتمع المدني، والتشهير، هي التي تضغط. الثورة التونسية قامت على شعاريْن: الكرامة والحرية. الآن حققنا الحرية، ولكن لا توجد كرامة، ولا توجد تنمية، ولا يوجد توازن بين الجهات، ودور الحكومات أن تعمل على هذا، على التنمية، وعلى التشغيل، وتوظيف العاطلين، وحاملي الشهادات، ودعم الجهات المحرومة. صحيح أن الإخوان المسلمين لما حكموا حاولوا تفكيك الدولة، وخلق أمن مواز، وخلق إدارة موازية، هذا شيء راسخ في فكرهم. علينا أن نعود إلى أهداف الثورة في التنمية والتشغيل، ونصلح ما أفْسَدَتْه حركة النهضة، والمتحالفين معها.
– ألا ترى أنَّ دور المثقف أصبح ضرورياً، خصوصاً في التنظير لما بعد الثورة، وفي توجيه مرحلة ما بعد الثورة، وفي توجيه الوعي السياسي عند السياسيين، وعند الشبان، وعند عامة الشعب؟
هذا يحدث في تونس الآن. كثير من اللقاءات والمنتديات تحاول أن تعطي أفكاراً جديدة للسياسيين، وأن ترى الأمور من مختلف زواياها، لأن الثقافة لا تعني المثقفين فقط، لا بُدّ من ثقافة سياسية، أيضاً، لا بُد أن تكون عند السياسيين هذه الثقافة، وعند الشعب. هناك حراك كبير في المجتمع المدني بهذا الاتجاه.
– إذا كانت هناك لقاءات وحوارات حول هذه الأشياء، فهل تسير في توجُّه مجتمع مدني، وربما علماني، أم أنها تسير في سياق ضمان التوازنات داخل المجتمع، خصوصاً أنَّ هناك فاعلا أساسيا هو حزب النهضة، لا يمكن أبداً أن نستأصله، أو نغيبه من الحوار، لأنه لاعب أساسي في المشهد التونسي العام؟.
المخزون الأساسي الذي يعَوِّل عليه حزب النهضة والإسلاميون هو الجهل. فالجهل منتشر في المجتمع، والتعليم تدهور منذ خمس عشرة سنةً. حين يختفي الجهل والفقر، بنسبة ما، سيختفي هؤلاء. لكن الغالبية العظمى من التونسيين عرفوا ما معنى الاغتيال، ما معنى ذبح الجنود، وما معنى الخوف، ولذلك صوَّتُوا، في الانتخابات الأخيرة، على المشروع الحداثي لبورقيبة، وصوَّتُوا لفائدة الأمن، وضد الإرهاب، وهو ما لم يكن موجودا من قبل في تونس. في الدستور التونسي الجديد، الذي فيه كثير من المآخذ، وتمت صياغته بعد صراعات كبيرة واعتصامات، تشكل الدولة المدنية فصلا من فصوله، وكذلك حرية الضمير، لكن يبقى هذا حبر على ورق إذا لم يُطبَّق في الواقع. غالبية الشعب في اتِّجاه الحداثة والدولة المدنية. العلمانيون لهم وجودهم وبقوة، لكن المشكلة في المفاهيم، فشعب جائع وفقير تقول له علمانية! هذا أحْدَثَ تشويشاً في المشهد. كذلك ناخبو النهضة رَوَّجُوا للعلمانية باعتبارها كفراً.
– علاقة أولاد أحمد بالشعر المغربي المعاصر، من السبعينيات إلى اليوم.
هناك الجيل الذي أنتمي إليه، أتابع البعض من شعرائه، وهناك شعراء من الجيل الجديد، بعض الشعراء منهم، أتابعهم وأُعرِّف بهم، رغم أني لا أعرفهم شخصياً، يعني هَمُّنا واحد، رغم أنَّ القصيدة المغربية، كما أحس، فيها نوع من التقية، وربما الخصوصية، لكونها متعلقة بالغرب، والشعر العربي عموماً في أزمة.
– أنت ترى أنَّ الشعر المغربي في أزمة؟
لا، أنا غير مطلع بما فيه الكفاية على التجربة المغربية، ولكن يبدو أنَّ هناك نصوصاَ ممتازةً وشعراءَ جيدين.
– ربما المنظار الذي تنظر من خلاله إلى التجربة الشعرية المعاصرة في المغرب هو أنها في لحظةٍ ما انتقلت من مساحة السياسي والأيديولوجي إلى مساحة الشعري والجمالي، وكونك تنظر إليها من مساحة السياسي الأيديولوجي هو ما جعلها تبدو لك كما لو أن فيها مفردات وأمورا غامضة، أو ما سَمَّيْتَه التَّقِيَة.
ليس تماماً، فأنا في المدة الأخيرة كنتُ مُنهمِكاً في الشأن التونسي، بحيث ينقصني الاطلاع، رغم وجود وسائل الاتصال الحديثة. هناك نهضة فكرية وشعرية في المغرب، وهذا أمر لا شك فيه أبداً.
– إذا عُرِض عليك منصب في بعض مؤسسات الدولة التونسية في المرحلة الراهنة بِمَ تُجيب؟.
هذا النوع من السياسيين لا يعرضون عليك حتى الفُتات. أنا سأتقاعد في الشهر القادم كمنشط ثقافي، وسأتفرغ للكتابة. لن أشتغل في أي وظيفة، مع أيٍّ كان، ومع أي سلطة، إلا إذا كان لي مشروع شخصي، أعني مشروعا ثقافيا، أُنَفِّذُه مثل أي تاجر في هذا العالم، كأن أبْنِيَ بيتاً للشعر، أو أسْتَحْوِذَ على فيلا من أملاك الدولة، وهي كثيرة، أملاك مُصادَرَة، أملاك الشعب، وأحولها إلى مركز ثقافي، يمكن هذا. أما العمل معهم فهذا غير ممكن.
– يبدو لي أنك سبق أن استوليْتَ على بيت الشعر التونسي، كنتَ أحد مؤسِّسِيه، ورغم ذلك فشلتَ في أن تُدير هذه المؤسسة، وحدثت مصادمات، وقاطعك الشعراء إلى أن سُلِبَ منك البيت وأخذ اتجاهاً آخر.
الآن إمكانيات العمل ممكنة، قد يكون لك مقر، وقد لا يكون، ويمكنك أن تنشط. ربما أتفرغ للكتابة نهائياً، وهذا هو ما أفكر فيه. أما بيت الشعر فلم يعُد يهمني، لأنه، في الأصل، لا يشتغل، فأنا قد أستنبط فكرةً أخرى، وأعمل عليها، مثلما استنبطتُ فكرة بيت الشعر، التي صارت منتشرة في العالم العربي، وفي عدد من الدول.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.