سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
محمد جزائري "الشرق الأوسط": المشهد السياسي في تونس الحلقة (3): الدوران حول الذات.. «اليسار» التونسي نمطية احتجاجية بلا فعل سياسي يبدي هوسا بالممارسة السياسية باعتبارها مصالح وتحالفات غايتها الوصول للحكم.. رغم تحولات 2011
رغم الخيبات التي منيت بها التيارات اليسارية فيما اصطلح عليه ب«الربيع العربي»، فإن اليسار التونسي يبدو حالة استثنائية إلى حد ما. ولكن قبل استطلاع جذور الحراك اليساري التونسي ودوره في الحياة السياسية ماضيا وحاضرا، لا بد من تقديم تصور لنوع الانكسارات السياسية التي مني بها سابقا. في كتابه «نحو نهضة لليسار في العالم العربي»، يرى الكاتب اللبناني كريم مروة: «لا خيار أمام هذا اليسار سوى الدخول في التجربة من جديد، بواقعية قصوى، وبنفس طويل، ومن دون أوهام، وعلى أسس مختلفة في أمور جوهرية عن التجربة السابقة، في الصواب وفي الخطأ فيها، التي خاضها اليسار القديم (..) فإذا كانت تلك التجربة قد اعتبرت أن الطبقة العاملة في مفهومها القديم هي حاملة مشروع التغيير، وأن بعض شرائح المجتمع من الفقراء ملحقة بها، فإن وقائع العصر تشير إلى أن الأمور اختلفت عن السابق، وأن الشرائح المعنية بالتغيير قد كبرت، وتنوعت، وتعددت، حتى وهي تختلف فيما بينها في بعض المصالح». غير أن الجدير التنبيه إليه أن اليسار المشرقي العربي الذي يعيش قطيعة في أدبياته الكلاسيكية مع الشارع، لا يبدو أن اليسار المغاربي يعيش نفس أزمته، أو على الأقل بنفس القدر، خصوصا في ميله الواضح ل«الشعبوية»، خصوصا مع سيطرته على النقابات العمالية، وما لها من طاقة في القيام بعملية التحشيد الجماعي، وتحريك الإضرابات والاعتصامات، وهذا يبدو جليا في تونس، في كون حزب النهضة لم يكتسح الانتخابات، فضلا عن بحثه عن شراكة سياسية مع أطياف هذا التيار، تضمن حدا أدنى من الواقعية السياسية. يعد حزب العمال الشيوعي التونسي أحد أعرق وأقدم الأحزاب الماركسية «الكلاسيكية». برز في الثمانينات بقيادة حمة الهمامي، ولا يزال، حيث كان فاعلا ضمن التكتل اليساري المناوئ لحركة الاتجاه الإسلامي التي يتزعمها راشد الغنوشي رئيس حزب النهضة. وهذا الموقف السياسي لا يزال ساريا إلى اليوم. إبان تقلد زين العابدين بن علي مقاليد إدارة البلاد، اجتمعت الأحزاب على توقيع ما عرف بوثيقة الميثاق الوطني، غير أن حزب العمال التونسي رفض التوقيع على هذه الوثيقة، وتم ملاحقة قيادييها على أساس أنهم ينتمون لحزب غير مرخص له بالعمل. وظل في حالة سرية حتى قيام «الثورة»، وتمت عودة الاعتراف به، غير أنه حتى إبان سريته ظل له تأثير مهم في «الاتحاد العام التونسي للشغل» وهو عبارة عن منظمة نقابية. غير أنه لاحقا ظهر في تونس توجه عرف ب«اليسار الجديد». يقول توفيق المديني، صاحب كتاب «تاريخ المعارضة التونسية من النشأة إلى الثورة»: «على الرغم من أن الحزب الشيوعي لا يدعي أنه يحتكر اليسار، فإن تنظيمات اليسار الجديد في تونس تبنت آيديولوجية معادية للأحزاب الشيوعية والبلدان الاشتراكية، انطلاقا من النظرة الماوية، وبتأثر مباشر من الحركات الماوية في فرنسا». ويرى المديني أسبابا وراء ميلاد هذا «اليسار الجديد» المتمرد على الشيوعي في شكله الكلاسيكي، «شهدت أوروبا عامة وفرنسا خاصة في بداية الستينات ولادة الحركات الماوية والتروتسكية، التي كانت تعد الأحزاب الشيوعية والكلاسيكية أحزابا تحريفية، وانتهجت خط العداء للبلدان الاشتراكية عامة، والاتحاد السوفياتي خاصة، فضلا عن ظهور أزمة الدور القيادي للحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم، ومعها فقد مصداقيته في نظر جزء أساسي من الشباب الجامعي». تلك كانت أبرز الملامح في الحياة اليسارية ونشأتها التونسية في عجالة، لا يحتمل أكثر منها تحقيق صحافي في صحيفة سيارة، ولكن ما هو موقع هذا «اليسار» اليوم في الساحة التونسية؟ وهل لا يزال فاعلا ومؤثرا ويملك تصورا لإدارة البلاد سياسيا أم أنه ظل حبيس تصوراته الاحتجاجية وشعاراته القديمة؟ يقول شكري بلعيد، من حركة «الديمقراطيون الوطنيون» اليسارية العريقة في حديثه ل«الشرق الأوسط»: «اليسار التونسي بعد عام ونصف من الثورة، يعيش مخاضا جديدا، لأن له تاريخا عريقا وقديما، وموجود بفاعلية لدى النخبة، وفي تونس تحديدا خلافا للأقطار العربية الأخرى. حيث إن له حضورا قويا داخل الوسط الأكاديمي، الحقوقي، النقابي العمالي، والحركة النسوية. لذلك ظل يلعب أدوارا رئيسية. ولكن اليسار الحزبي السياسي كان ولا يزال مشتتا، خاصة بعد خروج هذه الأحزاب من نطاق السرية إلى العلن. ولم تستطع التعامل مع هذا التحول بتحقيق جبهات متكاملة فيما بينها». ويمثل بهذا التشتت مضيفا: «تقدمت هذه الأحزاب للانتخابات بشكل مجزأ، لذلك كانت النتيجة ضعيفة، مع العلم بأنه بعملية حسابية بسيطة، كان يمكن لنا أن نشكل القوة الثانية في عدد النواب في المجلس التأسيسي، وهذا ما جعل جناحا من اليسار يدخل في عملية تقييم جدية لإعادة صياغة تموضعه في الخارطة التونسيةالجديدة، والعمل على خلق جبهة تقدمية لقوى اليسار من أجل تثبيت بديل سياسي يطرح نفسه للحكم». منذ عام ونصف على «الانتفاضة الشعبية» وجميع الخيوط تشير لأيدي الحركات اليسارية في تنظيم الإضرابات والاعتصامات العمالية. ظل يسبغ عليها أدبيات المنظمات الاحتجاجية، وليست الفاعلة سياسيا، ما يطرح تساؤلا من نوع: إذا كانت القوى اليسارية بهذه القدرة على «التحشيد» فلماذا عجزت عن تحقيق حضور في صناديق الاقتراع؟ يرى بلعيد أنه «تساؤل فيه من الوجاهة الكثير فيما يخص التجربة التونسية، ولكن اليسار التونسي ناضل وتربى تحت الديكتاتورية، ما صنع في عمقه الحركي والفكري طرائق احتجاج قوية ومتعددة، ولكن عند الخروج للعلن، لم ولن يكون سهلا له التحول من طور لطور، ومن مستوى لمستوى، بهذه السرعة، فظل الطابع الاحتجاجي طاغيا على سلوك اليسار. لا بد لليسار من برنامج بديل يرتكز على إطار تنظيمي، يقدم نفسه بديلا للحكم، يجب أن يترك اليسار التونسي الهامش وينتقل إلى قلب التحول التونسي السياسي الديمقراطي، مستفيدا من عمقه الاجتماعي». هذه السياقات لحضور اليسار كفعل سياسي يبدو مخيبا لشق كبير من اليساريين التونسيين، الذين كانوا على ما يبدو ينظرون للمرحلة كفرصة تاريخية لصناعة تحول في طبيعة الممارسة. يقول مصطفى القلعي، المثقف اليساري التونسي: «إن العجب والاندهاش ليصيبنا ونحن نرى اليسار التونسي مستمرا على النهج نفسه على الرغم من التحولات العاصفة التي شهدها المجتمع التونسي، منذ مطلع سنة 2011. فمن الغريب أن يسير اليسار دائما دون أن يلتفت إلى الوراء قليلا، ودون أن يتشوف الآتي. إنه لا يرى إلا بين قدميه. وهو يتوهم أنه يتقدم. فهو يبدي هوسا عجيبا بالممارسة السياسية، السياسة باعتبارها مصالح ومكاسب وتحالفات خفية وعلنية غايتها في النهاية الوصول للحكم». ويزيد القلعي في مقال ساخط على اليسار: «ما نرغب في تسجيله بإلحاح هو أن اليسار التونسي اختزل وجوده كله في الجانب السياسي الميداني الجماهيري. وفي المقابل أغفل الجانبين الثقافي والنقدي إغفالا تاما. ولا نستطيع أن نجزم بالداعي إلى إهمال الفعلين الثقافي والنقدي، هل كان ذلك نتيجة شروط المرحلة كما يحب أن يعبر اليسار؟ أم نتيجة لخيارات استراتيجية تقدم الميدان على الفكر؟ أم نتيجة لرؤية نفعية براغماتية آنية تستعجل الصراع الاجتماعي ضد قوى الردة والصراع السياسي وضد السلطة بعيدا عن السجال الفكري؟ أم نتيجة رؤية منغلقة لا تاريخية، ترى أن الفكر الماركسي خارج عن الشرط الإنساني، وأنه فكر قد اكتمل ولا مجال لإثرائه ومراجعة مسلماته في ضوء المتغيرات الكونية؟ أم نتيجة عجز عن المساهمة في التأسيس الماركسي بفعل قصور معرفي ومنهجي واختيار الاكتفاء بالشعارات المدوية الراجمة المفرغة من كل محتوى إلا سلطة حاملها، لا سيما إن كان من الخطباء، شأن زعماء اليسار السياسي التونسي؟». عبد الرزاق الهمامي، يرأس «حزب العمل الوطني الديمقراطي»، يؤكد أن ما تقدم من نقد للحركات اليسارية في تونس «مآخذ جدية»، لديه ما يزيده في آلية المراجعات التي يجب أن يجريها اليسار على خطاب السياسي. ولكن من هو الهمامي وحزبه قبلا؟ لهذا الحزب امتداد بالجامعة وتمثيل في الاتحاد العام لطلبة تونس، حيث إن قياداته كانت من أبرز عناصر الحركة الطلابية خلال سبعينات القرن الماضي، لكن دورهم الطلابي انحسر مع تصاعد تأثير «الوطنيين الديمقراطيين»، فنظموا حركة تمرد نقابية سنة 1978، انتهت بإيقافهم وتشتتهم ليعودوا كمجموعة نقابية سرعان ما انقسمت على نفسها في صراع علني بين مجموعتين يتزعم إحداهما عبد الرزاق الهمامي، وقد قدم الحزب نفسه «كتتويج لمرحلة من النضال بدأت منذ أكثر من ثلاثين سنة. وكان جمعية يسارية محظورة، تم الاعتراف بها كجمعية سياسية بعد فرار الرئيس زين العابدين بن علي. ويقول الهمامي في حديثه ل«الشرق الأوسط»: «هناك مآخذ جدية على الحركات اليسارية التونسية، فهي ما زالت أسيرة لنمط فكري قديم، يعيش قطيعة مع الوجدان التونسي، والاستبداد الذي جوبهت به من قبل نظامي بورقيبة وبن علي تركت أثرا عميقا». ولكن لماذا على الرغم من كل التنكيل والقمع الذي جوبه به «الإسلاميون» أيضا في تونس، ظل حضورهم ملحوظا في «الوجدان التونسي»؟ يجيب الهمامي: «الهوية مطب كبير وقع فيه اليسار التونسي، فلم نكن نولي إشكالية الهوية ببعديها العربي والإسلامي اهتماما كبيرا. وربما افتعلت بعض المواجهات في المجتمع بين الإسلاميين بكل أطيافهم والعلمانيين، فتصور الشارع أنه صراع بين متمسكين بالهوية ورافضين لها، وهي معارك أضرت كثيرا باليسار التونسي». وكتصور مستقبلي يرى «الهوية في حقيقتها قضية جوهرية، التعامل معها يجب أن يحظى بأولى المراجعات اليسارية الجادة. والتوجه للناس بما يلائم تقبلهم لمألوف مقولاتهم المتعلقة بهويتهم العربية والإسلامية. نحن بالطبع، لا يمكن أن نتبنى أي خطاب يستخدم الدين كشعارات سياسية. ولكن في الوقت نفسه أصبح جناح كبير من اليسار يؤمن بأن أي خطاب يضع نفسه في قطيعة أو صدام مع الهوية بشقها القومي أو الديني لن يجد موقعا في الوعي والوجدان المجتمعي التونسي». الأحزاب اليسارية عاشت منذ فترة الستينات والسبعينات انشقاقات متتابعة، وحالات من الهبوط والصعود بصورة مستمرة. يلخص أسبابها الباحث توفيق المديني في ثلاثة أسباب، هي كالتالي: «وجود بنى اجتماعية متخلفة في تونس، وتشكيلات اجتماعية (ما قبل رأسمالية) تابعة للاقتصاد الرأسمالي العالمي أدت إلى تفتيت المجتمع التقليدي، وعدم بناء اقتصاد إنتاجي حديث، بل اقتصاد خدمات تابع». إضافة لسبب ثان وهو «غياب التنظيم في حياة المجتمع التونسي العامة؛ لأن انهيار القبيلة، وتحلل القرية، وتحول الحي الشعبي إلى جزء من مدينة متغربة، وانهيار نمط الإنتاج التقليدي، لم يرافقها قيام نمط إنتاج حديث، ولا مدينة حديثة، ولا قرية حديثة.. فسقطت حدود وضوابط اجتماعية ولم يقم بديل لها». ويزيد المديني كسبب ثالث: «محاولات المراكز القيادية في هذه الأحزاب اليسارية الاستئثار بالسلطة، ومنع أي مناقشة نظامية لهذه القضايا، فضلا عن النقص الشديد في الدراسة الخاصة بالتجارب التنظيمية، لأن التجارب الحزبية اليسارية تجارب غير تنظيمية. ولذلك فإن الحزب اليساري التونسي، سواء كان الحزب التقليدي أو الجديد، يضعف ويهمش، لتبرز الانتفاضات والهبات الشعبية، ولتكثر داخل هذه الأحزاب اليسارية الانقسامات وحتى الصراعات، وتثبت هذه الأحزاب كل يوم أنها عاجزة عن تحقيق أهدافها». والحال، أن انكفاء اليسار التونسي على ذاته، ومراوحته الحائرة لمكانه، غير القادر على الخروج من تمظهراته «الاحتجاجية»، وفي الوقت نفسه غير قادر على تقديم نفسه كمشروع وبديل حكم سياسي، ليس حالة تونسية خاصة. واسترسال هذا الكم من الأحزاب التونسية اليسارية في جدليات نظرية بين «الماركسية، الماوية، والتروتسكية» يبدو أقرب للمنهجية «السلفية» في استلهام نماذج وبنى سياسية واقتصادية تجاوزها التاريخ المعاصر. وتجدر هنا الإشارة إلى أنها ليست أزمة اليسار التونسي وحيدا. يقول المثقف والباحث اللبناني المعروف جورج طرابيشي في كتابه «هرطقات» عند حديثه عن المثقف وسقوط الماركسية: «ونحن إذ نطالب المثقف العربي بمراجعة مؤلمة للذات، ولجهاز مفاهيمه الذي بات باليا، فإننا لا نقصد المثقف الماركسي فحسب، ولا المثقف اليساري أو التقدمي عموما، بل كذلك المثقف المعادي للماركسية الذي يبدو اليوم هلعا لسقوط الماركسية أكثر من المثقف الماركسي نفسه. ولا غرو، فقد كان جعل من نقد الماركسية ونقضها شغله الشاغل (..) إن أحد الثديين اللذين ترضع منهما الآيديولوجيا العربية المعاصرة قد جف: النص الماركسي. وبديهي أن الإغراء كبير في التحول نحو الثدي الآخر: النص السلفي. فمن اعتاد حليب النص يصعب عليه أن يفطم نفسه عنه. ولكن قد تكون الفرصة مواتية أيضا لكي ينعتق المثقف العربي نهائيا من أسر النص، ولكي ينفض عنه ثوب العقلية النصية، ولكي ينصرف أخيرا إلى ممارسة وظيفته الحقيقية التي هي التفكير». *تعليق الصورة أحدى الإضرابات والاعتصامات العمالية بتونس