الشعوب العربية تنفست نسيم الحرية وتذوقت طعمها هو آخر المتحصنين بحصن الكلمات المتمردة لأنه يعتبر أن الثقافة هي آخر القلاع التي تسقط.. هو صوت الضعفاء والمهمشين لم يراهن في حياته لا على نظام ولا على شخص فقط؛ راهن على الشارع والمواطن البسيط لذلك لم يغير توابثه ومبادئه لأن عصا الظلم والديكتاتورية لم تنقشع من الكون.. هو شاعر صدامي ارتبط اسمه في ذاكرة الأجيال العربية بشعر الالتزام والثورة والأغنية البديلة. شكل ثنائيا مزعجا للسلطات وكافة الأنظمة الديكتاتورية مع رفيق دربه الشيخ إمام؛ وذاقا خلال رحلتهما مرارة السجون والجوع والتشرد لأنهما ببساطة احترقا في هوى هذا الوطن.. الأزقة الخلفية تعرفه والمعتقلات شاهدة على أحلى القصائد التي قالها. قال عنه الشاعر الفرنسي لويس أراجون: «إن فيه قوة تسقط الأسوار»، وأسماه الدكتور علي الراعي «الشاعر البندقية»، في حين يسميه الرئيس السابق أنور السادات: «الشاعر البذيء». في عام 2007 اختارته المجموعة العربية في صندوق مكافحة الفقر التابع للأم المتحدة سفيرا للفقراء.. الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم المعروف في الأوساط الثقافية باسم «الفاجومي».. في طيات جبينه ومطفأة جسده يحمل هموم جيل بكامله وذاكرة وطن من السجن إلى السجن ومن الماء إلى الماء... التقيته في هذه اللحظات التاريخية المتلبسة بدماء الشهداء والمتسربلة ببارود الثورة فاستقبلني بجلبابه الشهير وضحكته الطفولية العميقة وروحه المرحة الساخرة.. .امتطينا صهوة الشعر والطفولة والذكريات والتسكع والسجن والثورة فخرج الكلام على عواهنه دونما تكلف أو تزلف.. وبقيت صدى صرخته المنتصرة للشعب «الشعب هو الباقي حي.. هو إلا كان.. هو الا جي... طوفان شديد لكن رشيد... يقدر يعيد صنع الحياة... والشعب لما يقول يا أصحاب العقول... نسمع ونفهم.. ونحترم صوت الالاه»... بقيت صرخته تتردد عبر كامل هذا الحوار فدعونا ننصت لصوت الشعب ووجع الكلمات في هذه الورقات المتواضعة. * كيف عشت فجر انبلاج الثورة التونسية والمصرية، وأنت الذي كنت دائما تتنبأ وتصرح بأنك لن تموت حتى تقوم الثورة العربية؟ - صحيح كنت أردد دائما في أشعاري وتصريحاتي أنني لن أموت الا بعد أن تتحقق الثورة في الوطن العربي كله..والحمد لله أنني عشت هذه اللحظة التاريخية التي أنتظرتها أجيال متعاقبة..وأنا اليوم أريد أن أحيا أكثر وأعيش بينكم الى أن يزول النظام السوري والسعودي وبقية الأنظمة الديكتاتورية. * نعم، هل أنت متفائل بمستقبل هذه الثورات العربية في ظل التجاذبات الكثيرة التي تتقاذفها؟ - بخصوص التفاؤل فأنا جد متفائل بالمستقبل خاصة مع وجود جيل شباب النت، وكذلك ما دامت المرأة العربية الولادة موجودة فلا خوف على مستقبل هذه الثورات مهما كانت التحديات..المرأة العربية خلاقة ومتحدية بطبعها وهي ترمز لخصوبة الحياة وثراءها وبمجرد أن تقول لها صباح الخير تحبل..ومن هنا لا يمكن أن نسحب خيبة جيل على الجيل الذي يليه. * هل تعتقد أن هذه الثورات ستحقق استقلاليتها وستختار نظامها وحاكمها أم سيتم الركوب عليها وتوجيهها من طرف القوى السياسية الخارجية خدمة لأجندة غربية وأمريكية؟ - أعتقد أنه لابد أن تحصل محاولات للسيطرة والتوجيه من قبل القوى الاستعمارية الصهيوأمريكية خدمة لمصالح إسرائيل وأمريكا والغرب ولكن رغم أن الثورة لم تكتمل بعد في تونس ومصر، إلا أن من ينظر بعمق لما حدث سيلاحظ التغيرات الجذرية التي تقع في كلا البلدين...يا أخي أنا الآن حينما أتجول في شوارع تونس أو القاهرة صرت أتنفس هواء نظيفا وأتذوق طعم الحرية بزوال الفساد والثلوت والظلم والاستبداد..وتبقى طبعا المعركة متواصلة والتحديات مطروحة. * بين تراكم تاريخ الوعي النضالي الذي قام به جيلكم، وبين الهبة العاصفة لأجيال اليوم التي تميزت بالتلقائية والعفوية أين تتموضع هذه الثورة العربية؟ وهل فاجأتك خاصة مع ارتباط صورة الإنسان العربي عند البعض بعدم قدرته على الثورة؟ - في الحقيقة أنا لم أفاجأ بهذه الثورة، لأنني كنت دائما أنتظرها وإلى حد سويعات قليلة قبل انبلاجها بقيت مؤمنا بما زرعه جيلنا من وعي نضالي على مر التاريخ والحمد لله أنه لم يضع هباء وأعطى أكله. ربما لم أكن أعرف أنها ستقوم من تونس ولكن مع ذلك حين خرجت الثورة من تونس لم أفاجأ لأن تونس حالة ثورية خاصة في الوطن العربي.. منها خرج أبوالقاسم الشابي وابن خلدون وغيرهم من المبدعين الكبار... ولذلك كل هذه التراكمات على مر التاريخ تترك حتما في التربة خصوبة وجذورا صالحة. * هل تعتقد أن عاصفة الثورة وريحها الصرصر التي تهب سريعا على المنطقة العربية قادرة على كنس كل أشكال الديكتاتورية والاستبداد والظلم المعشش منذ قرون في مخيال الشعوب العربية وفي لاوعيها؟ - أعتقد جازما أن الشعوب العربية قادرة على إعادة صياغة الواقع مهما كان مترديا... والإرادة القوية والمتحدية لهذه الأجيال الشابة تستطيع أن تكنس كل أشكال الظلم والخوف والديكتاتورية المعششة في مخيالنا منذ قرون. اليوم الثورة وصلت إلى اليمن على حدود السعودية وسوريا تكافح من أجل التخلص من هيمنة الاستبداد.. وليبيا أيضا خطت خطوات مهمة نحو الانعتاق ونحو الحرية... إذن هذه الريح الصرصر كما وصفتها أنت سوف تكنس كل الأنظمة الفاسدة مهما طال الزمن أو قصر. * كيف تقبلت الثورة الليبية خاصة أنه تربطك علاقة صداقة كبيرة بالقدافي وأنت على اتصال دائم به وتعرف خلفياته وطريقة تفكيره؟ - أعتقد أنني كنت «حمار» -«قالها بلهجته المصرية المتهكمة»- لأنني تصورت أن القدافي سيصحو من غيبوبته ويجمع الشباب الليبي ويسلمهم السلطة قائلا لهم أريد أن أستريح... ولكنه للأسف لم يفهم بعد أن التاريخ قد تجاوزه..وأن هذه الثورة ثورة جيل كامل وقد بدأت ولن تنتهي إلا بالنصر وخصوصيتها أنها ثورة غير مؤدلجة. * دولتك الشعرية دالت.. ودولة الديكتاتورية زالت فما هي رسالتك لهذه الأنظمة الاستبدادية والى شباب الثورة الأحرار؟ - أقول لهذه الأنظمة المتعفنة عليك لعنات الأرض كلها وإلى مزبلة التاريخ... وأقول لشباب الثورة الأحرار صابروا واتبثوا ولا تتزحزحوا عن مبادئكم والنصر حليفكم في النهاية. * هل تعتقد أن اللحظة التاريخية الراهنة مواتية لخروج السجين العربي من كهوف الظلام وسانحة لتحقيق وتطبيق «نظرية الثورة العربية» التي نظر لها عصمت سيف الدولة؟ - هذا الكلام ينم عن أصالتك وأصالة جيلك... وأعتقد أنه الشعر بعينه.. بل أنا متأكد من ذلك.. وما في شك أن اللحظة مواتية جدا لخروج الشعوب العربية من كهوف الظلام وعصور الاستبداد وقد ترجمت هذا كله في قصيدتي التي عنوانها «صوت الالاه» وأقول فيها «الشعب هو الباقي حي..هو إلا كان..هو الا جي...طوفان شديد لكن رشيد...يقدر يعيد صنع الحياة...والشعب لما يقول يا أصحاب العقول...نسمع ونفهم..ونحترم صوت الالاه»..لذلك دائما أقول أن الشعب هو صوت الالاه في الأرض...وصوته سيصدح دائما عاليا... * تربى جيلنا على أصوات مثل الشيخ إمام ومرسال خليفة وأشعار أحمد فؤاد نجم ومحمود درويش وأمل دنقل، عبرت عن فترة سابقة من الوعي العربي وحملت همومه وإيديولوجيته فهل تعتقد أن الثورة اليوم قادرة على خلق أصواتها الشعرية والإبداعية التي ستوثر في الأجيال القادمة؟ - أعتقد أن الثورة مهما بقيت وفية لجيلنا ولأصواتنا الشعرية والإبداعية فإنها حتما ستخلق أصواتها الشعرية والفنية والإبداعية وسينشأ جيل كامل بكل أدواته وكل قواه وهو قادم بقوة. وفعلا هناك الكثير من الأصوات الشعرية الشابة كانت تكتب القصائد الهجائية في نظام مبارك في زمن الثورة، وتمضيها باسمي خوفا من البطش... وكان يسعدني أن أحتضن هذه الأصوات و»أخبيها عندي» وسيكون لهذه الأصوات شأن كبير في المستقبل.... * الأكيد أستاذ أحمد أن الزمن المعرفي قبل الثورة ليس هو نفسه بعدها، فماهي حسب اعتقادك أهم التحديات التي تطرح اليوم على المثقف العربي في ظل هذا الواقع الجديد؟ - لابد للمثقف العربي اليوم من أن ينزل إلى القرية والشارع ويلتحم بالجماهير العريضة ويتعلم منها ويبتعد عن التقوقع الذاتي المبالغ فيه.. فرغم أننا نملك مثقفين كبارا إلا أنهم للأسف يبحرون بعيدا عن الواقع ويبتعدون بكتاباتهم عن هموم الناس ويتصورون أنهم يعلمونهم رغم أن العكس هو الصحيح... فالمبدع الحقيقي بالنسبة الي هو الذي يلتحم بالجماهير ويتعلم منها.ولكل ذلك فالتحديات التي تطرح على المفكر العربي اليوم كبيرة وكثيرة وعليه أن يعي ذلك جيدا حتى يقوم بدوره على الوجه الأكمل. * وفي نفس هذا السياق كيف تنظر إلى هذه الاستقالة شبه المعلنة من المثقفين العرب وابتعادهم عن مناصرة قضايا الأمة والناس في مقابل ارتفاع عدة أصوات إبداعية من الخارج للدفاع عنا قضايانا؟ - إن المثقف العربي حتى الذي لم يلعب دوره جيدا ولم يلتحم بالجماهير ويدافع عنها سيحفظ مركزه بين الناس ولن تتخلى عنه الشعوب العربية لأنها شعوب طيبة ومسالمة ومتسامحة في طبيعتها...لذلك أوجه رسالتي لهذا المثقف وأقول له «ارجع لأصلك وارجع لناسك».وعموما مطلوب منا اليوم أن نتكاتف أكثر ونعمل أكثر ونتوحد أكثر مع مثقفينا ومفكرينا حتى نحقق أهداف الثورة الآنية والمستقبلية. * ولكن ألا ترى معي صديقي أحمد أن الثورة العربية التي قام بها شباب ليست له أي انتماءات حزبية أو سياسية، أتبتث وجذرت حالة النوم العميق التي يغط فيها أغلب هؤلاء المثقفون...ونراهم اليوم يلاحقون أصداء هذه الثورة ويحاولون الركوب عليها واستغلالها لمصلحتهم؟ - كلامك فيه الكثير من الصحة يا عبد المجيد وقد ذكرتني بالقصيدة التي كتبتها في يناير 1977 وحاولت أن أصف فيها الوضع أنذاك فرغم أن مصر كانت مليئة بالأحزاب اليسارية والنخب المثقفة ولكن ولا واحد منهم استطاع أن يتكهن بانتفاضة 1977 أو أن يتنبأ بأن مصر ستهب هبة واحدة وتقول كلمة واحدة وقد كتبت هذه الفصيدة لعزة وقلت فيها:» كل ما تهب البشاير من يناير كل عام...يدخل النور الزمان...سليميلي على الاولاد السمر الخضر العمر في عموم الحواري...سليميلي على البنات المخطوبين في المهد لسرير الجواري..واسعديني بالعتاب كل قاري في الكتاب..حد فيهم كان يصدق..بعد جهل وبعد موت...ان حس الشعب يسبق أي فكر وأي صوت...» ومن هنا لابد من التأكيد على أن هذه الثورة هي ثورة جيل بكامله وليس ثورة حزب أو فصيل سياسي...هذه ثورة شباب الانترنت والفايس بوك.. * هل تمنيت أن يعيش معك رفيق دربك الشيخ إمام اللحظة التاريخية لانبلاج الثورة المصرية هو الذي طالما تغنى بها وانتظرها كما انتظرتها أجيال متعاقبة؟ - تعرف ماذا قلت حالما أذيع خبر تنحي مبارك عن السلطة... لقد صحت بأعلى صوتي في ميدان التحرير مخاطبا الشيخ إمام «يا إمام يا حمار حد يموت ما يشوفشي اللحظة دي..» وأنا متأكد أنه عاش وشاهد هذه اللحظة وهو ينام مرتاح البال في قبره. * هناك سؤال ملح اليوم وهو بعد أن حصلت الثورة السياسية متى تقوم الثورة الثقافية؟ - الذي سيجيب عن هذا السؤال هو هذا الجيل الذي صنع الثورة.. وسيخلق مثقفيه ومبدعيه وفنانيه ومفكريه..الذين سيقومون بالثورة الثقافية...وسيخلقون نور الحياة.. * كيف تقبلت خبر وفاة بن لادن؟ وهل تعتقد أن موته جسديا سيقتل أفكاره ويقضي على مريديه في العالم؟ - أنت تتحدث عن بن لادن كأنك تتحدث عن كارل ماركس أو أي فيلسوف عظيم... في النهاية من هو بن لادن هذا؟ ما هو إلا جاسوس للأمريكان وهو صنيعة ال»س ي ي» وقد انقلب عليهم.. ولكنه لم يخدم الإسلام في شيء وإنما بالعكس من ذلك أضر بصورة المسلمين في العالم. * ونحن نتحدث عن الإسلام والأمريكان هذا يجرنا إلى الحديث عن علاقة الأنا بالأخر وعلاقة العرب بالغرب،فكيف تنظر إلى هذا العالم الذي يحكمه العنف وصراع الثقافات والحضارات؟ وهل يستطيع الشعر والأدب والثقافة عموما المساهمة في الحوار بين الشعوب وتقريب وجهات النظر بينها؟ - أظن أنني أستطيع أن أتنبأ بنتيجة هذه المعركة، وكل هذا الحديث عن صراع الحضارت والثقافات والعنف المتفشي في الكون..كل هذا سينتهي بانتصار الإنسان أينما وجد. * وهل يستطيع الأدب العربي اليوم محاججة الآخر وإقناعه إبداعيا وثقافيا ودون عنف؟ - أكيد أن جيل الثورة الذي تغلب على الظلم وكافح الاستبداد والديكتاتورية سوف يخلق ابداعه وأدبه وثقافته القادرة على اقناع الأخر مهمها كان مكانه وزمانه ومهما كانت ديانته وجنسه ولونه...أنا مؤمن بهذا الجيل الذي سيخلق وسائله الابداعية المقنعة. * لماذا ينظر إلى شعراء اللهجة العامية دائما في المجتمعات العربية نظرة دونية تصنفهم كشعراء درجة ثانية لا يرتقي شعرهم إلى مستوى شعراء الفصيح من أمثال درويش وأدونيس وأمل دنقل ونزار قباني؟ رسالة الشعر باللهجة العامية هل تختلف عن رسالة الشعر الفصيح؟ وجدلية اللغة العربية واللهجة العامية كيف تنظر إليها؟ - هذه النظرة الدونية ببساطة تدل على تخلفنا... أنا موجود اليوم بكثافة في الواقع وأعتبر نفسي أهم شاعر عربي على الساحة يكتب باللهجة المصرية. ومن هنا فالمسألة لا تتعلق باللهجة بقدر ارتباطها بواقعنا العربي المتخلف.. يا أخي هذه الأمة مهزومة فكيف ستنتصر لغتها...الأمة مهزومة اذن فاللغة مهزومة.. لذلك كفانا اتهام للهجة العامية بأنها هي المسؤولة عن تدهور اللغة العربية. المسألة ليست مسألة لهجة ورسالة وتفاصيل.. وإنما الأمر مرتبط بالتواصل مع الناس وموقف المبدع نفسه هل يتغير أم سيبقى كما هو.. هذا ما يحدد منزلة المفكر والمثقف عند الناس. * كيف تنظر إلى دور الإعلام اليوم في المحافظة على شعلة الثورة؟ - الإعلام مهم جدا اليوم ويجب أن يلعب دوره ويحافظ على شعلة الثورة دون مبالغة ودون انحرافه عن المهنية. * أستاذ أحمد في كلمة ماذا تعني لك هذه العبارات؟ - الطفولة - الجمال - الشعر - ضرورة - الحب - ضرورة - الجنون - عبقرية - المرأة - واحة الحياة - الموت - جزء من الحياة - السجن - الفراغ - الشيخ امام - راوية أشعاري وصديقي وحبيبي رحمه الله عن العرب أون لاين بتصرف