أدى استقرار جالية عربية و مسلمة هامة ببلدان المهجر عبر العالم بحثا عن حياة و مستقبل أفضل, إلى وجود تحديات كبيرة تفرض نفسها بشكل أساسي منها ما يخص اندماج الأجيال الأولى في مجتمعات الاستقبال و التي تربطها بأصولها وشائج لا تزول, و منها ما يخص تربية الأبناء بالمهجر باعتبارهم من الأجيال الحديثة و الجديدة التي تعيش مواجهة غير مسبوقة بين الجذور والفروع, بين هاجس الحفاظ على معالم الهوية الأصلية و ضرورة الاندماج في مجتمع الاستقبال, فهي معادلة صعبة تواجهها الملايين من الأسر العربية و المسلمة بالمهجر و التي تحاول جاهدة التوفيق بين الأمرين, في محاولة لتنشأة جيل جديد يستطيع استيعاب وضعه الخاص في بلدان المهجر دون السقوط في أزمة الهوية أو صراع المبادئ و القيم. فالهجرة بهذا المعنى لها ضريبة، والغربة تحديدا لها ضريبة تظهر نتائجها ليس على الآباء فقط بل على الأبناء بصورة أكبر خاصة في النواحي الدينية والأخلاقية والتعبدية, فهناك مجموعة من المشاكل تقف عائقا أمام الأسرة العربية والمسلمة في تربية أبنائها التربية السليمة، و تتفاوت حدتها وخطورتها، حسب نمط الأسرة، وحجمها، ومستواها المادي والثقافي، فبمجرد أن تطأ أقدام الأسرة بلد المهجر، تجد نفسها بين مطرقة الاندماج في المجتمع الجديد، وسندان الحفاظ على الهوية، فهي ستقيم في بلد يختلف في عاداته وتقاليده عن التقاليد العربية والإسلامية. إن سؤال الهوية أصبح ملحاً وضاغطاً و حاضرا بقوة في أذهان الجاليات العربية و المسلمة بالمهجر خاصة الجيل الثاني, و هو لا يحتمل التأجيل في ظل التجاذب الحاد بين مقومات الثقافة الأصلية و مبادئ مجتمع الاستقبال، فسؤال الهوية بهذا المعنى يحتاج إلى ضرب من الاحتشاد الوقائي والاحتمائي في هذا المنعطف الاستثنائي الذي يشهد على تشكُل جديد في أرض المهجر . فأمر الهوية مرهون بكليته إلى جدلية الاكتساب التي تمثل ركناً أساسياً ومتيناً للأنساق الثقافية المختلفة. والهوية في مجملها منتج جمعي ورابطة معقدة وعلاقة جدلية بين الإنسان والمكان، لا تبقى حية وتدوم إلا بفضل التوارث الثقافي وتداول الأفراد والجماعات لها. لذلك كثيراً ما يتسبب الانقطاع الطويل عن الوطن في صراع يربك ويقوض الكيان الداخلي للأبناء، ويؤسس بذلك لأرضية هشة ويمهد لمحتوى ثقافي غير مستقر ومؤكد, مما يسهل عملية الاختراق ومن ثم التهجين والتدجين. وقد يتطور الأمر إلى إحساس راسخ ومرير وقناعة تامة بالدونية وإلى اعتراف ضمني بخواء المحتوى الفكري والإنساني للمرجعية الثقافية في مواجهة تفوق وأفضلية الثقافات الأخرى. هذا النفي وهذا الاختراق للذات الفردية يفقد الأبناء الارتكاز والمقدرة على اتخاذ القرار. فالجيل الثاني بأرض المهجر في قلب الرحى، فهو مكشوف وعُرضه لاستلاب كامل إذا ما تسللت هذه المفاهيم وتمكنت من قناعاته الحميمة وتحكمت في آلياته النفسية، وقد تؤدي هذه المفاهيم للارتباك وفقدان السيطرة على أدوات النظر والحكم، وعلى أدوات الاختيار والتفكير. كذلك قد تعني عدم المقدرة على الإسهام وزحزحة الأشياء بعيداً عن الهوامش في اتجاه البناء الكلي للذات الجماعية. التربية رهان المستقبل تربية الأبناء في المهجر مهمة صعبة, تتطلب المزيد من العناية والاهتمام من قبل الآباء والأمهات، ليشب الأبناء وهم على دراية بتعاليم دينهم، مما يقوي ثقتهم بأنفسهم، ويجعلهم قادرين على مواجهة التحديات التي تقابلهم، نتيجة تواجدهم في مجتمع يختلف عن مجتمع المنشأ في كل عاداته وتقاليده ومبادئه وقيمه, و في هذا الصدد تواجه الأسر العربية و المسلمة بالمهجر تحديات كبيرة أمام تعليم أبنائهم والعمل على الحفاظ على هويتهم, فإذا كانت كثير من هذه الأسر تحرص على إرسال أبنائها إلى المدرسة التي تشجع على التفوق الأكاديمي والقيمة المتركزة في البيئة التعليمية فإن الغالبية منهم يخشون من ذوبان أبنائهم بالكامل في مجتمع الاستقبال وفقدان هويتهم, وإذا كانت الأسر العربية تحاول أن تعلّم أبناءها القيم والأخلاق الإسلامية، لكنها لا تستطيع أن تمنع اختلاط هؤلاء الأبناء بالمجتمع خارج المنزل، حيث البيئة مختلفة تماماً ونتيجة لهذا التعارض، يخوض الأبناء معركة نفسية قد تؤثر في حياتهم. و يواجه الآباء في هذا الصدد صعوبات جمة في تربية أبنائهم بالمهجر, حيث يبقى الرهان هو كيف يمكن أن تنجح في إقامة المعادلة الصعبة القائمة على الحفاظ على الهوية مع النجاح في عملية الاندماج الإيجابي لأبنائها في مجتمعات الاستقبال؟ خصوصا و أن الأسرة هي المحضن الأول والوحيد لتربية الأبناء وتوجيههم والمحافظة على هويتهم وخصوصياتهم الدينية، وتقوية الرابط بينهم وبين البلد الأصل، بل إنه يقع على عاتقها في البيئة الغربية الدور الأكبر في هذا المجال؛ لأنها لا تجد دعما لدورها من المجتمع المحيط بمؤسساته التربوية والثقافية؛ بل تعترضها من التحديات في البيئة الاجتماعية ما يزيد من تعقيد دورها ووظيفتها, من هنا ضرورة إعادة التأكيد على الدور الكبير الذي تلعبه الأسرة في مسار التطبيع الاجتماعي؛ فالأسرة هي المهد الأول للمعرفة حيث يتسلح الطفل برصيد معرفي ثقافي يكون رافدا له في الحياة، وإذا لم يتلق المسلم الناشئ هذا الرصيد المكون للهوية ومهارات الحياة ومعارف عامة داخل الأسرة، فمن أين له به وهو ينشأ في بلاد الغرب? وهنا يأتي دور تعليم الأبناء اللغة العربية كوسيلة يمكن من خلالها أن تورث رصيدها من المبادئ والقيم الإسلامية للأجيال الجديدة التي وجدت نفسها منصهرة بصورة أكبر في المجتمع الأوربي, من دون أن تعزلهم عن مجتمعهم الذي يعيشون فيه وينتمون إليه, ومن هنا تنشأ كثير من الإشكاليات بين حرص الأسرة على ما تعتبره ضوابط ضرورية لحماية الأبناء، والبحث عن التوازن لدى هؤلاء الأبناء، وهم يحاولون التوفيق بين ولائهم للأسرة وقيمها من ناحية وانتمائهم للمجتمع ومقتضيات ذلك من ناحية أخرى, و في هذا الصدد تعتبر تنشئة أفراد متقبلين لثقافتين و لغتين و منتمين الى وطنين يتطلب جهود و استثمارات و وقت من جانب الكثير من الأطراف ابتداء من الاسرة و من ثم المدرسة فالاصدقاء ثم المجتمع. إلا أن كل هذه الجهود الرامية إلى الحفاظ على الموروث الثقافي و الديني للأجيال الجديدة بالمهجر تواجهه معوقات كثيرة, من بينها النفور لدى الجيل الجديد بخصوص الإقبال على اللغة العربية وذلك لاعتبار هذه اللغة بالنسبة إليهم ثانوية، لا يحتاجون إليها في حياتهم اليومية وهم يعيشون في المجتمعات الغربية، ويتحدثون لغتهم في الشارع وفي المدرسة وفي مختلف المؤسسات، ولا يستعملون اللغة العربية إلا في إطار عائلي ضيق, وهنا يكمن التحدي، ذلك أن تعلم اللغة العربية أساسي في نظر الوالدين باعتبارها وسيلة للحفاظ على الهوية العربية الإسلامية ولغة القرآن الكريم، ومدخلاً أساسيًا لفهم الحضارات والأمم، ولكنها ليست أساسية في نظر الأبناء لأنهم لا يعرفون قيمة هذا الأمر، خصوصًا إذا كانوا صغارًا, كما يواجه الآباء مشكل عدم إعطائهم الوقت الكافي لتوجيه الأبناء بسبب ضغط العمل, كما أن عدم وجود عائلة ممتدة من أجداد وإخوة في المهجر, لنقل الدين والقيم من جيل إلى آخر يشكل بدوره تحديا آخر ، يقابل الأسرة العربية في بلاد المهجر, ويمثل نمط الحياة السريع, الذي لا يعطي الإنسان وقتًا للتأمل, وبالتالي لا يساعده على معرفة هويته أو الحفاظ عليها ،والتدخل الواضح والصريح لوسائل الإعلام في تشكيل صورة الإنسان لعالمه مما يصعب على الإنسان الاحتفاظ بهويته ، ويجعل مهمة الآباء في تكوين هوية خاصة بالأبناء تتلاءم وهوياتهم، أمرا صعبا للغاية، وتمتع الشخصية الغربية بقدر كبير من الاستقلالية وهو ما يتعلمه الأبناء في المهجر مما يوجد بدوره صعوبة في التعامل بين الأب وابنه، من أهم المشاكل التي تقف عائقا أمام الآباء في تربية أبنائهم. المجتمع المدني و التربية بالمهجر تضطلع مؤسسات المجتمع المدني بالمهجر و رغم طابعها التطوعي, بدور كبير و مهم في سبيل تربية الأبناء على مقومات الهوية الأصلية و ثقافة البلد الأم, و ذلك من خلال تأسيس العديد من الجمعيات التي توفر فضاءات مهمة للتلاقي والحوار بين أبناء الجيل الثاني, و تتحمل جمعيات المجتمع المدني و كذا العديد من المؤسسات الدينية كالمساجد و المراكز الثقافية الإسلامية عبء المسؤولية، وتعمل على تأطير وتدريس اللغة العربية للأطفال على اعتبار أن اللغة هي من أبرز مركبات الهوية القومية، فعندما لا يتقن الانسان لغته، فهناك مسافة كبيرة تبعده عن هويته القومية، عن انتمائه الحضاري، عن ثقافته الأصلية, إلا أن عمل هذه الجمعيات و المؤسسات يتخبط في عشوائية التسيير وانعدام الكفاءات, فالأساتذة لا يخضعون للتكوين و يفتقرون إلى مؤهلات أكاديمية, و بالرغم من الجهود المحمودة التي تبذلها الجمعيات والمراكز الثقافية الإسلامية في الغرب في سبيل وضع بنيات قوية لتعليم أسس اللغة العربية ومبادئ التربية الإسلامية، فإن ذلك لا يكاد يطول سوى فئة محدودة من أبناء الجالية الإسلامية في حين تبقى الفئة العريضة من الأطفال والشباب معرضة لتأثير المدرسة الغربية. و من المؤسسات التي نشأت حديثا بالمهجر, و بالضبط بالعاصمة الإسبانية مدريد, كإضافة نوعية للمشهد التربوي, الثقافي و الاجتماعي بالمهجر, نجد مؤسسة الثقافة العربية و التي تقر أن الاتصال والاحتكاك بين بني البشر، بشكل فردي أو جماعي، هو أفضل و سيلة لشحذ الذكاء والقدرات عند التعايش جنبا اى جنب مع الآخرين, و من بين الأهداف التي نشأت من أجلها هذه المؤسسة في مجال التربية و التعليم, هو تنظيم دورات و ورش عمل لتعلم اللغة العربية، و يمكن أن يكون ذلك بتعاون مع هيئات غير الربحية مثل الجمعيات والمؤسسات وا لادارات العامة, و كذا العمل على دعم و إنشاء مدارس ومعاهد تعليم اللغة والثقافة العربية, بما يساهم في تعزيز مقومات الهوية العربية و الإسلامية و إبعادها عن الصور النمطية التي طالما تخلط بين الإسلام و الإرهاب في سبيل تحقيق اندماج ايجابي لأفراد الجالية العربية و المسلمة و تشجيع الروابط الثقافية و الحضارية لأبناء المهاجرين من الجيلين الثاني و الثالث, في أفق دعم التقارب الثقافي والحضاري بين الغرب و العالم العربي و الإسلامي، على أساس اعتزاز كل من الطرفين بالتنوع الداخلي و الرغبة في معرفة الآخر بأ فضل طريقة ممكنة، في سبيل التعايش السلمي والمنفعة المتبادلة.