يدفع الفقر المدقع "الميخالة" أو "البوعارة" كما يُطلق عليهم محلياً إلى البحث عن لقمة العيش في قمامة الآخرين وباتوا عرضة للأمراض. ورغم النظرة السلبية إليهم في المغرب، إلا أنهم يرون أن مهنتهم تكفيهم العيش عالة على الآخرين. بأثواب رثَّة وبالية تصل حد الاتِّساخ، وأيادٍ خشنة تنبِش في القمامة وتُقلب مُحتوياتها، يُنقبُّون دون ملل عن كل ما يُعادُ بيعُه، في وقت لا يسلَمون من نظرة المجتمع بسبب اتِّساخ ملابسهم وطبيعة عملهم التي تجعلهم في احتكاك دائم مع مخلفات الأزبال المنزلية وغير المنزلية. ربما هم أول من عمِل على فَرز المُخلفات وإعادة تدويرها حفاظا على الموارد والبيئة بالمغرب ولو بطريقة عشوائية، إنهم " البُوعارَة" أو "مِيخالَة" أو "الهَبَّاشة"، مهنة قائمة بذاتها بالمغرب يقوم مُمتَهنوها على البحث لساعات طويلة في الحاويات وعلى مستوى المزابل بحثا عن الزجاج والقطع المعدنية والحديدية وبقايا الأكل وكِسر الخبز. الكثير من البُوعارَة في المغرب يفتحون بُيوتهم ويُطعمون أطفالهم بفضل المردود المالي الذي تُوفِّره هذه الحرفة، ويصل عددهم إلى 7123، وفق إحصائيات رسمية تم الكشف عنها لأول مرة شهر يناير 2018. اللافتُ أن قرابة 50 بالمئة من عمال "الميخالة" شباب تقل أعمارهم عن 20 سنة، ومحمد.ع أحد هؤلاء. مخاطر عدة مقابل أجر زهيد نِصف جسدِه النحيل مُنحنٍ إلى الأمام داخل إحدى الحاويات بحي شماعو بسلا، قادماً إليه من أحياء مجاورة تُكلفه التنقل لساعات طويلة بحثاً عن حاويات القمامة المنصوبة بالقرب من العمارات السكنية، في محاولة لتوفير مبلغ بسيط من المال بشكل يومي، يحكي محمد ذو 19 عاماً لDW عربية. "أبدأ العمل منذ التاسعة صباحاً، أخرج من بيتي باحثاً عن الحاويات وما تحتويه، أجمع منها قطع الخبز اليابس مما فاض عن أصحاب البيوت، زيادة على قشور الخضر والفواكه وكل ما يصلح كلأً للماشية". يعمل محمد الذي توفيت والدته قبل سنوات، قرابة 12 ساعة يومياً يجمع خلالها المخلفات المنزلية العضوية في صناديق خشبية، ويُسلِّمها مساء كل يوم لأحد سكان منطقة بوالقنادل نواحي المدينة، ممن يُربون أغناماً، ليتقاضى مقابلاً مادياً وفق الكمية التي تَمكَّن من جمعها. ساعات طويلة ومُضنِية من العمل يُقابلها أجر متواضع يصل إلى 60 درهماً (نحو 6 دولارات) يومياً، وفق ما أكده "الميخالي" الشاب، وهو الذي يُفضل أن يشتغل رغم نفور الناس منه ورفضهم أي احتكاك مباشر معه مخافة الاتساخ والأمراض، على أن يلجأ للنشل والسرقة أو يقع فريسة للبطالة. الشاب الذي غادر المدرسة في سن ال12 لا يتحدث بأسف عن تَركِه مقاعد الدراسة، بقدر ما يعتبر قراره مساعدة والده الفقير، قراراً مُلزماً في ظل مرض والدته العضال آنذاك، مستطرداً بالقول لDW عربية، قبل أن يعود للنَّبش في القمامة: "لا أبالي للروائح الكريهة المنبعثة من حاويات القمامة، الجَيب الخالي والفقر المدقع لهما رائحة أسوء لا يستطيع أحد تحمُّلها". أمراض خطيرة يخلف المغرب نحو 5 ملايين طن من النفايات سنوياً، من بينها مخلفات صناعية تبلغ 1.5 مليون طن من النفايات و256 ألف طن منها من النفايات الخطيرة فضلاً عن 6000 طن من النفايات الطبية، وفق إحصائيات لوزارة الدولة المكلفة بالتنمية المستدامة. ويتعرض المئات من "البوعارة" لإصابات متفاوتة الخطورة وأمراض مزمنة، لعل أقلها وطأة الجُروح والدَّمامل الجلدية. هذا بالضبط ما عاني منه ابراهيم س.، طيلة عقدين من الزمان، وهو الذي ارتضى لنفسه العمل ك "ميخالي" منذ أن كان يبلغ من العمر 17 عاماً، مباشرة بعد وفاة والده بحادثة سير مُمتَطياً دراجة نارية، بينما أصيب شقيقه الأصغر ببتر على مستوى ساقه. يتأمل صامتاً يديه وما تركت عليها سنوات من البحث في القمامة من آثار، تنهَّد بعمق قبل أن يقول: "لطالما أُصبت بجروح غائرة، لا أكُفُّ عن تقليب محتويات الحاويات دون استعمال قُفازات حامية، مرات كثيرة تؤذيني شظايا كؤوس أو صحون مكسورة تختلط بمخلفات البيت أو مسامير حادة، لا أهتم كثيراً بل أُواصل العمل". يبدأ إبراهيم، عمله باكراً ويشتغل لساعات بشكل يومي، وهو متخصص في جمع العُبوات والقناني البلاستيكية بجميع أحجامها، بالإضافة إلى قطع الزجاج والقطع المعدنية المُهملة، ليسلمها في نهاية النهار لوسيط يُعيد بدوره تسويقها وبيعها. إبراهيم: لطالما أُصبت بجروح غائرة، لا أكُفُّ عن تقليب محتويات الحاويات دون استعمال قُفازات حامية، مرات كثيرة تؤذيني شظايا كؤوس أو صحون مكسورة تختلط بمخلفات البيت أو مسامير حادة، لا أهتم كثيراً بل أُواصل العمل "لا بديل لدي، الأهم أنها مهنة شريفة، أسر مغربية عديدة تعيش على جمع مُعيلِيها لمخلفات الأزبال، نلجأ إلى هذا العمل هرباً من البطالة والتسول أو ارتكاب الجرائم"، يختم المتحدث كلامه. "ميخالة" بطريقة مُهيكلة استمرار هذه الفئة في أداء عملها بطريقة غير مهيكلة ليس أمراً محتوماً، ذلك أنه بات من اللازم على شركات التدبير المفوض للنفايات على مستوى المدن المغربية، احترام دفاتر تحملات تقضي بإدماج أولئك الأشخاص في المشاريع الخاصة بإعادة تدوير النفايات وتثمينها. وهذا ما فطِن إليه ياسين مازوت الذي عمل على تأسيس جمعية تعاونية هي الأولى من نوعها في المغرب، لتنظيم عمال المزابل على مستوى مطرح "أم عزة" الذي يبعد عن العاصمة الرباط ب20 كيلومترا، موضحاً أن إغلاق مطرح "عكراش" العشوائي وفتح أخرى مراقبة ومهيكلة كان سبباً وراء انطلاق العمل بالتعاونية منتصف 2011، مشغلة ما مجموعه 151 من "الميخالة" بينهم 27 امرأة. لا شك أن للعمل العشوائي على مستوى مطارح الأزبال مساوئ عديدة، فهي في نظر مازوت (33 عاماً) "لا إنسانية، وتُعرِّض العاملين لأخطار النفايات الطبية ولمضار عصارة النفايات، كما أن النبش في المخلفات المنزلية والصناعية والطبية بالقرب من الشاحنات الضخمة أودى بحياة العديدين وأصاب آخرين بعاهات دائمة". التعاونية غيرت حياة الكثيرين في أجواء من تكافؤ الفرص، فلا فرق بين العمال الرجال والنساء ولكل مهمة موكلة له عليه إنجازها في ظرف ست ساعات لا غير مع تعويض شهري يبلغ 2650 درهماً (نحو 289 دولاراً)، يقول رئيس الجمعية الشاب والمجاز في التاريخ والحضارة. "أفتخر بعملي الآن، فحتى نظرة المجتمع باتت تتغير تجاههم تدريجياً، والفضل كله للجمعية التي جعلت ظروف الاشتغال أكثر كرامة وعدلاً". *ماجدة أيت لكتاوي- دويتشه فيله