اعتاد أسطول شركات جمع النفايات تخليص المدن مما لفظته مطابخها وبيوتها وإعفاء المصانع من أزبالها قبل أن يظهر «البوعارة» كفاعلين في مجال تطهير المدينة من نفاياتها، لكنهم يقتصرون على عينة معينة من الأزبال والفضلات. البوعار أو الميخالي هي التسمية التي التصقت بالشخص الذي يهتم بما تجود به حاويات القمامة وأكياس الأزبال، حيث يستعين بقضيب يساعد على فرز ما يملك من بين أكوام القمامة قيمة مادية، تاركا لعمال شركات النظافة استكمال العمل اليومي. صحيح أن الجماعات عجزت عن تدبير ملف النفايات فلجأت إلى خوصصة القطاع، لكنها لم تنتبه إلى وجود أشخاص يقومون بالمهمة نفسها تقريبا مع فارق بسيط، يكمن في تسويق النفايات، كالقنينات البلاستيكية والزجاجية والورق المقوى والحديد الصلب وغيره من المعادن والأخشاب، لا فرق لديهم بين أيام العمل والعطلة والراحة. تخصص «الميخالة» في النبش وجمع الأزبال وبقايا الخضر والفواكه، في مهمة يستباح فيها كل شيء، فهم يقدمون خدمة للسكان ويخلصون المدينة من جزء من أزبالها، ويحصلون على مقابل مالي عند تسويق المحصول بعد زوال اليوم نفسه، في مستودعات تنتشر في المدينة تسمى «الديبو» نسبة إلى مصطلح فرنسي مشتق من فعل وضع «ديبوزي». لا ينتبه كثير منا لدور «الميخالة» أو «البوعارة» في الحياة اليومية للمواطنين، فهم يساهمون بشكل أو بآخر في جمع جزء من نفاياتنا ويتقاسمون مع أسطول مجلس المدينة والمقاطعات مهنة التخلص من فضلات الزمن. «المساء» تقضي يوما مع هذه الفئة وتعد روبورتاجا يكشف عن جوانب مغيبة من حياة شاقة. عند اقترابك من مستودعات تخزين سلع «البوعارة» بالمدينة القديمة يشد انتباهك طابور مكون من عربات تجرها دواب، منتظمة في صفوفها تارة ومبعثرة تارة أخرى، يفضل بعضهم الوقوف عند مدخل المستودع بينما لا يبارح آخرون مكانهم في كرسي قيادة العربة وهم يدخنون سيجارة رخيصة. هنا تنتهي رحلتهم التي تنطلق في الساعات الأولى من صباح كل يوم، حيث يجوب كل منهم على عرباته المجرورة أحياء مدينة مازال التثاؤب يؤجل صحوتها، للتنقيب في حاويات الأزبال وأكياس القمامة عن فضلات سكان المدينة، أملا في الظفر بكمية قابلة للتسويق، هنا وسط الأزبال اختاروا تدبير لقمة عيش بعدما سدت في وجوههم أبواب ومنافذ الرزق فقبلوا بمهنة يتنافسون فيها مع القطط على ما تجود به فضلات المنازل والمصانع. بالقرب من مستودعات تفريغ نفايات قابلة للتسويق، قابلت «المساء» رجلا في عقده الرابع، كان منهمكا في جمع «الكارطون» الذي حصل عليه بعد رحلة التجول اليومي، كانت ملامح وجهه تنم عن تعب وإنهاك، لكنه ظل يواصل عملية فرز البضاعة التي حصل عليها منذ الساعة السادسة صباحا إلى حدود الساعة الواحدة بعد الزوال. والتي قادته إلى شوارع العاصمة الاقتصادية للظفر بما تجود به حاويات القمامة على امتداد الشوارع الرئيسة والفرعية وفي الأزقة ومداخل التجمعات السكنية، وعلى أبواب المتاجر والأسواق والمطاعم والمصانع، في أي مكان تحضر فيه أكوام النفايات ويغيب فيه أسطول مجلس المدينة. أوضح الرجل أن مهمته تقوم أساسا على جمع تلك البقايا وفرزها قبل عرضها على المشتري في هذا المستودع، هنا تنتهي رحلته لفرز وبيع ما جادت به الحاويات بما يستحق أن يدفع ثمنه ويعاد استعماله، المتحدث اعتبر «التبوعيرة» مورد رزقه الوحيد الذي يعول به أسرة تتكون من زوجة وطفلين. خلال حديثه أوضح أنه بعد رحلة بحث مضنية، بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لا يتجاوز ربحه خلال اليوم الواحد 50 أو 60 درهما كأقصى تقدير في هذا «العالم كل نهار ورزقو» لكن نادرا ما يتجاوز «الميخالي» هذا السقف إلا إذا صادف بضاعة مرغوبة كالنحاس مثلا. شبان ورجال في «التبوعيرة» سواء بالقرب من العربات المصطفة في طابور، اجتمع «البوعارة» من أعمار مختلفة وشرعوا في فرز «سلعهم» غير مبالين بما يدور حولهم، كان المتحدث هذه المرة رجل متقدم في السن، رسم الزمان على وجهه تجاعيده، قال بحسرة ومرارة: «أنا أشتغل في «التبوعيرة» لأنني لا أملك بديلا، فأنا أمام خيارين البطالة أو «التبوعيرة»، وأضاف «ما كرهناش نبدلوا بما هو أحسن لكن الغالب الله». لا تختلف رحلة «عميد البوعارة» عن سابقيه، فهي تنطلق في الساعات الأولى من صباح كل يوم لجمع ما هو قابل للبيع، وعندما تمتلئ عربته يقصد هذا المكان لتسويق ما تحصل عليه، بعد أن يقوم بفرز البلاستيك عن الزجاج وغيره من البقايا، هنا تتم عملية وزن المحتويات كل واحدة على حدة لينال الرجل مستحقاته التي تتراوح تقريبا ما بين 50 إلى 60 درهما يوميا، نادرا ما يناقش الرجل وزملاؤه في مهنة التنقيب عن الفضلات، أسعار بيع بضاعتهم لأنهم يعرفون سعرها. ما يثير الاستغراب في هذا الفضاء «غير المهيكل» وجود شباب في سن التمدرس ضمن طاقم «البوعارة» والذين كان يفترض التحاقهم بأقسام الدراسة بدل اشتغالهم ب»التبوعيرة» بوجه يشع بالأمل وبابتسامة منتزعة من رحم المعاناة، أكد شاب في عقده الثاني ل»المساء» أنه أنهى علاقته مبكرا بالدراسة، وأنه يشتغل ب»التبوعيرة» ليتحمل مسؤولية إعالة نفسه وأسرته. يبدأ عمله صباحا في السادسة من كل يوم يجوب الشوارع والأزقة لا يبالي بنظرات زملائه، فليس بالإمكان أفضل مما كان، في غياب مهنة أخرى تغنيه عن التنقل بين الشوارع الرئيسة والأزقة لجمع ما جادت به حاويات القمامة. في مستودعات المدينة القديمة، أو ما يصطلح عليه ب»الديبوات» التي زارتها «المساء»، تنتهي رحلة يوم شاق من «التميخيل»، إذ بعد جمع وفرز المحصول اليومي حسب نوعية البضاعة، يقتني أصحاب تلك المخازن سلع «البوعارة» من «التبقشيشة» ليعيدوا بدورهم بيعها إلى شركات تعمل على إعادة استغلالها كل حسب تخصصه، ووفق عملية الفرز التي تتم عادة بواسطة «البوعارة» الذين لهم إلمام بنوعية وخصائص كل مادة. كالورق المقوى والقنينات الزجاجية للمشروبات الغازية والكحولية أوالقنينات البلاستيكية، وغيرها من البقايا التي تعرف وجهة أخرى غير تلك «الديبوات» إذ علمت «المساء» أن الكارتون غالبا ما تكون وجهته مصنعا في مدينة القنيطرة والقنينات البلاستيكية يتزود بها بائعو مشتقات الحليب أو «الرايب» وكذا بائعو زيت الزيتون. لقمة عيش وسط رائحة النفايات خلال رحلة البحث في عالم «البوعارة» يتبين أنهم يتحدرون من فئة هشة رمت بها الهجرة من البوادي إلى عالم النفايات، أغلب المستجوبين التحقوا بالعاصمة الاقتصادية أملا في الحصول على شغل فوجدوا أنفسهم مجبرين على الانخراط في مهنة التنقيب عن محاصيل النفايات، فالمهنة لا تتطلب دراية واسعة يكفي الحصول على عربة مجرورة ونفس طويل وأغلبهم بدأ مساره المهني في درب «التميخيل» بجمع الأجهزة ذات الاستعمال المنزلي أو بقايا الملابس، بعد أن سدت أبواب الرزق في وجوههم، في ظروف اشتغال جد صعبة، إذ أن عمليات البحث والتنقيب وسط أكوام الأزبال التي يقوم بها هؤلاء الأشخاص تتم في ظروف يمكن وصفها باللا إنسانية، وهو ما وقفت عليه «المساء» خلال رصد معاناة فئة في منزلة بين منزلتي الشغل والعطالة. غالبا ما ينقب «البوعارة» عن سلع، يرجون أن تكون ذات قيمة تسويق عالية، في وضع بئيس، لكنهم لا يكترثون فيها لتداعيات الزمن ومخاطر المهنة ونظرات الاحتقار التي يرميهم بها مجتمع لا يرحم، همهم الوحيد خلال رحلة البحث والناس نيام، الظفر بأجود فضلات السكان والمصانع، قبل مجيء شاحنات جمع الأزبال بالمدينة في سباق يومي مع عمال شركة جمع النفايات الذين لا يترددون بدورهم في «عزل» أجود البقايا عن الأزبال والقادورات . في حديثهم ل»المساء» أجمع جل «البوعارة» أن «التبوعيرة» كانت الملاذ الوحيد بعد أن سدت كل أبواب الرزق في وجوههم، كما أكدوا أن قمامات الأحياء الشعبية تعتبر بالنسبة لهم مكانا خصبا، إذ تجود بأفضل السلع التي يمكن بيعها بغاية رفع الأرباح، مؤكدين أن قمامات الأحياء الراقية أيضا لا يمكن استثناؤها مادام الهدف هو جمع ما تجود به، لكنها أقل مردودية، لأن قاطني الفيلات غالبا ما يمنحون الأشياء التي يريدون التخلص منها لحارس أو بستاني. تجربة إدماج «البوعارة» في البرنوصي استعانت عمالة مقاطعات سيدي البرنوصي بالدار البيضاء بخدمات «البوعارة» بعد إحداثها مركزا لفرز و»إعادة تدوير النفايات المنزلية والمشابهة بمنطقة سيدي البرنوصي»، المدعم بمجموعة من النقط الإيكولوجية التي تم تثبيتها ببعض الأحياء السكنية، وأقدمت العمالة السالفة الذكر على تجربة تتوخى إدماج فئة اجتماعية هشة تتمثل في جامعي القمامة «البوعارة»، الذين يزاولون نشاطهم في ظروف تفتقر إلى شروط الكرامة، وذلك عن طريق تأطيرهم وتنظيمهم بشكل قانوني يمكنهم من الاشتغال في إطار مهيكل يضمن لهم الاستقرار والعيش في ظروف لائقة. حسب تصريحات مصدر من عمالة مقاطعات سيدي البرنوصي بالدار البيضاء، فإن عملية الإدماج لم تكن سهلة ولم تتحقق بين يوم ليلة، وأنها استدعت العديد من الإجراءات والتدابير من خلال التواصل مع هؤلاء الفئة والتعرف على مشاكلها ووضعها الاجتماعي بهدف تحقيق البعد الاجتماعي الحقيقي للمشروع، حيث تم الوقوف على الوضع الهش لهؤلاء الأشخاص الذين تم إدماجهم بشكل تدريجي. المشروع مدعم بمجموعة من النقط الإيكولوجية التي تم تثبيتها ببعض الأحياء السكنية، وهي عبارة عن أكشاك بيئية مهمتها تحسيس السكان بضرورة المحافظة على البيئة وإشاعة وترسيخ ثقافة الفرز القبلي للنفايات المنزلية من طرف الأسر»، يقول مصدر «المساء»، الذي أوضح أنه تم إدماج حوالي 60 فردا من هذه الفئة من خلال اشتغالهم بالمركز المذكور، وكذلك بالنقط الإيكولوجية السبع المحدثة في مرحلة أولى على صعيد أحياء سيدي البرنوصي، وهو ما وقفت عليه «المساء» خلال رحلة تتبع مسار إدماج «البوعارة» من طرف عمالة مقاطعات سيدي البرنوصي بالدار البيضاء. سيتمكن جامعو القمامة، الذين انخرطوا في مشروع فرز وإعادة تدوير النفايات بالمقاطعة المذكورة، من التوفر على دخل قار انطلاقا من المداخيل المترتبة عن عملية بيع النفايات المثمنة على شكل بعض المواد الأولية التي تستفيد منها المؤسسات الصناعية بالقطاع المهيكل، وتندرج هذه التجربة ضمن «المجهودات المبذولة من طرف الإدارة الترابية بهذه العمالة والهادفة إلى إرساء وتطوير ميكانيزمات تنمية محلية مستدامة، وذلك وفق رؤية شاملة و مندمجة». ويتميز هذا المشروع بالإضافة إلى الجانب الاجتماعي إلى أبعاد متعددة منها الجانب البيئي، حيث يتوخى بصورة أساسية إرساء ثقافة الفرز القبلي للنفايات المنزلية من طرف الأسر بالأحياء السكنية، وذلك عن طريق تنظيم حملات تحسيسية موجهة للسكان مرفوقة بعمليات تحفيزية من أجل التشجيع على تبني هذه الثقافة الجديدة. بالإضافة إلى ذلك، فإن المشروع يرمي أيضا إلى معالجة النتائج السلبية المترتبة عن الممارسات العشوائية لجامعي القمامة بالفضاءات العمومية، إضافة إلى الجانب الاقتصادي إذ أكدت مصادر «المساء» أن هذا المشروع سيمكن من المساهمة في تطوير الاقتصاد الاجتماعي التضامني عبر انخراط التعاونيات الحاملة لمشاريع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في عدد من العمليات المرتبطة بسير المشروع وذلك من خلال قيام بعض التعاونيات النسوية بصنع أكياس إيكولوجية تسلم للسكان في إطار عملية التحسيس من أجل تبني ثقافة الفرز القبلي مع المحافظة على البيئة عبر استعمال هذه الأكياس لجمع النفايات والتخلي عن الأكياس البلاستيكية. من «بوعار» سابق إلى مستخدم مركز للفرز داخل مركز فرز وإعادة تدوير النفايات المنزلية والمشابهة بزاوية شارع البناء وشارع برشلونة بالحي الصناعي بسيدي البرنوصي حيث يقام المشروع على مساحة تقدر ب2.600 متر مربع، عاينت «المساء» مجموعة من جامعي القمامة أو «البوعارة» الذين تم إدماجهم في المشروع، أحدهم في حديثه ل «المساء» وصف الأمر بالنقلة النوعية في حياته وقال: «فرق كبير بين الماضي وبين ما أنا عليه الآن، كل شيء تغير فبعد رحلة عمل دامت سنوات في عالم «البوعارة» والتي كانت تنطلق في الساعات الأولى من صباح كل يوم من أجل الحصول على دخل يومي زهيد، أضحى الأمر اليوم مختلفا بعد إدماجي هنا»، في أشارة إلى اشتغاله في ظروف تحفظ للمرء كرامته، واستطرد قائلا: «سابقا كنت أبيع ما أحصل عليه من القمامة بمقابل مادي بخس بعد رحلة يومية متعبة، اليوم تخلصت من صفة «بوعار». في هذا المركز نفسه تواجدت سيدات كن منهمكات في مهامهن الجديدة بعد أن خضن تجربة الانتماء لعالم «البوعارة» إلى جانب رجال تمكنوا من تغيير مسارهم المهني عن طريق تأطيرهم وتنظيمهم بشكل قانوني يمكنهم من الاشتغال في إطار مهيكل يضمن لهم الاستقرار والعيش في ظروف لائقة، والتخلص من صفة «الميخالي» التي طاردتهم وشكلت لفلذات أكبادهم عقدة. يندرج المشروع الذي تتبناه اللجنة الإقليمية للتنمية البشرية لعمالة مقاطعات سيدي البرنوصي مع الشركاء المتمثلين في المبادرة الوطنية للتنمية البشرية والفاعلين الاقتصاديين المحليين وجمعية ازدهار للحي الصناعي سيدي البرنوصي ومقاطعة سيدي البرنوصي، في سياق مكافحة أوجه الهشاشة، والبحث عن موارد رزق لفئة تعيل أسرها من فضلات الناس، في الوقت الذي يطمح فيه إلى شركاء محتملين كالوزارة المنتدبة لدى وزارة الطاقة والمعادن والماء والبيئة المكلفة بالبيئة وفاعلين آخرين في القطاع الخاص.