في جو عاصف أحيت الولاياتالمتحدةالأمريكية الذكرى ال16 لهجمات 11 شتنبر، حيث قتل الآلاف وسط ركام برجي التجارة العالمية بنيويورك، وفي مقر وزارة الدفاع في واشنطن، وذلك بعد اختطاف أربع طائرات مدنية وتحويلها إلى قنابل طائرة. بعد أيام أطل أسامة بن لادن من كهف في تورابورا في أفغانستان، وتبنى العملية، ووقع عليها بقلم تنظيم القاعدة… فرد عليه بوش الصغير بحرب صليبية ونداء أخرق يقول: «من ليس معنا في حربنا على الإرهاب فهو ضدنا». ابن لادن اعتمد الإرهاب لتقسيم العالم إلى فسطاطين؛ واحد للإيمان والآخر للكفر، وبوش اعتمد إيديولوجيا محاربة الإرهاب ليقسم العالم بدوره إلى فسطاطين؛ واحد مع أمريكا والآخر ضدها، ولا منطقة وسطى في حرب بدأت أمريكية وصارت عالمية… ولأن الحمق مثل المصائب التي لا تأتي إلا مجتمعة، فقد اختار بوش، مدفوعا بصقور المحافظين الجدد، إعلان حربين في الوقت نفسه، فواحدة لا تشفي غليل إمبراطورية مجروحة. الحرب الأولى كانت على أفغانستان التي تؤوي تنظيم القاعدة، حيث دكت طائرات B52 البشر والحجر، أما الحرب الثانية فكانت على العراق لأنها حسب زعم إدارة بوش تخبئ الأسلحة المحظورة وتهدد العالم الحر، واتضح فيما بعد أن هذه المزاعم كاذبة، وأن صدام لم يكن يخفي إلا خيبته. لا المعركة الأولى نجحت في تقليل عمليات القاعدة التي أصبحت ماركة عالمية عابرة للحدود، ولا المعركة الثانية خلقت من العراق واحة للديمقراطية والحرية والرخاء في الشرق الأوسط. بالعكس، خسرت الولاياتالمتحدة في المعركتين معا لأنها لم تختر الأرض المناسبة، ولا السلاح الفعّال، ولا الاستراتيجية العقلانية. صار الإرهاب صناعة دولية، وبعدما كان محصورا في جماعة صغيرة تحيط بابن لادن وأيمن الظواهري في أفغانستان، تحول الإرهاب إلى عقيدة لآلاف الشباب المهمشين والفقراء وغير المندمجين في مجتمعاتهم شرقا وغربا، وعوض أن تدفع الحرب الشرسة على الإرهاب «مشاريع الإرهابيين» إلى التراجع عن أعمالهم وعن فكرهم المتطرف، بالعكس ازدادت شهية الإرهاب مع سقوط المدنيين الأبرياء في أفغانستان، ومع احتلال العراق، ومع صدمة أبوغريب، ومع وحشية غوانتنامو، ومع زلة «الحرب الصليبية». كلما وسعت أمريكا وحلفاؤها الحرب على الإرهاب والخلط بينه وبين الإسلام، ازدادت قدرة القاعدة على الحشد والاستقطاب، وتوليد مشاعر الكراهية ضد كل ما هو غربي ومسيحي ويهودي، دون تمييز، ولا فقه للدين، ولا فقه للواقع، ولا فقه لفن الحرب. كانت القاعدة تنظيما فحولتها أمريكا وحلفاؤها إلى فكرة، أو قل طريقا مختصرا للانتقام، ولتصريف فائض اليأس في نفوس الأفراد شرقا وغربا، في أوروبا وأمريكا وآسيا وإفريقيا، وطبعا في العالم العربي المعبأ بكل أنواع المتفجرات، أولها الفكر السلفي الجهادي الذي زرعت منهجه الوهابية، وتكفلت الراديكالية الأصولية بتحويله إلى قنابل وأحزمة ناسفة وعبوات متفجرة وخلايا نائمة ومستيقظة وذئاب منفردة… وبعدما تعبت القاعدة التي، مع كل تطرفها وعنفها وإرهابها، لم تكن تسعى إلى إقامة دولة، ولم تكن ترغب في الانخراط في الحرب المذهبية.. بعد القاعدة جاءت داعش، النسخة الأكثر وحشية للسلفية الجهادية، التي بدأت في العراق، وانتقلت إلى سوريا واليمن وليبيا ومصر، وفي كل هذه الدول أنشأت «مماليك» تابعة لأمير المؤمنين البغدادي الذي كان يحكم من الموصل، ويصدر القتل والرعب والتوحش إلى كل العالم… داعش، وبلا تردد، هي ابنة شرعية لثلاثة أطراف؛ أولها أمريكا التي احتلت العراق بعدما حاصرته اقتصاديا، وأذلته نفسيا لأكثر من 20 سنة، خسر فيها العراقي ليس فقط الحياة والأمل، بل وخسر إنسانيته. الأب الثاني لداعش هو الوهابية التي تدفقت خارج حدود السعودية، مستعينة بالبترودولار من أجل نشر فكر ديني متطرف محصور في النقل دون العقل، مشدود إلى الشكل دون الجوهر، محاولا استعادة نموذج سلف غابر دون اعتبار لتغيرات العصر وتطور الفكر وثورة العلم… أما الأب الثالث لداعش فهو إيران وحلفاؤها العراقيون الذين حولوا الحرب من سياسية مع البعث العراقي إلى مذهبية مع أهل السنة، كل أهل السنة، والنتيجة أن العراقيين والسوريين توسلوا بسلاح الردع المضاد، فارتموا في أحضان داعش، باعتبارها الأكثر دموية وتوحشا، للرد على الحرب على الهوية التي أطلقها المالكي والخزعلي ومقتدى الصدر ومليشيات الحشد الشعبي. هكذا تبعثرت الخريطة العربية منذ 16 سنة، وانتقلنا من حرب إلى حرب، ولما أطل الربيع العربي، كآخر فرصة لإنقاذ الجغرافيا العربية من مخاطر السقوط إما في بؤرة الاستبداد والفساد أو الإرهاب والتطرف، تحالف الشرق والغرب لخنق بارقة الأمل هذه، التي تجسدت في خروج القوة الثالثة، متمثلة في الشباب، إلى شوارع العواصم العربية من أجل المطالبة ب«خبز حرية كرامة إنسانية»، حيث جرى خنق هذا الصوت بسرعة، والرجوع إلى المعادلة القديمة: الاستبداد العربي الذي يحمي الغرب من إرهاب الجماعات الأصولية… لكن هذا الدواء هو الداء نفسه، ذلك أن الاستبداد هو الذي يخلق التطرف، والتطرف هو الذي ينعش الإرهاب…