من أين أتى هذا الوحش المسمى داعش، الذي يقود حملة توحش عابرة للحدود، ويحترف القتل والإرهاب من أجل إشعال حرب دينية بين المسلمين والمسيحيين، وحرب طائفية بين الشيعة والسنة، وحرب عرقية بين العرب والأكراد، وذلك بغية خلق إيديولوجيا حرب قوية تستقطب إليها مقاتلي «الرب» المهمشين والفاشلين والمحبطين، من أجل إعطاء معنى لحياتهم وقيمة لموتهم؟ كيف كبر تنظيم داعش حتى صارت له دولة وعلم وشعب وميزانية وأسلحة وفكر ومادة إيديولوجية فعالة لغسل الأدمغة، ودفع شباب في مقتبل العمر إلى الانتحار وتفجير الذات التي لم يعد لها مكان بين بني البشر؟ يمكن للمرء أن يجد ثلاثة آباء شرعيين لداعش التي ترفع شعار «باقية وتتمدد»، والتي نقلت معركتها إلى الغرب بعد أن أنجزت مهمتها في الشرق، وحصلت على دولة وآبار نفط و40 ألف مقاتل جاؤوا من 30 دولة عبر العالم للقتال تحت العلم الأسود. الأب الأول لداعش وأخواتها هو الفوضى الدولية التي تعصف بالعالم، حيث القانون غائب عن الساحة السياسية والاقتصادية والعسكرية و البيئية والطاقية، فلماذا لا تمتد الفوضى إلى السوق الإيديولوجية راكبة ظهر العولمة الذي حملها إلى كل بيت وهاتف وكمبيوتر محمول… الأممالمتحدة أصبحت منبرا للخطابة كل سنة، والدول الكبرى التي تملك حق الفيتو في مجلس الأمن وقوة السلاح والاقتصاد لا تؤمن بشيء اسمه القانون الدولي ولا السلم العالمي. كل دولة لا ترى أبعد من مصالحها الذاتية، ولا تهتم بمصير الآخرين، وبالتالي، بمصير العالم. انظروا إلى كل دولة على حدة، وكيف كانت ترى داعش أشهرا فقط قبل مجزرة باريس: إسرائيل تنظر بإعجاب إلى داعش، وترى أنها هدية من السماء لأنها تضعف نظام الأسد، عدو تل أبيب التقليدي، وتورط حزب الله في المستنقع السوري، وتقسم المقسم، وتجزئ العالم العربي. تركيا لا ترى أن داعش هي الخطر الأول، بل الخطر الأول هم الأكراد الذين إن انتصروا على داعش فإنهم سيشكلون دولة جديدة على حدودها، وسيدفعون حزب العمال الكردستاني إلى ضم الجزء التركي إلى الدولة الكردية الموعودة. أكراد العراق لا يعتبرون داعش هي المشكلة الأولى، بل هاجسهم الرئيس هو الخوف من عودة الدولة المركزية إلى بغداد، لأن هذا معناه أن استقلالهم سيصير مؤجلا. نظام الأسد لا يرى أن داعش كلها سوء، بل يرى فيها ورقة لخلق داعتناقض بينها وبين جبهة النصرة والجيش الحر، لهذا أخلى الجيش السوري مناطق كثيرة دون قتال لداعش، وسمح لها بالاستيلاء على بعض آبار النفط لتسمينها. أمريكا لم تكن ترى في داعش خطرا لأنها لا تنظر بعين الرضى إلى تمدد النفوذ الإيراني في العراق وسوريا، أما السعودية فإنها لا تنام بسبب الكابوس الإيراني، أما داعش فإنها تعرفها وتعرف فكرها، وترى أن توظيف التطرف ليس لعبة خطيرة على كل حال مادام فكرها السلفي الجهادي صناعة محلية في شبه الجزيرة العربية. الأب الثاني لداعش هو الاستبداد العربي الذي يخلق بيئة خالية من الحرية والتنمية والتعددية، وكلها مقومات ضرورية لإذابة جليد التطرف والكراهية والعنف الذي يولد من رحم الدول والمجتمعات السلطوية التي تمنع الأفراد من تحقيق ذواتهم، والتعبير عن أفكارهم، والوصول إلى جزء من الثروة والسلطة والوجاهة، وهي العناصر الثلاثة التي تشكل وقود الحياة في عالم اليوم. مازلت أتذكر جملة سمعتها من السفيرة السابقة لأمريكا بالرباط، مارغريت تيتويلر، قالتها للصحافيين الذين حضروا حفل وداعها الأخير، مفادها: «لو كان في السعودية برلمان لكان أسامة بن لادن معارضا في أقصى الحالات، وليس جهاديا في كهوف تورابورا». عندما تغلق البرلمان والحزب والجريدة والنقابة والجمعية والمجال العام، لا يذهب المواطنون جميعا إلى بيوتهم وإلى فراش زوجاتهم، بل يتوجه بعضهم إلى المساجد يطلبون الخلاص في الدين، ويبحثون عن الجنة في الآخرة عِوَض البحث عنها في الدنيا، وهنا يصير التطرف عملة رائجة، والعنف أداة تختصر المسافات الطويلة، والإرهاب هو سلاح الدمار الشامل. الأب الثالث لداعش وأخواتها هو الإصلاح الديني الغائب، منذ أكثر من قرن ودعوة الإصلاح الديني على طاولة العالم الإسلامي. منذ جمال الدين الأفغاني إلى يومنا هذا لم يجد أتباع الدين الإسلامي مشروعا إسلاميا تجديديا يخلص قيم الدين الإسلامي العالمي من ثقافة البداوة والجهل والتخلف والعنف الذي يحاصر العرب والمسلمين منذ نزولهم عن عرش الحضارة المعاصرة قبل قرون، وتحولهم من منتجين لقيم التقدم إلى مستهلكين، من حاكمين إلى محكومين. لم نعثر بعد كمسلمين على وصفة لتكييف أنماط التدين مع قيم العصر، ولم نهتدِ إلى مصالحة تاريخية بين التراث الإسلامي وبين مشروع الديمقراطية المعاصرة. أصبح الفهم الضيق للنصوص والتأويل العنيف للدين والاستعمال المسيس للقرآن والتوظيف السيئ للسنة النبوية تقاليد مستحكمة في بنية الجماعات الأصولية المتطرفة، ولأن المناخ السياسي والاقتصادي في العالم العربي معبأ بالاستبداد والفقر والحرمان والجهل، فإن داعش، وقبلها القاعدة، وقبلهما التكفير والهجرة… وجدوا البارود الكافي لبنادقهم، ووجدوا الذخيرة الحية لمدافعهم… محاربة داعش لا تكون بالأحكام الجاهزة وبيانات الإدانة فقط. إن الفهم مقدم على الحكم، وتفسير الظواهر المعقدة نظريا لا يعني تبريرها واقعيا، والذي لا يفرق بين التفسير والتبرير عليه أن يراجع دروسه جيدا.