يوم السبت الماضي، توفي وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية السابق، عبد الكبير العلوي المدغري، عن عمر يناهز 76 عاما، قضى 19 سنة منها وزيرا، فيما استمر في وظيفته مديرا عاما لبيت مال القدس طيلة 15 سنة حتى وفاته. المدغري، الذي يعد أشهر وزير للأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب منذ الاستقلال، كان من أبرز منظري التقارب مع الحركات الإسلامية في البلاد، لذلك ليس غريبا أن يكون الإسلاميون في مقدمة مشيعيه. وقد وصفه عبد الإله بنكيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية ورئيس الحكومة السابق، بأنه كان «رجلا صالحا»، حافظ على علاقته به حتى مراحل حياته الأخيرة ل«تقديره لمواقفه». وفي الواقع، فإن صلة المدغري بعالم الحركات الإسلامية، وإن كان رجلا مواليا للمخزن في عهد الحسن الثاني، غطت على سيرة حياته، ومن ثم، فإن اسمه غالبا ما يذكر بعنوان كتابه «الحكومة الملتحية» (صادر في عام 2006) الذي نظر إليه باعتباره تنبؤا مبكرا بصعود الإسلاميين إلى الحكم في مرحلة كانت الدولة تضيق عليهم الخناق. حليف و«مروض» الإسلاميين منذ توليه وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية عام 1984، كرس المدغري وقته طويلا لإحداث التقارب بين الدولة والإسلاميين، وقد أشرف في ذلك الوقت على «جامعة الصحوة الإسلامية»، بضوء أخضر من الحسن الثاني، بهدف إدماج جزء من الإسلاميين في المجال السياسي. وفي حوار مع موقع «الجزيرة»، قال عن هذه المرحلة: «فعلا هذه الجامعة كنا نريدها منبرا جامعا لحوار حر ونزيه ولطيف وإيجابي وبناء مع الجماعات الإسلامية كيفما كانت، معتدلة ومتطرفة، رسمية أو غير رسمية»، مضيفا: «كنا نريد أن يكون هناك حوار بينهم وبين العلماء، وبينهم وبين الحكومة. وكنت قد اقترحت هذه الفكرة على الملك الراحل الحسن الثاني فاستحسنها، وتابع الجامعة وأشغالها». ثم أردف: «لا أفشي سرا إن قلت الآن إنني كنت أبعث إلى الملك الحسن الثاني كل مساء شريطا مسجلا يتضمن وقائع اليوم وجلساته، وكان يشاهد الشريط، وانتهى به الأمر إلى استدعاء المشاركين، وتنظيم حفل شاي على شرفهم في قصره بالصخيرات وإلقاء خطاب، فكان هذا نوعا من اللقاء بعد الفراق والغياب، وكان لهذا اللقاء دور كبير في تبديد السحب بين الإسلاميين والحكم». ويتذكر محمد يتيم، القيادي في حزب العدالة والتنمية وحركة التوحيد والإصلاح، كما كتب في تدوينة على حسابه على «فايسبوك»، كيف استقبلهم المدغري بوصفهم مسؤولين في الجماعة الإسلامية قبيل جامعة الصحوة: «كنا نحن بضعة مسؤولين في الجماعة الإسلامية، وكان بمعيته بعض من كبار علماء المملكة، حيث كان هناك حوار وتفاعل بين العلماء وبيننا، ونحن آنذاك شباب في الحركة، وكان التجاوب طيبا والتفاعل مثمرا»، ثم يضيف: «في لحظة تنظيم دورات مؤتمر الصحوة الإسلامية التي كان يحضرها لفيف من كبار العلماء والمفكرين والدعاة، وكان يشرف هو على كل جلساتها شخصيا، كان المؤتمر الأول مناسبة لطرح خلاف نشأ داخل الحركة بمناسبة كلمة بنكيران، والنقاش الذي تفجر آنذاك حول ما كان يعرف بقضية المستطيل، فانعقد مجلس شورى الحركة لمناقشة تداعياته بطلب من عضوين من أعضائه». ولم يسع المدغري إلى إحداث تقارب مع هذا الفصيل فحسب، بل كانت محاولاته تمتد إلى جماعات أكثر تشددا من الناحية السياسية، وكادت هذه «الوساطة» أن تصل إلى اتفاق، لكن أطرافا في الدولة أفسدت ذلك. في حوار أجراه مع مجلة «تيل كيل»، سرد المدغري، وكان لايزال وزيرا آنذاك، كيف طلب من الملك الراحل الحسن الثاني، في عام 1990، الإذن لإجراء مفاوضات مع قيادات جماعة العدل والإحسان، وقد تصادف ذلك مع وجود مكتب إرشاد الجماعة في سجن سلا، فيما كان عبد السلام ياسين تحت الإقامة الإجبارية. وقد تكونت لذلك، كما كشف، لجنة كان أعضاؤها، وهو بينهم، يأخذون عبد السلام ياسين معهم ويذهبون جميعا إلى السجن في سلا للتفاوض. وكانت المفاوضات بحسبه تبدأ بعد العصر، وتستمر إلى ما بعد الفجر، وذلك خلال عدة أيام، مشيرا إلى أنهم توصلوا إلى نتائج حقيقية وملموسة، فالتزموا بالعمل من داخل المؤسسات، وبإدانة كل عنف، وقطع العلاقات مع كل منظمة خارجية يكون الهدف منها طلب تمويلات. وكانت الجماعة على وشك التحول إلى حزب سياسي للمشاركة في انتخابات 1992، لكن طرفا آخر تدخل، وفرض شرطا جديدا وهو أن توجه العدل والإحسان رسالة إلى الملك، ورغم أن الجماعة قبلت بذلك، إلا أن شخصا ثالثا عرقل وصول الرسالة بدعوى أن تعبير «ملك المغرب» الذي استخدمته العدل والإحسان كان تعبيرا غير لائق، وأنه كان من الواجب استعمال تعبير أمير المؤمنين، أو جلالة الملك، وهكذا فشلت كل المساعي، وفق ما قاله المدغري. نبوءة حكم الملتحين رغم ذلك، فإن المدغري ظل مستمرا في تأييده للإسلاميين، ويروي يتيم أن وزير الأوقاف استقبل بعض أعضاء حركة التوحيد والإصلاح في عام 2000، عندما أثير جدل واسع في البلاد بخصوص الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية، التي عرضها سعيد السعدي، وزير الأسرة آنذاك (حزب التقدم والاشتراكية)، ويقول يتيم: «كانت مناسبة لعرض وجهة نظرنا، وتحسيس بعض العلماء الذين كانوا بصحبته بوجه اعتراضنا للخطة، وأتذكر أنه ابتهج ابتهاجا كبيرا بنجاح المسيرة المليونية التي انتصرت لإنصاف المرأة في إطار المرجعية الإسلامية». وتشير هذه القصة إلى أن المهمة التي سكنت المدغري بإدماج الإسلاميين في المجال السياسي والدفاع عنهم، لم تقف عند حدود عهد الملك الراحل الحسن الثاني، بل استمرت في عهد الملك محمد السادس أيضا. وقد عمل على تقريب بعض المفكرين الإسلاميين من مربع السلطة، حيث كان صاحب فكرة دعوة أحمد الريسوني، رئيس حركة التوحيد والإصلاح، إلى إلقاء درس حسني أمام الملك محمد السادس. وقد كان دور المدغري في عهد الملك محمد السادس بارزا أيضا، وإن خفت لاحقا، وقد كان واضحا أن الرجل يحظى باعتبار كبير ليمنح شرف تلاوة خطاب بيعة الملك محمد السادس، بعدما قيل إنه شخصيا من تولى كتابة وثيقة البيعة رفقة المستشار الملكي عباس الجراري، الذي كان أحد المنادين بضرورة أداء البيعة قبل دفن جثمان الملك لتدارك نتائج أي فراغ كيفما كانت مدته في الحكم. وبالطبع، لم يكن لهذا الدفاع المستميت من لدنه عن الإسلاميين ليمر دون أن يواجه عقبات، بل أحيانا ضربات وجهت إليه خصيصا باعتباره «حليفا» لهم. وقد أقيل المدغري من منصبه كوزير عقب هجمات 11 شتنبر في مسعى جديد كان يهيأ له من لدن جهات بالسلطة لإعادة هيكلة الحقل الديني، وتقويض الحركات الإسلامية. وسيظهر ذلك في الهجوم الكبير الذي تعرض إليه هو شخصيا عقب أحداث 16 ماي في عام 2003، باعتباره مسؤولا بشكل ما عن التغاضي عن الجماعات المتطرفة عندما كان وزيرا. وقد رد على ذلك في كتابه «الحكومة الملتحية» عندما حمل مسؤولية ذلك لوزارة الداخلية لما كان إدريس البصري على رأسها، وقال: «لعل الأجهزة الأمنية كانت أيام وزير الدولة السابق تغض الطرف عن تلك الجماعات في طور التكوين لأسباب معقولة، وإلا كيف استطاعت الأجهزة نفسها أن تكشف تلك الجماعات، وتلقي عليها القبض وعلى المئات من عناصرها في ظرف وجيز بعد تفجيرات 16 ماي، ونظن ظنا أن الداخلية كانت في عهد وزير الداخلية في الدولة ترعى الحركة الوهابية لأسباب جيو-سياسية معينة من جهة، ولأسباب أخرى شخصية». في عام 2006، دعا المدغري الإسلاميين إلى التريث في الوصول إلى الحكم، وقال في حواره مع موقع «الجزيرة» آنذاك: «ننصح بالتريث والحكمة وعدم التسرع في أي شيء». وكان قد عالج في كتابه «الحكومة الملتحية» ما يتعين على الحركات الإسلامية مراجعته لكي يطمأن إليها في تسلمها للحكم. وذكر أن الإسلاميين «إذا نالوا رضا الشعب وصوت لهم في أي انتخابات، فإن ذلك ينبغي أن يؤهلهم لاحتلال مكانتهم في البرلمان كجميع التيارات، ولهم أن يشكلوا الحكومة إذا نالوا رضا جلالة الملك». وقد تحقق ذلك بعد خمس سنوات فقط، فيما كان الكثيرون في ذلك الوقت الذي أعلن فيه المدغري تقديره، ينظرون بسخرية إليه.