تداول على المشاركة في الحكومات المغربية العديد من الوزراء، لكل منهم قصته الخاصة في كيفية الوصول إلى مقعده في الوزارة، من خلال مساهمة كل واحد في النشاط السياسي للبلد سواء من داخل أحزاب الحركة الوطنية وامتداداتها في الساحة السياسية، أو من خلال الانتماء إلى عائلات مخزنية تاريخيا، أو عبر بوابة التكنوقراط الذين حفل بهم المشهد السياسي المغربي على طول تاريخه، في هذه الحلقات نحاول تتبع خيوط التاريخ السياسي للمغرب من خلال تاريخ بعض وزرائه الذين بصموا الحياة السياسية للبلد. سأل الملك الحسن الثاني وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية الراحل الهاشمي الفيلالي حول إجراءات كان قد طلب إليه تنفيذها في القطاع الذي كان يشرف عليه، فرد العضو القيادي في حزب الاستقلال الهاشمي الفيلالي بالقول: «سبحان الذي لا يسهو ولا ينام». وكان الملك الحسن الثاني يرغب في رد الاعتبار إلى الزعيم التاريخي لحزب الاستقلال علال الفاسي، الذي تولى وزارة الشؤون الإسلامية لفترة قصيرة كوزير دولة بعد تربع الملك على العرش في حكومة يونيو 1961، والتي جمعت الزعيمين علال الفاسي ومحمد بلحسين الوزاني في حكومة واحدة، كان المستشار المتنفذ أحمد رضا اكديرة يجمع فيها بين وزارتي الداخلية والفلاحة، وكان زعيم الأحرار المستقلين رشيد ملين وزير دولة كذلك في قطاع التربية الوطنية. وقتذاك في عام 1977 تردد أن الملك أوعز للأمين العام لحزب الاستقلال محمد بوستة بأن يكون الهاشمي الفيلالي وزيرا للشؤون الإسلامية، وثمة من يذهب إلى أن بوستة كان صاحب الاقتراح، اعترافا للهاشمي الفيلالي بدوره التاريخي في المقاومة والدفاع عن العرش. غير أن تطورات الأحداث ستدفع إلى اختيار رجل آخر قادم من مكناس ليصبح وزيرا للشؤون الإسلامية، ولم يكن هذا الرجل سوى الدكتور عبد الكبير العلوي المدغري. يوم ظهر الحسن الثاني على شاشة التلفزيون وهو يقدم منشورا وزع في الدارالبيضاء ومدن أخرى، واتهم إيران صراحة بأنها تقف وراء إذكاء الفتنة والتطرف، كان واضحا أن التعاطي وبدء تنامي الحركات الإسلامية سيكون محورا أساسيا في انشغالات الدولة، فالحسن الثاني، الذي كان أكثر انفتاحا على المذاهب الإسلامية وحوارات الأديان والحضارات، لم يتقبل أن تدخل إيران على خط الوضع الداخلي في البلاد، خصوصا أن توزيع تلك المنشورات ووقوع اضطرابات صادف استضافة المغرب مؤتمر قمة إسلامية في الدارالبيضاء. كان رهان الملك على الكتلة الإسلامية، باعتبارها تجمع أكبر عدد من الدول الموزعة بين القارات الثلاث، إفريقيا وأوربا وآسيا، يروم تشكيل قوة سياسية تكون بديلا أو على الأقل ندا لحركة عدم الانحياز. ومن ثمة فإنه رأى أن حدوث القلاقل في تلك المرحلة يتحدى الوضع الداخلي في البلاد نحو التشويش على مشروع سياسي كبير. سيأتي اختيار الدكتور عبد الكبير العلوي المدغري على رأس وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في سياق محدد أقربه أن المسألة الإسلامية في إشكالاتها المتعددة بدأت تطفو على السطح. وفي الوقت ذاته بدا أن شظايا الظاهرة امتدت إلى المغرب، في صورة استقطاب شباب مغاربة، سيجدون طريقهم إلى أفغانستان وباكستان في وقت لاحق، ضمن ما يعرف بظاهرة الأفغان العرب. ومع أن المغرب كان أول دولة نددت بالغزو السوفياتي لأفغانستان، من منطلق تصعيد الحرب الباردة، فإن ذلك الموقف ذا الطابع الرسمي لم يحل دون بدء تنامي الظاهرة التي كانت تجد لها مساندين، خصوصا من طرف بعض الدول الخليجية التي كانت تمد المجاهدين الأفغان بالمساعدات المالية وحتى الأسلحة. بيد أنه على الصعيد الداخلي، سيأخذ المغرب مسافة حذر أطول إزاء العلاقة مع إيران، التي كانت وقتذاك تعزف على وتيرة تصدير الثورة. وسيكون دور الوزير العلوي المدغري أشد ارتباطا بهذه التطورات على الصعيد الخارجي، بل نظر إلى فكرة مناظرة الصحوة الإسلامية التي كان يدعو إليها كبار الشخصيات الإسلامية، بمن فيهم من كان يعارض نظام بلاده، كما في حالة الداعية الإسلامي راشد الغنوشي الذي اشتد عليه الطوق في بلاده. كان الغرض من فكرة جامعة الصحوة الإسلامية التي حولها العلوي المدغري إلى تقليد ثقافي وديني وسياسي تقريب الفجوة بين المذاهب الإسلامية ورفضه استغلال العقيدة الإسلامية لأهداف سياسية. إضافة إلى كونها بلورت تصورات فكرية في سبيل التعاطي مع ظاهرة التطرف قبل أن ترتدي أبعادا أكثر خطورة، من منطلقات الإقناع والاقتناع. وقد برز دور وزير الأوقاف بهذا الخصوص من خلال مشاركته شخصيا في النقاش الدائر، وكذا استقطاب شخصيات إسلامية من بلدان إفريقية وآسيوية للإسهام في ذلك الحوار. على الصعيد الداخلي ستطرح إشكالية بناء واستغلال المساجد. إذ تنبهت وزارة الأوقاف إلى ظاهرة استخدام المساجد لأهداف سياسية، فيما سادت نظرة إزاء دخول بعض المضاربين العقاريين على الخط، وتحديدا من خلال اللجوء إلى بناء المساجد في محيط المدن بغية إدخال مساحات زراعية داخل المدار الحضري. بين التصور الذي طرحته وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية وذاك الذي اقترحته وزارة الداخلية على عهد الوزير الراحل إدريس البصري ظهرت تناقضات بين مقاربتين، إحداهما أمنية والأخرى دينية إرشادية. غير أن المرحلة لم تكن تحتمل حدوث تصدع، وانضاف إلى ذلك أن نفوذ البصري كان أكثر قوة وأثرا. لكن الوزير المدغري ظل يتجنب الدخول في مواجهات مباشرة مع السلطة الأمنية، وبالتالي انتقلت بعض اختصاصات وزارته إلى العمال والولاة. غير أن ذلك لم يحل دون استمرار الوزير المدغري في التنبيه إلى المخاطر التي يمكن أن تنتج عن ترك الحبل على الغارب. في كل ظهور له على شاشة التلفزة، وبالذات خلال افتتاح الدروس الحسنية، كان الدكتور العلوي المدغري يتعمد إثارة الجدل من خلال التركيز على قضايا يكاد الاقتراب منها يكون محظورا مثل أوضاع المرأة ومفاهيم المساواة والعدل في الإسلام. ولم تكن دروسه ذات الطابع الأكاديمي الممزوج بنكهة سياسية تمر دون إثارة العواصف، أحيانا من طرف أوساط سياسية، وأحيانا من بعض الفقهاء، لكنه كان يمضي على نهج الجرأة، معتمدا على مرجعية الحوار. وقد تمكن فعلا من إقامة علاقات أوسع مع الدول الإسلامية في إفريقيا وآسيا من خلال تلك التجربة الفريدة في الدروس الحسنية، التي كان يدعى إليها العلماء ورجال الدين من كل الأصقاع، بما في ذلك الولاياتالمتحدةالأمريكية وروسيا وبعض دول المعسكر الشرقي. فقد كان يعتقد دائما أن روافد العمل الإسلامي لا تتوقف عند العلاقات بين الدول الإسلامية في طابعها الرسمي، وإنما يتعين دائما تعزيزها عبر حوارات علماء الدين، الذين وجدوا في المغرب أرضية ملائمة لانطلاق ذلك الحوار. من محمد المختار السوسي صاحب روائع «المعسول» إلى علال الفاسي الذي رفع لواء «النقد الذاتي» إلى الشيخ محمد المكي الناصري المجتهد في تفسير القرآن، رست وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية على الدكتور عبد الكبير العلوي المدغري، مرورا بكل من الحاج أحمد بركاش والدكتور أحمد رمزي والهاشمي الفيلالي والداي ولد سيدي بابا. في البداية كان يطلق عليها وزارة الأحباس، لكونها تعنى بقضايا الأحباس وممتلكاتها وسبل تدبيرها، لكنها تحولت إلى وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. وشاءت التطورات ألا تظل حبيسة التعامل الديني الصرف، فقد أضفى العلوي المدغري على مهامها أبعادا جديدة، وأقدم في غضون ذلك على أكثر من مبادرة سياسية، ليس أقلها أنه دخل في حوار لم يكتمل مع جماعة العدل والإحسان، في وقت لم يكن فيه أحد يحاول الاقتراب من هذا المربع. ولعله استأنس في ذلك بتجارب بعض رجالات السياسة والدين، أمثال الدكتور عبد الكريم الخطيب الذي كان أشد اهتماما بإقامة حوار مع كل مكونات الحركات الإسلامية. لم يقتصر دور الوزير المدغري على هذا الجانب، فقد اقتحم بعض المواقع الحساسة في ملف الصحراء، واستطاع أن يجمع في بيته شخصيات صحراوية من مختلف القبائل والمكونات لإقرار تصور أشمل في التعامل مع الملف على الصعيد الداخلي. وكانت زيارته إلى الأقاليم الجنوبية، بضعة أيام قبل إقالة الوزير المتنفذ إدريس البصري، حدثا يشير إلى تحول في مقاربة الانشغالات الوطنية، حين أسند الملك محمد السادس مهمة بيت مال القدس إلى الوزير السابق في الشؤون الإسلامية، إذ كان واضحا أن الملف الشائك في الصراع العربي الإسرائيلي حول هذه المسألة، يحتاج إلى مقاربة جديدة تهم، من جهة، العمل على صون وحماية الهوية الدينية والتاريخية للأماكن المقدسة، ويحرص، من جهة ثانية، على حشد دعم حضاري لهذه المهمة النبيلة. وبين هذه الانشغالات وتلك يجد العلوي المدغري بعض الوقت للخوض في عالم الكتابة والفكر والسياسة حول «الحكومة الملتحية» وآفاق الحوار لمواجهة التطرف والعنف. وقد استمرت مهمته وقناعاته في صورة أخرى، خارج أحباس الوزارة الأغنى من نوعها في كل القطاعات.