تداول على المشاركة في الحكومات المغربية العديد من الوزراء، لكل منهم قصته الخاصة في كيفية الوصول إلى مقعده في الوزارة، من خلال مساهمة كل واحد في النشاط السياسي للبلد سواء من داخل أحزاب الحركة الوطنية وامتداداتها في الساحة السياسية، أومن خلال الانتماء إلى عائلات مخزنية تاريخيا، أو عبر بوابة التكنوقراط الذين حفل بهم المشهد السياسي المغربي على طول تاريخه، في هذه الحلقات نحاول تتبع خيوط التاريخ السياسي للمغرب من خلال تاريخ بعض وزرائه الذين بصموا الحياة السياسية للبلد. لم يكن حظ الحاج أحمد اباحنيني كبيرا، وهو يتولى مسؤوليته كوزير أول للمرة الأولى، بعد أن كان مايسترو الجهاز التنفيذي يطلق عليه رئيس الحكومة أو رئيس الوزراء، ومصدر ذلك أن أول دستور مغربي لعام 1962 نص على أن يتولى قيادة الجهاز الحكومي وزير أول. ولعل الحاج اباحنيني أول وزير أول واجهته المعارضة بعد مرور حوالي سبعة أشهر على تنصيب حكومته، بتقديم ملتمس رقابة لإسقاطها من طرف الفريق النيابي للحزب، الذي كان قد دخل في مواجهة مفتوحة مع الحكومة، فيما لم تكن السلطات بدورها تتردد في التضييق عليه، خصوصا في ضوء ما عرف ب«مؤامرة 63» لقلب النظام واعتقال أعداد متزايدة من نشطاء الحزب وقيادييه. وإذا كان الحاج اباحنيني قد نجا من ملتمس الرقابة الذي وقعه نواب الحزب، وفي مقدمتهم عبد الرحيم بوعبيد والمهدي العلوي ومحمد الحبابي وعبد الواحد الراضي وآخرون، إضافة إلى أعضاء متنفذين في الحزب سينشقون عنه لاحقا، أمثال المعطي بوعبيد وعبد الحميد القاسمي وعبد القادر الصحراوي، فإن قدرا آخر كان في انتظاره في العاشر من يوليوز 1971، حين سقط صريعا برصاص العسكريين المتورطين في المحاولة الانقلابية الفاشلة في الصخيرات. الغريب أن وزيرا سابقا في البريد، هو الجنرال محمد المذبوح، سيكون وراء مقتله وآخرين في مجزرة الصخيرات يوم عقد العزم على الإطاحة بنظام الملك الحسن الثاني، بعد أن كان يشغل منصبا كبيرا للضباط المرافقين للملك. وتشاء ظروف أن يكون المذبوح نفسه هو من كان وراء ضربة القدر التي أصابت حكومة عبد الله إبراهيم في مقتل، كما أنه كان وراء ما يعرف بالمحاولة التي تردد أنها استهدفت ولي العهد الأمير مولاي الحسن في قصره. وكما أن دوره في التخطيط للزج بالمعارضة المتمثلة في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية لم يكن خافيا، فكذلك أنهى حياته «مذبوحا»، لكن بالرصاص في قصر الصخيرات. بيد أن تشكيل حكومة الحاج أحمد اباحنيني في نونبر 1963 سيأتي في خضم تطورات سياسية أفرزت الصراع داخل البلاد إلى تيارات ومعسكرات، بسبب خلافات حول البرامج والتصورات، وكذا بسبب استمرار تداعيات الانشقاق الذي ضرب حزب الاستقلال في العمق، إضافة إلى ظهور اتجاه يروم التضييق على أحزاب الحركة الوطنية، بعد أن لم يساير الاتحاد الوطني خيارات سياسية ظل يناهضها لفترة طويلة. الثابت أن موجة القمع التي تعرض لها المنتمون إلى الاتحاد الوطني، قيادة وأطرا وأعضاء، حيكت على مقاس ما صوره البعض بأن الحزب يستهدف النظام، لذلك يمكن ملاحظة أن أهم تغيير طرأ على حكومة الحاج أحمد اباحنيني تمثل في تولي الجنرال محمد أوفقير مسؤولية وزارة الداخلية للمرة الأولى، وبذلك سيكون ثاني عسكري بعد المذبوح وزير البريد السابق يتحمل مسؤولية حكومية، كما سيتم إبعاد أحمد رضا اكديرة كوزير للخارجية ليخلفه أحمد بنهيمة في المنصب، وسيصبح عبد الهادي بوطالب وزيرا للعدل بعد أن كان وزيرا منتدبا لدى الوزير الأول، وسينضاف عسكري آخر إلى وزارة الدفاع في شخص الجنرال محمد أمزيان خلفا للمحجوبي أحرضان الذي أسندت له حقيبة وزارة الفلاحة. سيرتبط صعود أوفقير إلى وزارة الداخلية بأحداث الاضطرابات التي عرفتها الكثير من المناطق، وكذا مضاعفات عملية إدماج أعضاء جيش التحرير في الجيش النظامي، غير أن قدومه من الإدارة العامة للأمن الوطني بعد أن غادرها رجل الأعمال محمد الغزاوي الذي انتقل إلى المكتب الشريف للفوسفاط، سيضفي بعدا أمنيا صرفا على مهام الوزارة خلال تلك المرحلة، وسيمتد مفعوله لعدة عقود، في ضوء هيمنة المدرسة الأوفقيرية. وفيما سيختار الاتحاد الوطني خيار المعارضة الذي بلغ ذروته، بعد تقديم ملتمس الرقابة للإطاحة بحكومة اباحنيني، ستذهب أصوات مناقضة للاتحاد في اتجاه الربط بين محاولة إسقاط الحكومة وتطورات تطال العلاقة مع الجزائر، غير أن الفريق النيابي الاتحادي سيرهن تقديم ملتمس الرقابة بتردي الأوضاع الاقتصادية، خصوصا الزيادة في أسعار المواد الاستهلاكية، وفي مقدمتها السكر والزيت والدقيق. وفيما اعتبر ملتمس الرقابة أول استخدام لبنود أول دستور مغربي ينص في فصله الواحد والثمانين على معارضة مواصلة الحكومة تحمل مسؤولياتها، من خلال تقديم ملتمس يوقعه عشر الأعضاء في مجلس النواب، لكنه لا يصبح ساري المفعول إلا بعد إقرار من لدن أغلبية الأعضاء، فإنه شكل بالنسبة للفريق الاتحادي أول مواجهة صريحة مع الحكومة التي اتهمها بالعمل على إضعاف القدرات الشرائية للمواطنين في مقابل «حماية الرأسمال الأجنبي الذي تضمن له الاستمرار والاستثمار». خلال المناقشات العاصفة التي دامت أياما عديدة، سجل الفريق النيابي للاتحاد الوطني تدخل الحكومة في توجيه وتكييف مهام وسائل الإعلام الرسمية، خصوصا عندما انبرى أحد النواب متهما الوزير الأول أحمد العلوي، الذي كان بصدد مغادرة القاعة، بأنه يريد قطع البث المباشر لتلك المناقشات على شاشة التلفزة التي كانت تلتقط بالأبيض والأسود فقط. ستزيد الهوة اتساعا بين الفرقاء السياسيين بسبب تباين المواقف من دستور عام 1962 الذي يعتبر الأول من نوعه بعد استقلال البلاد. فقد تبنى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية موقف المقاطعة، وزاد في تعقيد الموضوع أن المهدي بن بركة تعرض لحادثة سير بين الرباطوالدارالبيضاء، اعتبرت في حينها محاولة اغتيال، فيما دعا حزب الاستقلال بزعامة علال الفاسي إلى التصويت لفائدته، وانبرى الاتحاد المغربي للشغل إلى معارضة مشروع الدستور. وكذا فعل حزب الشورى والاستقلال، في مقابل تأييد حظي به من أحزاب الحركة الشعبية والأحرار المستقلين. لدى طرح مشروع الدستور للتصويت كان الملك الحسن الثاني يتولى منصب رئيس الحكومة الذي استمر إلى غاية نونبر1963. وبهذه الصفة فقد ترأس الجهاز التنفيذي على امتداد ثلاث حكومات.إلا أن مبارك البكاي سيغيب عن تشكيلة الحكومة الثانية، حيث تولى رضا كديرة وزارتي الداخلية والفلاحة. فيما أدخل تعديل جوهري على الحكومة اللاحقة، شمل للمرة الأولى إلغاء منصب رئاسة الحكومة وعوض بصفة الممثل الشخصي للملك الذي أسند إلى الحاج أحمد بلا فريج في بداية عام 1963. غير أنه في يونيو من نفس العام تم تعيين أحمد الحمياني وزيرا للداخلية، ثم خلفه بعد أقل من نصف العام عبد الرحمان الخطيب في هذه المهمة. بيد أن الحكومة التي رأسها الملك الحسن الثاني في يونيو 1961 ستكون أول حكومة تضم وزراء من حزب الاستقلال والشورى والاستقلال والأحرار المستقلين والحركة الشعبية، إضافة إلى شخصيات مستقلة يحسب عليها تعاطفها مع الاستقلال، وقد عرفت تعديلات من بينها تعيين أحمد عصمان للمرة الأولى في منصب وكيل لوزارة الصناعة والمناجم، وانتقال محمد بنهيمة من وزارة الأشغال العمومية إلى وزارة التجارة والصناعة، وكذلك إشراف الدكتور عبد الكريم الخطيب على وزارة الصحة، بعد تعيين يوسف بلعباس وزيرا للتربية الوطنية. كما شملت تلك التعديلات إسناد مهمة كاتب دولة في الأنباء إلى عبد الهادي بوطالب للمرة الأولى، وانتقال مولاي أحمد العلوي إلى وزارة السياحة والصناعة التقليدية والفنون الجميلة، غير أن زعيم حزب الشورى والاستقلال سيقدم استقالته بعد مرور عام ونصف العام على توليه مهمة وزير دولة. سيقود الملك الحسن الثاني طبعة جديدة لحكومة لاحقة يشغل فيها منصب رئيس الحكومة، وسيعود عبرها رئيس الوزراء الأسبق أحمد بلافريج إلى الخارجية مع إضافة صفة الممثل الشخصي للملك، في ضوء مغادرة الاستقلاليين علال الفاسي ومحمد بوستة ومحمد الدويري، وفي غضون ذلك سيطلق أحمد رضا اكديرة فكرة تشكيل كتلة سياسية موالية للنظام تحت اسم «جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية» وسيكون إلى جانبه كل من الدكتور عبد الكريم الخطيب والمحجوبي أحرضان وإدريس السلاوي بهدف خوض أول انتخابات تشريعية يعرفها المغرب بعد الاستقلال، وقد قوبلت بانتقاد أحزاب معارضة، فيما تشكل البرلمان من غرفتين وقتذاك. وينظر إلى تلك الانتخابات على أنها كانت أول منعطف في اتجاه صنع الخرائط الحزبية على مقاس الموالاة والمعارضة، سيما وأن المنتمين إلى «جهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية» سيحظون بالأغلبية في اقتراع غير مباشر. لم ينته عام 1963 دون مطبات، فقد عرف خريفه اندلاع أول مواجهة عسكرية بين المغرب والجزائر أطلق عليها «حرب الرمال» بسبب نزاعات الحدود التي ظلت عالقة بعد استقلال الجزائر، ولم تتقبل السلطات، في غضون ذلك، صدور موقف يدعم الجزائر كان قد تبناه الزعيم التاريخي للاتحاد الوطني للقوات الشعبية المهدي بن بركة، مما أدى إلى صدور حكم بإعدامه، فيما أصدرت أحكام قاسية أخرى ضد الاتحاديين الذين وجهت لهم تهم المشاركة في ما عرف ب«مؤامرة 63» التي يعتقد أن الجنرال محمد أوفقير كان وراء المغالاة في تضخيمها وتكييف وقائعها التي حيكت في دهاليز الأمن والاستخبارات المعروفة وقتذاك باسم «الكاب واحد». خلال فترة تولي يوسف بلعباس مسؤولية وزارة التربية الوطنية في حكومة الحاج أحمد اباحنيني، ستندلع أحداث طلابية بلغت ذروتها في القلاقل المدنية التي عرفتها الدارالبيضاء، ما أدى إلى تدخل عنيف لقوات الأمن والجيش تحت إشراف الجنرال أوفقير. وستدعو الحكومة إلى حل الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، لولا أن القضاء لم يسايرها في ذلك من منطلقات قانونية. ولن يأتي صيف 1965 إلا وقد عاد الملك الحسن الثاني لتولي مسؤولية رئاسة الحكومة، فيما عهد إلى الحاج أحمد اباحنيني بوزارة الشؤون الإدارية، وعاد محمد الزغاري وزير الدفاع الأسبق كوزير دولة، بينما أسندت وزارة التربية الوطنية إلى محمد بنهيمة، وتولى الأمير مولاي الحسن بن إدريس للمرة الأولى مسؤولية وزارة شؤون موريتانيا والصحراء، كما عاد أول مدير للأمن محمد الغزاوي لشغل منصب حكومي، وأسندت وزارة الأشغال العمومية لأحمد العسكي، كما عهد بوزارة الأنباء إلى أحمد مجيد بنجلون. غير أن أبرز التطورات السياسية التي نتجت عن فشل المفاوضات، التي كانت تروم إقامة حكومة وحدة وطنية، بعد صدور عفو ملكي عن المعتقلين في ما عرف ب«مؤامرة 1963» وأعداد من المعارضين والمنفيين، ضمنهم المهدي بن بركة والفقيه محمد البصري، تمثلت في اللجوء إلى إعلان حالة الاستثناء التي ميزها إحكام الرقابة على الصحافة وإبعاد أحزاب المعارضة عن المشاركة في تدبير الشأن العام. وكما ضمت بعض الحكومات السابقة الإخوة بنهيمة، فإن الحاج محمد اباحنيني شقيق الوزير الأول أحمد اباحنيني سيجد طريقه إلى مناصب وزارية، بعد أن غيب الموت شقيقه أحمد.