ارتبط بروز النخب السياسية المغربية بمسارات الأحزاب، من جهة، والسلطة، من جهة ثانية، وظهرت الأحزاب في المغرب في سياق مقاومة الاستعمار، وتمكنت من فرز زعامات كبيرة، لكن، بعد استقلال المغرب سنة 1956، اندلع صراع بين القصر وأحزاب الحركة الوطنية حول شكل النظام السياسي المغربي. ففي الوقت الذي اتجه فيه الراحل الحسن الثاني إلى ترسيخ سلطة الملكية التنفيذية، طالبت أحزاب الحركة الوطنية بدستور ديمقراطي، وبسبب هذا الصراع، الذي اتخذ شكلا قاسيا في بعض الفترات، لجأ النظام السياسي إلى إنتاج أحزاب «بديلة»، والبحث عن نخب جديدة لمواجهة أحزاب الحركة الوطنية. هكذا ظهرت أحزاب «مصنوعة»، قادتها، في أغلب الأحيان، شخصيات مقربة من القصر، مثل رضى كديرة، الذي قاد جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية، ثم أحمد عصمان، الذي قاد التجمع الوطني للأحرار، ثم المعطي بوعبيد، الذي قاد الاتحاد الدستوري، وغيرها من الأحزاب التي كانت وظيفتها احتضان نخب صاعدة، وإيجاد موقع لها في دوائر الحكم، من جهة، والتصدي لمطالب أحزاب الحركة الوطنية، من جهة أخرى، لكن هذا لم يمنع بروز قيادات الحركة الوطنية من خارج حقل القصر، مثل عبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمان اليوسفي، وقبلهم المهدي بنبركة الذي تم اغتياله في باريس سنة 1965. مسار الصراع هذا انتهى بتجربة التناوب التوافقي الذي قاده عبد الرحمان اليوسفي سنة 1998، ما جعل نخب أحزاب الكتلة (الاتحاد الاشتراكي والاستقلال)، تتحول إلى المصدر الأساسي لتغذية الحكومات المتعاقبة منذ ذلك الحين إلى 2011. لكن، منذ انتخابات 2007، بدأت أحزاب الحركة الوطنية تطلق إشارات الضعف والوهن، وأصبحت عاجزة عن الاستجابة للتحديات المجتمعية الجديدة التي أفرزت فاعلا سياسيا جديدا صاعدا، هو حزب العدالة والتنمية، فخرج فؤاد عالي الهمة من وزارة الداخلية، ونزل إلى الميدان لمواجهة الإسلاميين، فترشح في مسقط رأسه في الرحامنة، ثم أسس حركة لكل الديمقراطيين، ثم حزب الأًصالة والمعاصرة، وكان يحمل شعار البحث عن نخب جديدة لمواجهة «الطوفان القادم»، وفعلا جمع حوله العديد من الشخصيات اليسارية السابقة، فضلا عن رجال أعمال، وسياسيين تركوا أحزابهم طمعا في «الوافد الجديد». وبعد ستة أشهر من تأسيسه، تمكن البام من الفوز بالرتبة الأولى في الانتخابات الجماعية لسنة 2009، مكررا تجربة حزب الاتحاد الدستوري الذي تأسس سنة 1983، وفاز بالانتخابات التشريعية في السنة الموالية 1984. لكن رياح الربيع العربي أفسدت الرهان على البام، وحملت البيجيدي إلى تصدر انتخابات 25 نونبر 2011، ليفتح له الباب، لأول مرة منذ بروزه سنة 1997، لقيادة الحكومة. ويظهر من مسارات تشكل الأحزاب المغربية المختلفة أن الوصول إلى دائرة السلطة الحكومية بقي مرتبطا بثلاثة مسارات؛ الأول هو القرب من السلطة، وفي هذا الإطار فإن الأمر لا يقتصر على مناضلي الأحزاب، إنما يتم إدماج العديد من الشخصيات في أحزاب سياسية لتولي المسؤولية، وفي فترة ما تم اللجوء إلى التقنوقراط لصباغتهم بألوان حزبية، أو مشاركتهم في الحكومة بدون لون حزبي. أما المسار الثاني، فهو النضال الحزبي، الذي أتاح لعدد من قيادات الأحزاب المحسوبة على الحركة الوطنية الوصول إلى السلطة الحكومية بعد التناوب التوافقي. أما المسار الثالث، فهو المرتبط بوصول نخب البيجيدي إلى الحكومة، في 25 نونبر 2011، في ظرفية استثنائية، ما أدى إلى بروز شخصية عبد الإله بنكيران. وبعيدا عن تجربة الحزب الإسلامي، التي تبقى استثناء في مسارات صناعة النخبة ووصولها إلى المسؤولية، فإن الباحثين يرون أن مسار صناعة النخبة في المغرب يبقى مرتبطا أساسا بالعلاقة مع المخزن، وبالعائلة والمال. في كتابه «صناعة النخبة في المغرب»، يرى عبد الرحيم العطري أن «المخزن والمال والنسب والمقدس» هي «طرق الوصول إلى القمة»، ويشير إلى أن الأحزاب المغربية هي، قبل كل شيء، عبارة عن «مراكز سلطة تتجسد في مجموعة من الأطر الذين يقتسمون دواليب الهرمية الحزبية، من أمانة عامة ومكتب سياسي ولجنة مركزية، ولذلك تظل المراكز ذاتها أكثر مناعة تجاه عمليات الاختراق»، وهنا تبرز إشكالية أخرى تتعلق بالتداول على القيادة الحزبية. حسب عبد العزيز قراقي، أستاذ العلوم السياسية بالرباط، فإن «التداول على القيادة الحزبية أساسي لبروز النخب في أي مجتمع سياسي»، مضيفا: «في فرنسا، معظم قادة الأحزاب يتغيرون باستمرار، لكن القيادات الحزبية المغربية نادرا ما تتغير». وإذا كانت الأحزاب نفسها لا تدعم بروز القيادات، فإن «الحقل السياسي المغربي كله لا يدعم بروز نخب من خارج الأحزاب والسلطة»، وحتى إذا ظهرت شخصية بارزة في حقل ما، فإنه سرعان ما يتم إيجاد مسار لها متحكم فيه داخل دواليب السلطة. من جهة أخرى، لوحظ أن مسارات النخبة في المغرب بعد الاستقلال هيمنت عليها العائلات الفاسية، وهذه ملاحظة سجلها جون واتربوري في كتابه الشهير الذي صدر بداية السبعينات: «أمير المؤمنين.. الملكية المغربية ونخبتها»، حيث أشار إلى أن حزب الاستقلال كان يعتبر حزب الفاسيين، وأن قيادته كانت دائما بيد بورجوازية المدن الكبرى. أيضا هناك كتاب أمينة المسعودي، «الوزراء في النظام السياسي المغربي»، الذي سلطت فيه الضوء على الوزراء المنحدرين من مدينة فاس الذين هيمنوا على الحكومات المتعاقبة منذ عام 1955 إلى سنة 1985. لكن، ربما بدأ حضور العائلات الفاسية يتراجع في الحكومات الأخيرة مع تراجع حزب الاستقلال، وبدأ توجه جديد نحو التقنوقراط وخريجي مدارس القناطر بباريس، ليظهر جيل جديد من النخب التي باتت توصف ب«نخب العهد الجديد».