لا شك أن الحياة السياسية بالمغرب، في سياقها العام وتطورها خلال السنوات الأخيرة، تطرح عدة تساؤلات حول القوانين المتحكمة في اللعبة السياسية لفهم مجرياتها وخلفياتها. ولقد حاول عدد كبير من المؤرخين والباحثين التطلع إلى الواقع المغربي لفهم إشكاليته. والموضوع الذي نحن بصدده محاولة جادة في هذا الاتجاه. تقديم تكمن الظاهرة الخاصة والبارزة في ميدان البحث في أقطار المغرب العربي في أن جل الأبحاث الميدانية والسوسيولوجية والتاريخية والسياسية والاقتصادية، وحتى الأبحاث المتعلقة بالثقافة والتراث، ظلت مقتصرة على البحث الاستعماري لفهم نفسية وأساليب البلدان المستعمرة، ولقد انهارت أمام حقائق التاريخ، بالإضافة إلى ما كان يمليه عليها الظرف الذي صيغت فيه وما كانت تسعى إليه من أهداف. ما حدث من قطيعة في المغرب بين الأجيال كان أعمق بكثير مما حدث في بقية بلدان العالم العربي، ولم يتنكر الشباب المغربي مع ذلك لأجداده وأصبح وريثا لجيل ما قبل الحماية في إطار من التواطؤ وعدم الشعور بالارتياح على عكس ما جرى في بعض البلدان العربية الأخرى، إذ احتكت ثلاثة أو أربعة أجيال بالدول الصناعية، ودام هذا الاتصال أكثر من قرن بالنسبة على الجزائر ومصر؛ ومن ناحية أخرى، خضعت هذه الأقطار لسيطرة الإمبراطورية العثمانية، وكانت تعتبر دولة عصرية نسبيا. وقد امتدت الثقافة الأوربية فيها كأمر حتمي بواسطة أساليب التربية الحديثة إلى أجيال عديدة، بخلاف ما حصل في المغرب الذي ظلت علاقاته بالخارج محدودة وضئيلة قبل سنة 1912؛ وبين عشية وضحاها تم استبدال النظام السياسي التقليدي بمؤسسات مستوردة من أوربا. لم تمس الجهود التي قامت بها فرنسا إلا عددا ضئيلا من السكان، واحتك قطاع آخر منهم بالمناهج الفرنسية من خلال المهنة العسكرية ومن خلال بعض الوظائف الإدارية القليلة، وكان جل عناصر الفئة الثانية من المدن بينما أغلبية الفئة الأولى من أصل قروي. وبعد سنة 1956، ورثت هاتان الجماعتان كلا من السلطة الإدارية والسلطة العسكرية وشكلتا النخبة السياسية المغربية. تطور النخب السياسي تنطوي دراسة النخبة في أي مجتمع على أهمية كبرى باعتبارها تسهم بشكل كبير في فهم وتفسير السلطة السياسية داخل الدولة، فداخل أي مجتمع نجد هناك فئة محدودة حاكمة، تحتكر أهم المراكز الاقتصادية والاجتماعية والسياسية... وتلعب أدوارا طلائعية داخل النسق السياسي، وتملك سلطات على مستوى اتخاذ القرارات، أو التأثير في صياغتها في أقل الأحوال؛ وأخرى واسعة محكومة ولا تملك نفس الإمكانيات في ما يخص صناعة هذه القرارات. وهكذا، توجد في كل مجتمع من المجتمعات نخبة أتيحت لها إمكانية الاضطلاع بأدوار رئيسية ومهمة في مختلف المجالات. ويكتسي طرح موضوع النخبة السياسية في المغرب خلال هذه المرحلة أهمية كبرى بالنظر إلى مظاهر التحول الذي يشهده المغرب في السنوات الأخيرة؛ والمسؤوليات التي يفترض أن تتحملها هذه النخب على طرق بناء مجتمع ديمقراطي. 1 - السياق التاريخي: سارت معظم الدراسات التي انصبت على مقاربة موضوع النخبة السياسية في المغرب، في اتجاهين: الأول، أنكر وجود نظرية للنخبة السياسية (عربيا ومغربيا) نظرا إلى ارتباطها بالمفهوم الغربي ومقوماته، سواء في أبعاده التاريخية الماركسية أو الديمقراطية؛ والثاني: أكد هذا الوجود، سواء بالاعتماد على التاريخ السياسي للمغرب أو من خلال ربط ظهورها بالوجود الاستعماري. إن مقاربة موضوع النخبة السياسية في المغرب ينطوي على صعوبات شتى، نظرا إلى تأثرها بمجمل التحولات التي شهدها المغرب، من جهة، وبمواقف النظام السياسي، من جهة ثانية، مما يتطلب استحضار مختلف المحطات السياسية الكبرى في تاريخ المغرب الحديث، وكذا السلطات المحورية التي يحظى بها الملك في النسق السياسي والدستوري المغربي، التي لا تترك للنخبة السياسية سوى هامش ضيق للتحرك. وبالعودة إلى تاريخ المغرب، نجد أن النخبة السياسية في البلاد كانت تتكون من عنصرين رئيسيين: المخزن والخاصة. وضمن هذا السياق، نجد فئة العلماء والشرفاء وشيوخ الزوايا التي تستمد قوتها وشرعيتها من وظائفها الدينية، هذا بالإضافة إلى رؤساء الحرف والقياد، قبل أن تتراجع هذه النخبة بفعل الاحتلال الفرنسي، بعدما عمل هذا الأخير على تهميش إدارة المخزن، بشكل انعكس سلبا أيضا على أدوار «الخاصة» من علماء وشرفاء وشيوخ وزوايا. وفي ظل هذه الظروف، سيطغى الطابع الوطني على هذه النخبة في سياق مواجهة المستعمر، كما ستتعزز الحركة الوطنية بفئات سبق أن تلقت تكوينا عصريا، الأمر الذي أسهم في تعزيز الوعي ببعض القيم الليبرالية المرتبطة بتقديس الحريات واعتماد أساليب ديمقراطية في تدبير الخلافات السياسية. ونتيجة لحصول المغرب على استقلاله سنة 1956، ستشهد النخبة تطورا ملحوظا بعدما ارتفع عدد موظفي الدولة، وتعزيز هذه الفئة بنخب ثقافية واقتصادية جديدة، وهو ما سمح ببروز صنفين من النخب: الأولى تقليدية، حاولت الاستمرار والمحافظة على خصائصها رغم التطورات السياسية والاجتماعية والثقافية المتلاحقة؛ والثانية حديثة، استفادت من هذه التحولات وبرزت في العقود الأخيرة، مما تمخض عنه نوع من الصراع والتنافس بين مختلف الفاعلين السياسيين. 2 - الطريق إلى النخبة السياسية: إن أهم السبل التي تؤدي إلى ولوج عالم النخبة السياسية في المغرب تتلخص في التعيين (النخبة الحكومية والإدارية العليا)، والانتخاب (النخبة البرلمانية)؛ فبخصوص اقتحام الأولى، يظل الأمر حسب البعض مرهونا ب«الأصل النبيل» و«الإمكانيات المالية» والحصول على «الرضى المخزني»، فيما يظل عامل الكفاءة ثانويا، فأن يكون المرء وزيرا في النسق المغربي فذلك يعني مرورا مفترضا عبر عدد من القنوات، ويعني كذلك حيازة أكيدة لعدد من الرساميل المفتوحة على الجاه والأصل النبيل، كما أن المصاهرة تقود أيضا إلى صنع القرار؛ أما اقتحام الثانية، وبالإضافة إلى السبل الانتخابية المشروعة، فهو يعتمد في كثير من الحالات على سبل متحايلة وملتوية وغير شرعية؛ فما تعرفه العمليات الانتخابية من بعض مظاهر الفساد يفرض أشخاصا بعينهم وتحول دون تجدد هذه النخبة، كما أن تزكية العضو للترشيح للانتخابات التشريعية أو المحلية داخل مختلف الأحزاب تخضع في العديد من الحالات لاعتبارات آنية وبعيدة عن الكفاءة والجدارة، بعدما تحول هاجس الأحزاب إلى الحصول على نسب مهمة من المقاعد داخل البرلمان، دون التفكير في تطوير أدائها ووظائفها. وضمن هذا السياق، تعيش الأحزاب السياسية المغربية أزمة حقيقية على مستوى تدبير اختلافاتها الداخلية ووظائفها الاجتماعية والسياسية، فالديمقراطية الداخلية تصبح بدون جدوى كلما تم الاقتراب من مراكز القرار داخل الهياكل الرئيسية للحزب، حيث يفرض أسلوب التزكية والتعيين نفسه بقوة، ويسود منطق الوراثة في بناء الشرعية السياسية بالشكل الذي يكرس «شخصنة» هذه الهيئات ويحول دون تجددها. وهذا يدفعنا إلى التساؤل عن مدى جدية ومصداقية مطالبة هذه الأحزاب للأنظمة السياسية بإعمال أسلوب الديمقراطية، وذلك في الوقت الذي تتنكر فيه هي نفسها له في ممارساتها الداخلية. وأمام هذه الاعتبارات، «يصير الوصول إلى القمة محكوما بعدد من الولاءات والتضحيات والتحالفات والخصومات والضرب تحت الحزام أيضا، خصوصا وأن الوصول إلى أعلى الهرم الحزبي يفتح الطريق مباشرة نحو إمكانيات الاستوزار وصنع القرار». وكل هذه العوامل بالإضافة إلى ضعف التأطير والتعبئة والتنشئة الاجتماعية والسياسية الذي يترجمه المستوى الهزيل لإعلامها، والتعصب للمواقف التي تترجمها ظاهرة الانشقاقات التي تعرفها هذه الأحزاب، وهشاشة ولاء أعضائها التي يؤكدها أيضا الإقبال المكثف على الانتقال من حزب إلى آخر، واعتماد إصلاحات داخلية «ترقيعية» مرحلية، كل ذلك يسهم في تكريس العزوف السياسي في أوساط المجتمع بكل فئاته. 3 - بين التدجين والتهميش: تؤكد مجموعة من المحطات في تاريخ مغرب ما بعد الاستقلال أن النظام السياسي الذي يتميز عادة بقدرة هائلة على احتواء أو إقصاء المشاريع المضادة، وفي سبيل تحقيق نوع من التوازن للمؤسسة الملكية داخل الحقل السياسي المغربي، اتجه إلى إضعاف هذه الأحزاب، تارة بتشكيل أحزاب «إدارية منافسة» أو جمعيات مدنية تنافس الأحزاب على مستوى تدبير الشؤون المحلية، وتارة بالعمل على خلق ظروف تؤدي إلى انشقاق هذه الأحزاب، وأخرى باحتوائها وإدماجها عبر تمكين أعضائها من مناصب هامة أو عبر ممارسة التهميش والإقصاء، وبخاصة في مواجهة النخب الحزبية التي يصعب تطويعها بالشكل الذي يحول دون بلورة مشاريعها واقتراحاتها. أما في ما يخص مؤسسة الحكومة، فقد لاحظ البعض أن «النظام عمد بدوره إلى المحافظة على ازدواجية هذه النخبة، إذ نجد نخبة من «المنتمين» في مقابل نخبة التقنوقراط، فقد تميل كفة المنتمين ضد التقنوقراط، وقد تميل كفة التقنوقراط ضد المنتمين، وذلك تبعا للظروف السياسية والاقتصادية وسعي النظام إلى الحفاظ على هذه الازدواجية، هو بمثابة ضمانة للاستقرار السياسي ولإبعاد هذه المؤسسة عن جو الصراع السياسي». وكإجراء منه للتضييق على العمل الحكومي ومنافسة صلاحياته في مجالات تنفيذية مختلفة وزيادة على وجود حقائب وزارية «سيادية» تمارس خارج مسؤولية الأحزاب (الخارجية، الشؤون الإسلامية، الداخلية)، عمل النظام المغربي في العقود الأخيرة على إنشاء مجموعة من المؤسسات التي تعمل بتوجيهات ملكية وبإمكانيات مهمة، وتملك سلطات واسعة في اتخاذ القرارات الحاسمة في مختلف المجالات المندرجة ضمن صميم النشاط التنفيذي، الأمر الذي يتيح بروز نخب موازية ومنافسة للنخبة الحكومية. وإذا كانت النخب الحزبية قد ظلت إلى حدود التسعينيات من القرن المنصرم تشتغل في جو سياسي قوامه الحذر وعدم الثقة بين مختلف الفرقاء السياسيين وسيادة ثقافة المعارضة وتزايد أدوار البيروقراطية ضمن المناصب العليا للدولة، فقد شهدت بعض التحول تبعا للمتغيرات السياسية التي شهدها المغرب في هذه الفترة -وصول المعارضة إلى الحكم- بالشكل الذي سمح بحدوث نوع من التجديد والتبدل في الأدوار. وأمام هذه الأوضاع التي تعبر عن الجمود الذي أصبح يعتور عمل الأحزاب، تساءل البعض: هل يمكن لنخبة سياسية مصطنعة أن تراعي مصلحة الوطن والأمة، لما تكون قد أثبتت أنها فضلت -وعلى امتداد عقود من الزمن- مصالحها الأنانية واللاعادلة؟ ويضيف أن خطابات اليمينيين فقيرة وبئيسة، تردد نفس «الألحان والأوزان».. أما اليساريون الجذريون.. فما زالوا تائهين بين ماضيهم ومستقبلهم.. وأما النخبة السياسية الاشتراكية التي وصلت مرة أخرى إلى السلطة الحكومية.. فلم تتوصل إلى التخلي الصريح عن إيديولوجيتها الاشتراكية التي أصبحت تعوق ليبراليتها الفعلية.. وضمن هذا السياق أيضا، وجه عدد من الباحثين والمهتمين مجموعة من الانتقادات إلى تجربة «التناوب» وحمل النخب الديمقراطية مسؤولية كبرى، نظرا إلى تحول المشاركة في العمل الحكومي إلى هدف، الأمر الذي أفرغها -التجربة- من أهميتها. وأمام هذه الأوضاع وعدم بروز معارضة قوية وفاعلة في البرلمان، انخرط عدد من الفاعلين (نخبة من المثقفين، الصحافة المستقلة، هيئات حقوقية، جمعيات مدنية،...) في نقاش موسع حول ضرورة إعمال إصلاحات حقيقية في النسق السياسي المغربي كفيلة بإحداث تغييرات فعالة.