توفي الحسن الثاني في شهر يوليوز 1999، تاركا وراءه وليا للعهد سيكون الملك محمد السادس. لكن، كيف سيحكم وارث العرش الجديد؟ «الطريقة التي يجب أن يحكم بها الملك محمد السادس كانت تشكل في ذلك الوقت معضلة كبيرة»، يقول المؤرخ المعطي منجب، فقد كانت «لحظة صعبة للغاية في حياته». عزل إدريس البصري ورث محمد السادس نظاما سياسيا غارقا في المحافظة والاستبداد، فقد كان والده يحكم مملكته بقبضة من حديد، لكنه، قبيل وفاته، فتح ثقبا في الجدار بأن أطلق ما سُمي آنذاك «تناوبا توافقيا» حمل زعيم الاتحاديين، عبد الرحمان اليوسفي، إلى قيادة الحكومة. «لم حسم الملك محمد السادس آنذاك موقفه، فإما أن يستمر في تكريس نظام والده، وإن كان ببعض التعديلات، وإما أن يغيره بشكل جوهري في اتجاه أن يصبح نظاما ملكيا برلمانيا، وكان الموقف صعبا لأن الملك محمد السادس ورث العرش، لكنه لم يرث مفاتيح الحكم ورجالات البلاط، وكان الشاب محمد السادس في تلك الفترة يتلمس دربه لأول مرة كملك»، يضيف منجب. في تلك الظروف، كانت أصعب لحظة هي تلك المرتبطة بترتيب طرد إدريس البصري، وزير الداخلية والرجل القوي في المملكة في عهد الحسن الثاني. «كان البصري مهندسا تطبيقيا، ولم يكن مثل أولئك المهندسين الذين تعج بهم دواليب الدولة، ولذلك كان التخلي عنه ينطوي على مخاطرة»، كما يوضح منجب. بشكل ما، شعر بعض رجالات السلطة ، بالغضب إزاء الطريقة التي أبعد بها البصري، وكانت المخاوف في الجهة الأخرى من أن تنفلت الإدارة المركزية من قبضة الملكية، «لكن ذلك لم يحدث»، كما يشير منجب، ويضيف شارحا: «كان قرار عزل البصري ثم تجاوز آثاره اللحظة الأصعب في العام الأول من حكم محمد السادس، ومنذ ذلك الحين، شرع الملك في بناء مملكته بطريقته لبنة لبنة، ولم تكن ملكية برلمانية، ولا نظام أبيه بحذافيره، ولكنه شيء مختلط وغير واضح المعالم، وفي كل الأحوال، فقد تجاوز مطبا في طريق تحليقه، وبعدها أطلق جناحيه للطيران». درس تالسينت في 20 غشت 2000، وفي مناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب آنذاك، أعلن الملك محمد السادس اكتشاف حقل بترول هائل في منطقة تالسينت بشرق البلاد. ومن المقتطفات الشهيرة في خطاب ألقاه في ذلك اليوم: «يسعدنا أن نزف إليك بشرى اكتشاف النفط والغاز من النوع الجيد بناحية تالسينت بالأقاليم الشرقية العزيزة علينا بكميات وافرة»، كما قال إن «توفر المغرب على موارد البترول والغاز لن تحوله من بلد مستورد لحاجياته من الطاقة إلى بلد بترولي يعتمد اقتصادا ريعيا قائما على البترول، أو يخلق مجتمعا استهلاكيا». وعقد في أعقاب خطابه اجتماعا مع عدد من المسؤولين في الحكومة وقطاع الطاقة، خصص لدراسة السياسة النفطية التي يتعين اتباعها، وعين أمينة بنخضراء مديرة عامة للمكتب المغربي للأبحاث والاستثمارات النفطية، مع احتفاظها بمنصبها مديرة عامة للمكتب المغربي للأبحاث والمساهمات المعدنية، ثم قام، رفقة وزير الطاقة حينها يوسف الطاهري، بتدشين حقل للبترول هناك. ولاحقا، ستبرز الصدمة، فقد تبين أن الأمر لم يكن سوى خدعة من طرف شركة أمريكية «كانت تلك لحظة صعبة في حكم الملك محمد السادس»، كما يقول منجب، مضيفا: «هذه سابقة.. أن يُورط القصر الملكي، وبشكل رسمي وعبر خطاب، في تسويق شيء غير موجود، لقد تعرضت صورة الملك حديث العهد بالعرش آنذاك (عام واحد بعد توليه للعرش) لهزة قوية». وبالفعل، تحرك القصر لاحتواء المشكلة العويصة التي بين يديه، وكان أول قرار هو إقالة وزير الطاقة يوسف الطاهري، وسادت بعدها حالة من الصمت. وأصبحت الشركة في موضع الاتهام، وأدينت فيما بعد بحكم يلزمها بدفع 122 مليار سنتيم لفائدة الدولة المغربية. ويقول منجب «لكن شيئا واحدا تضرر بشكل يصعب ترميمه حتى الآن، وهو إقناع الناس بأن هناك بترولا في المغرب. لقد أصبحت أي إعلانات، وإن كانت غارقة في الجوانب التقنية، عن اكتشاف الغاز أو البترول تقابل بالكثير من التريث، لأن الناس يسترجعون ذاكرتهم، ويدركون أن أولئك الذين كانوا قادرين على الكذب على الملك محمد السادس، وإقناعه بأن يعتلي المنصة ويخطب مبشرا بالبترول، يمكن أن يكون هناك آخرون على شاكلتهم يستطيعون إقناع مسؤولين أقل بأشياء غير حقيقية». وفي الواقع، فإن الإعلانات المتتالية منذ عام 2000، لم تجازف البتة في إعلان اكتشاف بترول، وعادة ما تركت المؤسسات العمومية مهمة إعلان أي اكتشافات بسيطة للشركات التي تتكفل بالتنقيب. «تلك كانت ضريبة مازالت الدولة تؤديها عن لحظة صعبة في تاريخ حكم محمد السادس». العفو عن مغتصب الأطفال في 30 يوليوز عام 2013، صدر بلاغ روتيني عن القصر الملكي، كما جرت العادة خلال الاحتفاء بعيد العرش، لإعلان تمتيع 48 إسبانيا بالعفو إثر ملتمس تقدم به الملك خوان كارلوس للملك محمد السادس. وقد شكر الملك الإسباني نظيره المغربي على مبادرة العفو في مكالمة هاتفية في اليوم نفسه. بعد ايام قليلة قبل سيظهر تفصيل مدمر: من بين السجناء المستفيدين كان هناك مغتصب للأطفال، اسمه دانييل كالفان عراقي عميل للمخابرات الاسبانية استقر في القنيطرة واحترف الاعتداء على الاطفال جنسيا . ظهرت هذه المعلومة الخطيرة ذات وقع البالغ التأثير في الصحافة الالكترونية ثم انتشرت دعوة عبر شبكة «فايسبوك» للاحتجاج يوم 2 غشت بالرباط. في بداية الأمر، كانت المعالجة الرسمية كارثية من حيث النتائج، فقد صدر بلاغ لوزارة العدل يشير إلى أن العفو «قرار ملكي أملته مصالح وطنية» يقول منجب مرة اخرى «الدولة لم تتكهن بحجم ردود الأفعال، وحاولت التقليل من قدرها، واحتواء آثارها بكلمات مثل ‘‘المصلحة الوطنية''، لكن هذه العبارات بالضبط هي التي أججت مشاعر الناس، وحولها الناشطون إلى وقود إضافي لحملتهم ضد العفو.. كان ذلك خطأ كبيرا سيزيد من تعقيدات تلك اللحظات الصعبة». في 2 غشت، سينزل النشطاء في عدد من المدن، لكن أبرز تجمع للاحتجاج كان بالرباط، وقد تعاملت السلطات بقسوة مع المتظاهرين، حيث أصيب العشرات بجروح ضمنهم صحافيون. وكبرت القضية، ونقلت قنوات التلفزيون في العالم مشاهد القمع التي تعرضت لها وقفة احتجاجية سلمية تطالب بالتراجع عن العفو على بيدوفيل . أصدر الديوان الملكي بلاغا أول في صباح اليوم الموالي للاحتجاجات، يشير إلى عدم علم الملك محمد السادس بخطورة الجرائم المرتكبة من لدن كالفان، وأمر بفتح تحقيق لتحديد المسؤوليات، وأيضا أمر بالشروع في مراجعة شروط الحصول على العفو الملكي . بعد يومين، استمرت الاحتجاجات ضد العفو، فأصدر القصر الملكي في 4 غشت بلاغا ثانيا يسحب من خلاله الملك العفو الصادر في حق المجرم كالفان، ثم في اليوم الموالي، أي 5 غشت، أعلن الملك تحميل المسؤولية للمندوب العام للسجون، حفيظ بنهاشم، وفي 6 غشت، سيستقبل الملك عائلات ضحايا كالفان لتطييب الخواطر وامتصاص الازمة . أقيل بنهاشم، وفي تعليقه اكتفى بالقول: «البحث الذي أمر به الملك أثبت مسؤوليتي، فكان قرار إنهاء مهامي صائبا». ويعلق منجب على تغيير السلطات طريقة معالجتها لتلك اللحظات الصعبة بالقول: «إن الملك تنازل ليعترف بأنه ليس مطلعا على كل شيء، وهذه خطوة كانت كبيرة آنذاك، لأن الملك قبل 12 عاما من ذلك، لم يهتم بمراجعة الرأي العام بشأن قضية بترول تالسينت، لكن المجتمع تغير، والتغيير فرض نفسه حتى على الملك نفسه». 20 فبراير.. حراك وضع الملكية على المحك لم تتوقع الملكية أن تتعرض لأصعب لحظاتها كنظام حكم، بسبب موجة آتية من وراء الحدود اسمها الحراك العربي، الذي بدأ في تونس، وشرع في إسقاط الأنظمة العربية واحدا تلو الآخر؛ من تونس الى مصر فليبيا واليمن وسوريا، وفي 20 فبراير من عام 2011، كان الدور على المغرب. منذ 2003، شرع نظام الحكم في تقوية نفوذه، حتى خمن السياسيون والمراقبون أن الملكية أغلقت قوسا في طريق الديمقراطية كانت قد فتحته عام 1998 «لقد تقوت الملكية كثيرا، كما تقوى رجالات النظام، ودب الإحساس الجماعي بأن الملامح الرئيسة لنظام الحسن الثاني بدأت تطل برأسها في عهد محمد السادس»، كما يقول منجب. حشد نشطاء على شبكات التواصل الاجتماعي الدعم لمظاهرات يوم 20 فبراير، وبالرغم من أن دولا مجاورة عالجت الاحتجاجات بقسوة، فإن السلطات بالمغرب قررت أن تدع المتظاهرين يتصرفون بحرية. «كانت تلك خطة ذكية من لدن الملك، لأنه هو من يملك القرار النهائي بشأن كيفية التعامل مع مظاهرات من ذلك الحجم وبتلك المطالب»، طالب المحتجون بإجراء تغيير دستوري ومحاربة الفساد، وعزل المسؤولين المتورطين في الفساد السياسي والاقتصادي، ثم توزيع الثروة بشكل عادل. في 9 مارس، سيعلن الملك إجراء تعديل دستوري واسع عبر خطاب ألقاه لتقليل آثار المظاهرات. «كانت لحظة صعبة على الملك، وبالرغم من أن المحتجين لم يرفعوا حتى ذلك الوقت شعارا أو مطلبا ضد الملكية، فإن النظام خمن أن عدم الاستجابة ولو جزئيا لمطالب المحتجين آنذاك، قد يزيد حجم المطالب». وبعد الخطاب، تشكلت لجنة لإعداد الدستور، لكن المظاهرات استمرت، فيما تراوح موقف السلطات بين قمعها تارة، وتركها تسير بحرية تارة أخرى. في نهاية المطاف، ظهر خطاب ثان يدعو الناس إلى التصويت في الاستفتاء على الدستور الجديد الذي منح صلاحيات أكثر لرئيس الحكومة، ثم خمد الحراك تدريجيا، وأجريت انتخابات برلمانية مبكرة في نونبر من ذلك العام، فاز فيها حزب العدالة والتنمية بالمرتبة الأولى، ونال رئاسة الحكومة لأول مرة في تاريخه. وبالنسبة إلى المؤرخ منجب، فإن «الملك نجح في تلك اللحظات الصعبة في أن يظفر بنصر هائل؛ فقد حول، بطريقته في احتواء الحراك، ضعف رجالاته إلى قوة شخصية، فأصبح رجالات النظام الآن أكثر ولاء للملك لأنه هو من أنقذهم في تلك اللحظات العصيبة، وأظهر لهم أن نفوذهم يستمدونه منه». الملكية لها جذور عميقة في تاريخ المغرب ولها أكثر من وسيلة للحكم وأكثرها تلك المزروعة في الثقافة الشعبية والمخيال السياسي للمغاربة الذين لا يتصورون العيش في ظل نظام آخر غير الملكية وهذا ما يعطي للجالس على العرش إمكانات كبيرة لإدارة الأزمات والتكيف مع الأحوال ومصارعة اللحظات الصعبة التي تمر منها البلاد.