وقفت السيدة القوية في أوروبا، أنجيلا ميركل، أول أمس، في البرلمان الأوروبي داعية بريطانيا إلى مغادرة البيت الأوروبي بسرعة، وقالت: «لا يمكن لمن غادر البيت أن يطمع في الحصول على امتيازات أو وضع يأخذ فيه شيئا ولا يعطي مقابله أي شيء»، وهي إشارة واضحة إلى رفض أوروبا ل«الاحتيال البريطاني» الذي يريد قبل مغادرة سفينة الاتحاد الأوروبي أن يأخذ معه امتيازات اقتصادية وتجارية لكي يخفف من خساراته المحققة نتيجة الخروج من الاتحاد الأوروبي. ميركل وهولاند وباقي القادة الأوروبيين لا يريدون أن يعطوا هدايا للندن حتى لا يرسلوا الإشارات الخطأ إلى باقي الدول التي تسمع فيها صيحات مغادرة الاتحاد. بالعكس، بروكسيل تريد أن تجعل من خسائر بريطانيا جراء مغادرة الاتحاد درسا للآخرين حتى لا يعبثوا بنجمات الاتحاد السبع والعشرين الباقية مستقبلا. الذي انتصر في الاستفتاء البريطاني الأخير ليس فقط معسكر مغادرة الاتحاد، ولو بنسبة صغيرة، الذي انتصر حقيقة ثلاثة شعارات كلها مدمرة وهي: الشعبوية، الخوف من الهجرة، والخوف على السيادة بمفهومها التقليدي، والشعارات الثلاثة كانت هي ركائز النزعة اليمينية المغلقة التي تضرب أوروبا منذ مدة، والتي ازداد مفعولها مع الأزمة الاقتصادية لسنة 2008. ثلاثة مبررات كانت بمثابة وقود حملة مغادرة بريطانيا للاتحاد، أولها ازدياد عدد المهاجرين القادمين من أوروبا الشرقية، والذين يضغطون على الخدمات والمساعدات الاجتماعية التي أصبحوا يقتسمونها مع البريطانيين. تشير استطلاعات الرأي إلى أن الانزعاج من حجم الهجرة باتجاه المملكة المتحدة كان السبب الأقوى الذي دفع البريطانيين إلى التصويت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، مع تحول السؤال إلى: هل الناس مستعدون لقبول حرية الحركة مقابل حرية التجارة؟ دائما ما كان المهاجرون والأجانب هم أول من يدفع فاتورة الأزمات الاقتصادية في أوروبا، حصل هذا مع اليهود ومع المسلمين، وها هو الآن يتكرر مع الأوروبيين القادمين من شرق القارة العجوز. المبرر الثاني الذي حرك مشاعر البريطانيين لكره الاتحاد واختيار النزول من مركبته كان هو شعار الخوف على السيادة البريطانية التي تقضمها بروكسيل يوما بعد آخر، حسب زعمهم، فرغم الاستثناءات التي حصلت عليها بريطانيا (البقاء خارج منطقة اليورو، والبقاء خارج فضاء شينغن)، فإن مشاعر اليمين البريطاني والفئات التقليدية ظلت تصور الاتحاد الأوروبي وكأنه «ماكينة» لعجن الهويات الثقافية والسياسية والسيادية لهذه الدول في اتحاد بلا طعم ولا لون. ولأن النخبة الحزبية في اليمين واليسار ليس لديها جواب عن الأزمات الاقتصادية وعن الركود الذي ضرب البلاد في السنوات الأخيرة، فإن الجدل حول البقاء في الاتحاد الأوروبي أو الخروج منه صار برنامجا انتخابيا، وموضوع «بوليميك» لا ينتهي، وشماعة تعلق عليها كوارث تدبير الحكومات المتصاعدة للاقتصاد والسياسة، بل، أكثر من هذا، كاميرون الذي فتح المجال لإجراء استفتاء على بقاء أو مغادرة بريطانيا للاتحاد قام بذلك للحفاظ على وحدة حزب المحافظين الذي كان منقسما حول الموضوع، وفعل ذلك للمزايدة على حزب استقلال بريطانيا الذي يتزعمه نايجل فاراج، والذي جعل من مطلب مغادرة الاتحاد أهم نقطة في برنامجه الانتخابي، وفي الأخير، خسر كاميرون منصبه، وخسرت بريطانيا مقعدها في بروكسيل. كل الحسابات العقلانية تقول إن بريطانيا ستخسر من مغادرة الاتحاد الأوروبي الكثير من المكاسب الاقتصادية والتجارية والمالية، ووضعية التأثير في محيط أوسع حول العالم، لكن، مع ذلك، انتصرت الشعبوية التي لعبت على المشاعر القومية، وعلى فهم للسيادة الوطنية يعود إلى القرن التاسع عشر، فجل البريطانيين نسوا أن هذه القومية المتطرفة والانعزالية هي التي قادت إلى حروب القارة العجوز، وخاصة الحربين العالميتين الأولى والثانية، اللتين ذهب ضحيتها ملايين البشر، وأخرجتا من أوروبا أسوأ ما فيها إلى العالم. فكرة الاتحاد الأوروبي ولدت من رحمين؛ الأولى هي الحروب المدمرة التي عصفت بأوروبا نتيجة عدم القدرة على تدبير أطماع دول القارة، وعدم القدرة على خلق مصالح مشتركة بين دول مغلقة على بعضها البعض، فجاء الاتحاد كحل تاريخي ناجع. والرحم الثانية، التي كانت وراء توسيع الاتحاد الأوروبي من فضاء اقتصادي إلى فضاء سياسي وقانوني ودبلوماسي، هي الحاجة إلى إحداث التوازن في الخريطة الدولية مع الولاياتالمتحدةالأمريكية التي أصبحت تهيمن على إدارة العالم. لا تستطيع فرنسا ولا بريطانيا ولا ألمانيا ولا إيطاليا أن تلعب لوحدها دورا يوازي دور أمريكا حول العالم، لكن الاتحاد الأوروبي يملك إمكانات للعب هذا الدور بدوله الثماني والعشرين، وساكنته التي تتجاوز 500 مليون نسمة. الدرس البريطاني يعلمنا أن التراجع إلى الخلف وارد دائما وأبدا، وأن البشرية ليس بين يديها مكاسب نهائية، وأن كل ما حققته من تطور ورخاء وحضارة وتمدن يمكن أن تخسره بين لحظة وأخرى، وأن الإنسان الحديث مثل راكب دراجة إذا توقف عن السير يسقط، مهما كانت نوعية دراجته.