يَستعِدُّ البريطانيون للتصويت في استفتاء 23 من هذا الشهر على بقائهم داخل الإتحاد الأوروبي أو الخروج منه ومغادرة مؤسساته. ولئن بقيت بريطانيا خارج فضاء " شنغن"، واستمرت محافظِةً على عملتها الوطنية، فقد غدت منذ صيرورتها عضواً عام 1975 حاضرة بانتظام وفعالية في مسيرة البناء الأوروبي المشترك، والارتقاء به نحو الأفضل. بيد أن بريطانيا ظلت، بالمقابل، مقتنِعةً بأن مكانتها داخل الاتحاد ليس كما يريدها ويطمح إليها البريطانيون، وأنها مطالبة بالتفاوض من أجل تحسين موقعها وتقوية أدائها قياساً لنظيراتها من الدول الأوروبية. جدير بالإشارة أن بريطانيا ظلت مستبعدةً من الجماعة الاقتصادية الأوروبية، ولم تُصبح عضواً فيها حتى سنة 1975، علما بأن معاهدة روما المؤسِّسَة للفضاء الأوروبي تمَّ التوقيع عليها عام 1958. والواقع أن أسباب ذلك لم تكن خاصة بطبيعة النظام السياسي، فبريطانيا أمُّ الديمقراطية ومصدر نشوء الفكرة البرلمانية في عُموم أوروبا، كما لم يكن ذلك مرتبطاً بالاقتصاد الحر والثقافة المتحررة، فدرجة تطورها في هذين المجالين كان مبكراً ومعترفاً به، بل كانت عِلّةُ ذلك في أن بعض الأوروبيين، وفي مقدمتهم فرنسا على عهد أب الجمهورية الخامسة " الجنرال ديغول"، كان يعتبر بريطانيا جزيرة مستقلة خارج المدار الأوروبي، وأن بحر " المانش" خط فاصل بينها وبين بقية الأوروبيين، لذلك اعترض على انضمامها، ولم ينطلق التفكير في التحاقها بالركب الأوروبي إلى بعد استقالته سنة 1969. وليتذكر القارئ الكريم أن بريطانيا، حتى بعد التحاقها بالجماعة الأوروبية وصيرورتها عضواً كاملا ً بالاتحاد الأوروبي، اختارت إراديا البقاء خارج منطقة " اليورو" وفضاء " شنغن".. ولعل هذا ما يُفسر جزئيا الارتياب المتبادل بين البريطانيين وغيرهم من الأوروبيين. لنتذكر أن موضوع البقاء أو الانسحاب من الإتحاد الأوروبي ليس جديدا أو مستحدثا في بريطانيا، بل دخل دائرة النقاش السياسي منذ سنوات، وان علت نغمتُه قبيل انتخابات مايو 2015، التي أعادت تجديد بقاء حزب المحافظين لولاية ثانية. لذلك، نلاحظ تزعم " ديفيد كاميرون"، رئيس الوزراء الحالي، المنادين بالبقاء في الإتحاد الأوروبي، والمتخوفين من خطورة التفكير في الانسحاب أو الاستفتاء لصالحه. وحجة في ذلك أن بلده سيخسر الكثير أكثر مما يربح، سواء اقتصاديا وتجاريا و ماليا، أم سياسيا وثقافيا. لكن لم يتوقف " كاميرون" عند زرع الخوف في نفوس مناضلي حزبه، ولجم طموحاتهم إلى الخروج من الإتحاد، بل وَعدهم قبل انتخابات مايو 2015 بالضغط، إن فاز في ولاية ثانية، في اتجاه تحسين موقع بريطاني التفاوضي داخل الفضاء الأوروبي، وهذا ما حصل فعلا، حيث فاز حزبُه بالأغلبية، وفتح الباب لزعيمه بقيادة العمل الحكومي لولاية ثانية. ثم إن الأفق غير الواضح للانسحاب من الإتحاد الأوروبي، لم يُخف الساسة ورجال الاقتصاد والمال والأعمال فحسب، بل أخاف العلماء والمفكرين وقادة الرأي مما سيخلف من آثار وخيمة على مكانة بريطانيا في عالم العلم والمعرفة والتربية والتكوين. لنفترض جدلاً أن تخوفات رئيس الوزراء " دفيد كاميرون" لن تجد طريقها إلى قلوب البريطانيين، وأن حماس هؤلاء قادهم إلى التصويت لصالح الانسحاب ، فما الذي سيترتب عن هذا الاختيار من تداعيات ونتائج؟. ثمة مصفوفةٌ من الآثار سيُفضي إليها قرارُ الانسحاب، وهي في عمقها عامة وشاملة، وغير مقتصرة على جانب بعينه، أو قطاع بذاته. فمن جهة، ستتقلص مكانةُ بريطانيا الاقتصادية بسبب تقلص فضائها المشترك، الذي يضم ثمان وعشرين دولة، وإن لم يكن البريطانيون منتسبين لاتفاقية " شنغن". كما سيفتح خيار الانسحاب البابَ أمام " اسكتلنده، الأكثر ولاءً لأوربا من بريطانيا، للمطالبة بمغادرة المملكة المتحدة، وربما سيشجع حزب " الجبهة الوطنية " اليمينية في فرنسا على الضغط على قادة هذا البلد من أجل التخلي عن الإتحاد الأوروبي..ومن يدري ستتوسع دائرة المنادين بإنهاء مسيرة الفكرة الأوروبية الموحدة. والحقيقة أن خيار الانسحاب، ن تحقق، لن يكون إضعافاً للبريطانيين، بل سيُضعف الأوروبيين بأكملهم، وسيحولهم من كتلة اقتصادية ومالية وازنة في العالم، وقوة سياسية مؤثرة في العالم، إلى فسيفساء من الدول لا وزنَ ولا تأثيرَ لها. ومن هنا يظهر التأثير المحتمل، في حالة ما إذا تحقق أفق الانسحاب، على السياسة العالمية إجمالاً، ليس من زاوية الاقتصاد وما يرتبط به، بل أيضا من ناحية السياسة والإدارة المشتركة للعالم.