ودعنا هذا الأسبوع الشاعر التونسي الشفيف محمد الصغير أولاد أحمد بعد أن أسمعنا- بكلماته التي كان يمتحها من معجم خفيف شفيف كجناح الفراشة ومنعش كماء بئر مهجورة- ذلك الصوت الخافت الذي يهمس فينا بكلام قد لا نسمعه، ولكننا نحسه. ودعنا أولاد أحمد بعد أن ترك فينا أثرا مثل أثر فراشة محمود درويش: لا يزول وإن كان لا يُرى.. بعد أن ترك فينا أثر الأدب (والفلسفة أيضا) الذي يحاول البعض عبثا محوه، بدعوى أن هذين الحقلين المعرفيين «لا ينتجان» و»لا قيمة إضافية» لهما في السوق. والحال أن هذين المجالين- اللذين فصلا ظلما عن الحقل المعرفي الإنساني الممتد حد النظر وما وراء النظر- يسريان مثل النسغ في كل «التخصصات» الأخرى، التي تم تحديدها بشكل ناعم في الأول لدواعي أكاديمية قبل أن يتم فصل بعضها عن بعض وبناء ما يشبه جدران العزل الإسرائيلية بينها، ثم خلق نوع من «الميز» بينها في البرامج التعليمية من خلال اعتبار الحقول المعرفية المسماة «علمية» أفضل من «المسالك الأدبية»، خاصة في المجتمعات المتخلفة مثل مجتمعنا. ومازلت أتذكر، وأنا في المرحلة الإعدادية، كيف كان يتم توجيه أصحاب المعدلات «المرتفعة» إلى الشعبة العلمية، والآخرون إلى الشعبة الأدبية في الثانويات. ومازلت أذكر كم كنت أجد راحتي في مواد مثل الفرنسية وأميل إلى حصة اللغة العربية أو الاجتماعيات- رغم الطريقة الثقيلة على القلب التي كانت تدرس بها- ولكن الجو السائد بيننا نحن التلاميذ والهواء المشبع بالنظرة الدونية لكل ما هو أدبي جعلني أمارس شغفي الناشئ كعادة سرية، وأهتم أكثر بالمواد «العلمية» (من رياضيات وفيزياء وكيمياء) رغم أنني كنت أحس أن مدرسيها أنفسهم لم يكن لديهم إلمام عميق بها ويكتفون بإعادة تلقنينا، بشكل ميكانيكي، المعادلات التي حفظوها عن ظهر قلب من فرط ما كرروها. وكنا بدورنا مجبرين على حفظها كما كنا نفعل مع «المحفوظات»: (a + b)2 = a2 + 2ab + b2 وغيرها من معدلات الجبر التي ظلت معلقة في فضاء روحي كأرقام وحروف مبهمة، باردة، لا روح فيها. لم تكن دافئة مثل أشعار أحمد شوقي أو معروف الرصافي، ولا حادة ومؤلمة مثل ذلك المقطع من قصيدة «هوامش على دفتر النكسة»، الذي اكشتفت من خلاله نزار قباني.. ونصوص غيرها بالعربية والفرنسية. وزادت معاناتي، مثل العديد من أقراني الذين تم توجيههم «عنوة» تقريبا إلى الشعبة العلمية، في المرحلة الثانوية مع تلك الطريقة الفجة التي تدرس بها هذه المواد، التي سأستنتج فيما بعد أن سببها كون الكثير ممن يدرسونها لم تكن تسندهم أسس أدبية أو فلسفية، فكانوا يكتفون بأضعف الإيمان: تكرار المعادلات واللعب بحروف الX والY بدون أي مهارة تذكر. ولم أكن أجد ملاذا سوى في ذلك الهامش المسمى «المواد الأدبية» (فرنسية، إنجليزية، عربية، فلسفة…) لترميم معدلاتي العامة. ولما حصلت أخيرا على الباكالوريا عدت مسرعا إلى رحاب الأدب مثل عديدين مثلي. من خلال تلك السنين الممتدة التي قضيتها في سلك التعليم المغربي تلميذا، ثم طالبا، أميل إلى القول إن أحد أسباب (أكرر أحد أسباب) ما يعتبره كثيرون «ترديا في مستوى خريجي التعليم المغربي» يكمن في ازدراء الحقول الأدبية والفلسفية. صحيح أن هذه المواد ربما لا تسعف في سوق الشغل بمعناه السطحي (خاصة في العقود الأخيرة)، ولا تصنع الآلة البشرية الصالحة للمعامل والمصانع، ولكن تُكوّن الفرد الذي لا تستقيم هذه «الآلة البشرية» من دونه.. ذلك الفرد الذي يحتكم إلى العقل ويحمل درعا يصد به كل الأفكار غير العقلانية التي تنفذ إلى هذا المجتمع، وتأكل من رأسه مثل الطير في قصة يوسف.