تتواتر الروايات المتعلقة بقصة العلاقة الخاصة التي ربطت الزعيم الإفريقي نيلسون مانديلا بالمغاربة الذين ناصروا قضيته سواء حين عرفوه أو التقوه بعد خروجه من محن السجن ونجاحه في إسقاط نظام الميز العنصري في جنوب إفريقيا. الأستاذ الجامعي المتخصص في الشؤون العسكرية والاستراتيجية، وابن المنطقة الشرقية حيث أقام مانديلا بضعة أشهر، عبد الرحمان مكاوي، يروي في هذا الحوار الجزء المتعلق بكيفية وصول مانديلا إلى المغرب، ويكشف لأول مرة عن كون الزعيم الإفريقي حصل على جواز سفر مغربي على غرار القادة الجزائريين لمجموعة وجدة، والتحق بمعسكراتهم شرق المملكة للتدرب على حرب العصابات والتجسس على العدو.
لديك معطيات مفصلة حول علاقة الراحل نيلسون مانديلا، كيف تأتى لك الاطلاع عليها؟ كانت لي فرصة اللقاء بمانديلا ومحادثته بشكل مباشر حول علاقته بالمغرب وذكرياته فيه، وذلك سنة 1998، حيث توجّهت إلى هناك لتحضير مناظرة دولية حول حقوق الإنسان في إفريقيا على شكل محاكمات للخروقات التي كانت تحدث في إفريقيا. وكنت رفقة عميد كلية الحقوق بمدينة وجدة حينها، السيد العربي مرابط، العامل المكلف بالمينورسو حاليا. وكان اللقاء منظما بدعوة من رابطة حقوق الإنسان بجنوب إفريقيا التي تضم البيض والسود والمختلطين. وكان الدكتور مرابط قد سبقني إلى المشاركة في مجموعة من المؤتمرات هناك، وله علاقات مع جمعيات حقوق الإنسان في جنوب إفريقيا.
لم يكن في المؤتمر سياسيون مغاربة؟ الصدفة ستجعل المرحوم الدكتور عبد الكريم الخطيب يرافقنا أيضا إلى ذلك المؤتمر، حيث كنت قبل السفر قد شعرت بمغص في البطن، ولكوني كنت أعرفه، أخبرته بالألم الذي شعرت به كي يصف لي علاجا، وبالمناسبة أخبرته أنني متوجه إلى جنوب إفريقيا، فأخبرني أنه مهتم ويود الذهاب أيضا، وهو ما كان، حيث التحق بوفد سياسي يضم إلى جانبه مولاي إسماعيل العلوي وآخرين.
من التقيتم هناك؟ بعد وصولنا إلى جنوب إفريقيا، التقينا بالحزب الشيوعي الجنوب إفريقي وبكبريات الجمعيات الإسلامية فيها، وهي هيئات مؤثرة في صناعة القرار، مثل جمعية «القبلة» وجمعية «الهلال»، وقالوا لنا حينها إن أزيد من 100 شخص يدخل الإسلام عن طريقها يوميا، وحتى مانديلا، كان مسيحيا، لكنه ظل قريبا من المسلمين، وهذا بشهادة أحد رفاقه المسلمين في محنة السجن.
ماذا كان سياق الزيارة؟ كانت جنوب إفريقيا تعيش حينها مخاض الفترة الانتقالية، وكنا بدورنا نعيش بدايات تجربة المصالحة في آخر عهد الملك الراحل الحسن الثاني، وأثناء وجودنا في جوهانسبورغ، اتصل بي السفير المغربي، وقال لي إن هناك مؤتمرا للجمعية العالمية للحقوقيين، وإن المغرب غير ممثل فيه، وبالتالي، طلب مني تمثيل المغرب حتى لا يبقى مقعده فارغا. قبلت المشاركة كمتطوع، خاصة أن هذه الجمعية هي عضو في المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة، وهي المحرك الأساس للجنة تصفية الاستعمار، أي أن دورها هام جدا. سافرت إلى كبتاون، فوجدت نفسي وحيدا أمام وفد جزائري مكون من 20 شخصا، وضمنه بعض أصدقاء الدراسة في مدينة وجدة، مثل أحمد السيداتي، وكانت له علاقة مع مديرة حزب المؤتمر الإفريقي، أي أنهم كانوا يتمتعون بعلاقات خاصة داخل جنوب إفريقيا. ورغم التحاق وفد من ممثلي الأحزاب السياسية، إلا أنهم لم يستطيعوا الدخول ولقاء مانديلا لأنهم لم يكونوا قد حصلوا على اعتماد.
وكيف التقيت بمانديلا؟ جرى المؤتمر في برلمان جنوب إفريقيا، وكان تحفة معمارية، وكانت البناية نفسها تضم مكتبا خاصا بالرئيس، نيلسون مانديلا. وبما أن المؤتمر يضم الحقوقيين العالميين، وجلهم كان يساند مانديلا أثناء فترة سجنه، فقد كان من الضروري أن يلتقي بالمشاركين رغم أن المؤتمر حقوقي. وأمام التكتل الجزائري الكبير، تقرّبت أنا من الليبيين، خاصة فاروق أبو عيسى، وبدأ العمل في الكواليس، حيث كان الوفد الجزائري يدعو في كل ليلة وفدا من الدول المشاركة... وبحكم علاقاتي ببعض أعضاء الوفد الجزائري وحديثي باللكنة الوجدية، كانوا يصطحبونني معهم.
ماذا عن السياسيين المغاربة؟ وفد السياسيين المغاربة حضر في موعد الاستقبال الذي خصصه مانديلا لاستقبال الوفود، لكنهم لم يستطيعوا الدخول، وهنا أشيد بتصرف مولاي إسماعيل العلوي، الذي وقبل تجاوزي باب المؤتمر، علم أنني جئت متطوعا وبالكاد دفعت السفارة مقابل تذكرة طائرتي، فمنحني 300 دولار كي أتدبر بها أموري. وبينما كان مانديلا يستقبل الوفود الممثلة لكل دولة، رفقة تابو مبيكي وآخرين، تقدّمت نحوه لوحدي كممثل للمغرب. وأثناء حديثي إليه، قلت له إنني من مدينة وجدة، وأعلم أنك كنت في مدينتي فأخذ يتحدّث بلغتهم المحلية عن ذكرياته في المغرب، وهم يترجمون لي ما يقول.
وماذا قال؟ كشف لي عن حقائق تاريخية لم يسبق نشرها، ذلك أنه ومباشرة بعد مذبحة «شاربفيل» الشهيرة، التي قُتل فيها أكثر من ستين شخصا من بينهم نساء وأطفال، سنة 1960، قرر المؤتمر الوطني إحداث جناح عسكري له، وتكليف مانديلا بقيادته. وتحضيرا لذلك، دخل الحزب الشيوعي الجنوب إفريقي على الخط، وتدبّر لمانديلا جواز سفر مغربي، عن طريق أصدقائهم الجزائريين. معلومة مهمة اتضح أن من تولى تسهيلها، هو الكولونيل عبد الحيظ بوصوف، مؤسس المخابرات الجزائرية، والذي كان يتوفر على جوازات سفر مغربية منحها له الدكتور الخطيب، وزير الشؤون الإفريقية آنذاك، بأمر من الراحل الحسن الثاني. وكان من بين من حصلوا على جواز سفر مغربي، الرئيس الجزائري الحالي عبد العزيز بوتفليقة، باسم عبد القادر لزعر.
الشيوعيون الجنوب إفريقيون كانت لهم علاقة نافذة مع الجزائريين؟ وساطة الحزب الشيوعي الجنوب إفريقي مرّت عبر نظيره الفرنسي الذي تدخّل لدى الجزائريين، ليحصل مانديلا على جواز سفر مغربي، ومن أوربا، دخل مانديلا المغرب عبر مليلية، ومنها إلى «سبع حوانت» بضواحي الناضور، ثم إلى مدينة وجدة، حيث التحق بهيئة أركان جبهة التحرير الجزائرية، والتي كان يقودها هناك الهواري بومدين في حي هامشي فقير بوجدة.
لماذا جاء مانديلا إلى هناك؟ وصول مانديلا إلى هناك كان بهدف تعلّم حرب العصابات، والإعلام الدعائي وتقنيات التضليل، وشارك في أول دفعة كوّنها بوصوف في وجدة للمتخصصين في المخابرات. وكانت ضمن المجموعة الأولى أخت وزير الداخلية الجزائري السابق دحو ولد قابلية، واسمها سعاد، والتي استشهدت في مواجهة مع الفرنسيين على الحدود المغربية الجزائرية. وكان مانديلا، الملقب حينها بماديبا، قد طلب الزواج منها عبر عبد العزيز بوتفليقة، إلا أن بوصوف غضب لذلك كثيرا، وكانت هذه من جملة الأمور التي غضب بسببها بومدين من بوتفليقة ليجري إبعاده لاحقا إلى صحراء مالي، وأصبح اسمه حينها عبد القادر المالي.
ماذا عن الجانب المغرب؟ ألم يكن له دور في كل هذا؟ كان الحسن الثاني يعلم بوجود جنوب إفريقي في بلاده، ضمن المجموعة الجزائرية المستقرة في وجدة. وكان مانديلا يخرج كل مساء، ويتوجّه إلى «كراج» في الحي نفسه، حيث يتدرّب على الملاكمة عند محمد بوراس، صاحب نادي شعبي رياضي. وهناك أصيب مانديلا بكسر في أنفه خلال أحد تداريبه الرياضية. وهذه الواقعة ذكّرته بها خلال محادثتنا، حيث قلت له إن صديقي بوراس، وقد توفي الآن، حمّلني رسالة، مفادها أنك إن اعترفت بالبوليساريو سيأتي ليعيدها مرة أخرى.
ماذا كان رد مانديلا؟ ضحك لذلك، فهو رجل بسيط جدا ويحب النكتة، وقال لي سيكون خيرا، وأخبرني أنه يعلم تفاصيل ما يقع بين المغرب والجزائر وإنه سيحاول إصلاح الوضع. وحين أخبرته بوجود وفد من السياسيين المغاربة لم يستطيعوا الدخول، قال لي أخبرهم أنني سأستقبلهم في مدينة «سويتو» داخل دبابة نصف مزنجرة، ذلك أن هذه المدينة كانت شديدة الخطورة. وقبل أن نفترق، قلت له إننا نرحب بك في المغرب ونود أن ننظم لك عرسا جديدا بالطريقة المغربية مع زوجته غراسا ماشيل، وهو بالفعل ما تم حيث جاء إلى المغرب وأقمنا له حفلا في بيت الدكتور الخطيب، وحضر فيه عبد الرحمان اليوسفي والعديد من الشخصيات.
كيف تفسّر ما رواه مانديلا بنفسه حول مجيئه إلى الرباط ولقائه بالخطيب وحصوله على الأموال والأسلحة؟ الحسن الثاني طلب من الخطيب أن يقوم باستقدام مانديلا إلى الرباط، وهو ما حصل، حيث مكث في العاصمة ثلاثة أيام، وأغدق عليه بالأموال والأسلحة، وهناك من يربط بين الاعتقال السريع الذي وقع فيه مانديلا ورفاقه بمجرد عودتهم إلى جنوب إفريقيا، وبين وشاية جزائرية بفعل تضايق الجيران من تقاربه مع الحسن الثاني حيث اعتبروا أنه تم استقطابه.
ماذا عن موقفه من ملف الصحراء؟ كان مانديلا يفكر في حل لمشكلة الصحراء يقوم على مبدإ اللامركزية، وكان يفكر في نماذج مثل ألمانيا وكندا، لكن خطأ دبلوماسيا فادحا من جانب المغرب، أدى إلى تغييره موقفه منا ومنح الجزائر فرصة سانحة لضرب المغرب من خلال مانديلا. ذلك أن دبلوماسيا كبيرا لا داعي لذكر اسمه، تحدّث في لقاء خاص مع مجموعة من زملائه الأجانب، بطريقة أغضبت مانديلا حين أبلغه أحد الدبلوماسيين الفلسطينيين بها، ذلك أنه أخبر أن المغاربة يعتبرون أنفسهم أولياء نعمتك ويقولون إنهم هم من صنعك ودعموك منذ الستينيات إلى غاية انتخابات الرئاسة... ومنذ ذلك الحين في 2003، أصبح مانديلا أداة فعّالة في يد خصوم المغرب، بل هو الذي أثر على أوباما شخصيا والحزب الديمقراطي الأمريكي ضد المغرب.