قبل سنوات قليلة، قمت بزيارة إلى أمستردام، ضمن وفد من الصحافيين المنتمين إلى شمال إفريقيا والشرق الأوسط استضافتهم الخارجية الهولندية، وكان برنامج الزيارة يشمل لقاءات مع جمعيات مدنية كان ينشط فيها مواطنون هولنديون من أصول مغربية (المغاربة يشكلون ثاني جالية أجنبية بالبلاد بعد الأتراك، ويصل عددهم إلى أكثر من 400 ألف نسمة). من باب الفضول الصحافي (أو ربما فقط، من باب العادة السيئة أو لعله رغبة، لتجاذب أطراف الحديث، أو ربما كان كل هذا في آن واحد)، انخرطت في حديث مع مجموعة من الشباب من أبناء المهاجرين المغاربة حول أمسترادم وقنواتها التي لا تنتهي، ومدى كثافة المغاربة فيها ضمن عشرات الجنسيات الأخرى. وعند أحد منعطفات حديثنا الحر هذا، بادرت بطرح سؤال حول هويتهم: هل يعتبرون أنفسهم هولنديين أم يحسون أنهم مغاربة؟ كنت أتوقع منهم مجاملتي بالجواب الروتيني الجاهز على طرف كل الألسن في مثل هذه اللقاءات (نحن طبعا مغاربة) أو في أقصى الحالات كنت انتظر ارتباكا وترددا إزاء هذه المسألة "المعقدة". لكن شابا بينهم، يفيض حيوية ويجاهد في الحديث معي بلهجة مغربية ملفوفة برنة ريفية لا تخطئها الأذن، كانت تخفف كثيرا من ركاكتها الواضحة، رد علي بدون ارتباك، بل بثقة: "أنا ولد أمستردام دبا".. لا مغربي ولا هولندي، ولا هم يحزنون. لعله انتبه إلى ما أحدثه جوابه من دهشة عندي رغم أنني حاولت ما أمكن التظاهر بالهدوء، والحفاظ على حياد ملامحي، فشرح يوضح لي، هذه المرة بإنجليزية سليمة، أن يعيش بعمق حياته، بكل اختلافاتها وتحولاتها، في هذه المدينة. عندما يكون خارج البيت فهو يعيش وفق "الخارج"، ولما يكون داخله فهو يتأقلم مع هذا "الداخل". دون أن يدري فهذا الشاب، الذي لم يدم لقائي معه سوى ساعة ونيف، أعطاني تعريفا مجسدا لما كنت، وما أزال، أؤمن به، وهو أن هوية المرء، غير ثابتة وجامدة، بل هي دائمة التحرك والتحول، وهي تحيى وتنمو بفضل هذا التحرك الدائم، تماما مثل مدينة أمستردام، وأن سجنها في قالب واحد متجمد (عربي أو أمازيغي أو غيره) يحولها إلى وحش كاسر مصاب بالتوحد ولا يعرف لغة أخرى غير العنف للتعامل مع الآخرين، ويعتبر الآخر عدوا، بينما هو مصدر إغناء. ولعل هذا ما جعل جاك دريدا ينحت مفهوم: "LES MOTS SOUS RATURES"، وأخذ يكتب كلم "ETRE" ويضع عليها علامة X للدلالة على عدم وجود هذا الوجود بمعناها الجامد غير المتحرك. وهذه الهوية، باتت أسرع تحولا في عالم اليوم الذي فرضت عليه التقنية والافتراض (LE VERTUEL) الانخراط في حركية قد تبدو لنا محمومة وفوق طاقتنا، نحن المنتمين إلى مجتمعات ألفت الارتكان إلى الثوابت والاطمئنان إليها، وصارت منفلتة لدرجة أنه كما قال القاص المغربي أحمد بوزفور، ما تكاد تبلغ منها "الواو" حتى تكون تحولت وتغيرت.