لما كنت في الإعدادي لم نكن نصدق من يأتينا بخبر غياب أستاذ ما، إلا أن أقسم و»حلف» بأغلظ الأيمان. كنا نحس (حامل الخبر والمحمول إليهم على حد سواء) أننا في حاجة دائما إلى سند فوقي يدعم البشرى، ربما لقلة الأنباء السارة في تلك الإعدادية التي كانت مشهورة آنذاك بصرامتها. بعدها فقط، كانت تلك الفرحة اللذيذة تغمرنا خاصة إن كان ذلك الأستاذ من تلك الفئة الثقيلة على نفوسنا التي أخذت تتفتح للتو وتتلمس طريقها هناك وراء ذلك السياج غير المرئي الذي كان أهلنا يسيجون به طفولتنا. تلك الطريق التي ستفضي بي، سنة بعد سنة، إلى الاقتناع: أولا، أن إقحام الدين- تلك الممارسة الروحية الشخصية السامية- في التعاملات الدنيوية بين الناس وفي علاقتهم بالسلطة التي تدبر شؤونهم العامة، ليست فيه منافع لهم. ثانيا، أن المجتمع المغربي مازال أمامه، للأسف، طريق أطول من «أوطوروت وجدة» لبلوغ تلك الأرض التي سيترك فيها «لله ما لله.. ولقيصر ما لقيصر». ثالثا، أن كثرة «القسم» و»الحلفان» (بمختلف تعابيره التي تتمركز حول الله) التي تؤثث الحياة اليومية للكائن المغربي، ما هي إلا مظهر آخر من مظاهر تلك الهشاشة المزمنة التي تسري في كيانه مثل النسغ، وتمتد إلى أفعاله وأقواله.. تلك الهشاشة التي تدفعه دفعا إلى الاحتماء في ممارستين: الاستجداء للحصول على كل شيء حتى حقوقه، والقسم لإثبات الذات والتحدي، ولنفي إخلاله بواجب ما. فالمغربي مثلا يسارع إلى القسم عندما يوقفه شرطي المرور مثلا، وينكر أنه «حرق» الضوء الأحمر، أو في أحسن الأحوال يقسم بأنه لم يره.. والمغربي يستعين دوما بالقسم ليقنعك بأن ما يقوله صحيح لا يأتيه الشك من بين يديه ولا من خلفه.. والمغربي يستقوي بأغلظ الأيمان حين يريد أن يتحدى أحدا ويثبت أنه قوي وقادر على الثبات على موقفه ولن يتزحزح عنه. إنه يحس دائما أنه بحاجة إلى سند خارجي/ فوقي للاحتماء به.. إلى يد عليا.. إلى الذات الإلهية التي يعتبرها المصدر الأول للحق ومنبع الحقيقة ليسند خطابه ويجعله «مقنعا»..»صائبا». لا شك أن قسم رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران بأنه لن يتراجع عن المرسومين اللذين فصلا بين التكوين والتوظيف وتسببا في الاحتجاجات العارمة للأساتذة المتدربين في مختلف مدن البلاد، فيه ما فيه من توظيف فاضح للدين في ملف قانوني «مدرح» بكثير من الممارسة السياسوية، ولكنه، في تقديري، يعكس في الأساس ذهنية الكائن المغربي، الذي يجد صعوبة بالغة في الارتقاء إلى مرتبة الفرد الكامل في فردانيته، القادر على الإقناع بالحجج والبراهين. وبدل ذلك يلوذ ب«أغلظ الأيمان» للتأكيد أنه على حق وأنه لا يتراجع.