في الوقت الضائع من عمره، ألقى المجلس الوطني لحقوق الإنسان حجرا كبيرا في البركة السياسية والفكرية والفقهية المغربية. لقد قدم يوم أمس توصياته للحكومة والبرلمان حول المساواة التامة بين الرجال والنساء. وَمِمَّا نقرأ في هذه التوصيات: «تعديل مدونة الأسرة بشكل يمنح المرأة حقوقا متساوية مع الرجل في ما يتصل بانعقاد الزواج وفسخه، وفي العلاقة مع الأطفال، وكذا في مجال الإرث، وذلك وفقا للفصل 19 من الدستور والمادة 16 من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة». كاتب هذه السطور يعتبر الدعوة إلى المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة في هذا التوقيت وبهذه الطريقة الفجة، ودون حوار مجتمعي، وفي هذا الظرف، حيث الحقوق الأساسية مازالت بين قوسين، وحيث التوتر على أشده بين السلطة ومنظمات حقوق الإنسان الدولية، وحيث المخاوف المتزايدة من الرجوع إلى الوراء في الملف الحقوقي.. هذه التوصية ينطبق عليها المثل الدارج الذي يقول: «آش خاصك ألعريان؟ الخاتم أمولاي»… لماذا هذا الموقف السلبي من هذه التوصية هنا والآن؟ المجلس الوطني لحقوق الإنسان انتهى عمره الافتراضي وصلاحياته القانونية، وهو وأعضاؤه وموظفوه وميزانيته ودراساته خارج القانون المنظم لعمله الآن، وكان الأولى أن يعلق أنشطته، أو يقتصر على تدبير الشؤون الجارية إلى حين تجديد شرعيته، وذلك ليقدم النموذج في احترام دولة الحق والقانون، لا أن يقفز في الهواء، ويترك الأولويات الكثيرة الموضوعة على جدول العمل الحقوقي، ويذهب إلى الدعوة إلى مساواة المرأة بالرجل في الإرث، هذا موضوع حساس ومعقد وقد تتحول إثارته بجهل إلى استفزاز لمجتمع محافظ يمر من ظرف حساس، هذا أولا. ثانيا، المواد التي يحتج بها المجلس الوطني لحقوق الإنسان من الدستور المغربي، ومن اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة لتبرير توصياته، مواد يقرؤها اليزمي ورفاقه بطريقة انتقائية مختزلة جدا، ولا تراعي مجمل النص، سواء في الدستور أو في الاتفاقية الدولية. إليكم التفاصيل: ينص الدستور في الفصل 19 على: «يتمتع الرجل والمرأة، على قدم المساواة، بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية الواردة في هذا الباب من الدستور، وفي مقتضياته الأخرى، وكذا في الاتفاقيات والمواثيق الدولية، كما صادق عليها المغرب، وكل ذلك في نطاق أحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها». إذن، المشرع يقر بمبدأ المساواة داخل ثوابت الدولة ووفق ما صادق عليه المغرب من اتفاقيات، وعندما نرجع إلى الفصل الثالث من الدستور, ماذا نجد؟ «الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية»، وعندما نرجع إلى الفصل 16 من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة نجد أن المغرب تحفظ على هذه المادة لأنها تضع تشريعاته الداخلية الدستورية والقانونية في تناقض مع هذه المادة، وخاصة قانون الإرث الموجود في مدونة الأسرة، والمستمد من الفقه الإسلامي والمذهب المالكي، والذي يأخذ بالآية: «للذكر مثل حظ الأنثيين»، كما أن المادة 16 من الاتفاقية الدولية للقضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة تتناقض مع الدستور المغربي الذي تنص المادة 43 فيه على: «عرش المغرب وحقوقه الدستورية تنتقل بالوراثة إلى الولد الذكر الأكبر سنا من ذرية جلالة الملك محمد السادس، ثم إلى ابنه الأكبر سنا، وهكذا ما تعاقبوا، هنا الدستور يحصر ولاية العهد في الذكور دون الإناث، وبالمنطق «الأصولي الحقوقي» للمجلس ورفاقه، فإن هذا تمييز ضد المرأة. هنا تنتهي جرأة المجلس الوطني لحقوق الإنسان على المجتمع، وتبدأ الرقابة على الفكر الحقوقي إزاء الدولة. إذا سلمنا مع المجلس الوطني لحقوق الإنسان بالذهاب إلى أبعد مدى في التطبيق الحرفي للمساواة المطلقة بين الرجل والمرأة، فسنصطدم بالفصل 43 من الدستور الذي يحصر ولاية العهد في الذكور من أبناء الملك دون الإناث، فلماذا لم توصِ السيدة ربيعة الناصري، التي أعدت هذا التقرير حول المساواة، بضرورة تغيير الدستور، وإعطاء حق للإناث في وراثة عرش المغرب! لماذا يتجرأ بعض اليساريين المتقاعدين على المجتمع المحافظ فقط، ولا يقتربون من السلطة الأكثر محافظة في المغرب؟ إذن، الأمر سياسي وليس حقوقيا… وإذا كان الأمر سياسيا، فمن حقنا أن نناقش معكم هذه التوصيات انطلاقا من منطق سياسي وليس حقوقيا، وهنا تنتصب علامات استفهام وتعجب كثيرة حول الدور الذي أصبح يلعبه المجلس الوطني لحقوق الإنسان، الذي ينزاح، يوما بعد آخر، عن مبادئ باريس، ويقترب من لعب أدوار سياسوية صغيرة لفائدة الجناح الأكثر انغلاقا في السلطة، ولهذا تراه يسكت عن الخروقات اليومية لحقوق الإنسان، ويتزاحم مع الحكومة في أدوارها التنفيذية في ملفات تقع خارج اختصاصاته. إن مجلس اليزمي، الذي لا يحظى بتمثيلية كل الطيف الفكري والحقوقي المغربي، يتصرف في ميزانية صارت أضخم من ميزانيات بعض الوزارات، ومن المفروض أن تعيد الحكومة النظر في سياسة الكرم الحاتمي مع هذا المجلس الذي أصبح يأكل أربعة أضعاف ميزانيته السنوية، هذا دون احتساب ما يحصل عليه مباشرة من المؤسسات العمومية ومن المنح الخارجية… أن تكون حقوقيا يعني أن تكون إنسانا، أي أن تهتم بمن لا يملكون السلطة.