نعم، لا أنكر أني أغتاظ كثيرا من جواز سفري الأخضر هذا كلما رمتني الظروف هناك، في أحد المطارات الغربية، لأن شرطي الحدود يمعن فيه وفيّ بنظرات تنضح ريبة. وحدث في بعض المرات أن طلب مني، بحركة باردة وبملامح محايدة التنحي جانبا، حتى ينظر في أمر جوازي الأخضر، فأتنحى مشيعا بالنظرات المرتابة لكل المسافرين الآخرين، وأنا أتضاءل إلى أن أصير بحجم نملة تائهة. في أكثر من مرة أحسستني مثل «جوزيف ك»، وأقضي وقت الانتظار، الذي قد يطول أو يقصر، باحثا عن تهمة جديرة بكائن في وضعي. ثم يستدعيني الشرطي أو رئيسه وتبدأ ال»سين جيم»… وبعد أن أثبت براءتي ويتأكد بأنني لا أشكل خطرا على مملكته، يمنحني الإذن بالدخول، وبحركة خفيفة يضع خاتمه على جوازي، فأتسلم وأبتعد مسرعا وأنا أصب غيظي على وثيقة عذابي التي أتخلص منها بحشرها في أي من جيوبي. نعم، أثار جواز السفر الأخضر هذا غيظي أكثر من مرة، ولكن انزعجت كثيرا لما رأيته يتمزق بين يدي الملاكم زكريا المومني. أحسست أنه يمزق شيئا ما بداخلي.. ذلك الشيء المنفلت من كل لغة.. ذلك الشيء الذي يفرح فينا عندما يسجل المنتخب هدفا أو يحقق أي كائن مغربي إنجازا ما.. ويحزن ويغضب عندما ينهزم ذلك المنتخب أو يعرض سياسي متهور أو مسؤول جاهل هذه البلاد للسخرية.. انزعجت لأن الكائن الذي مزق ذلك الجواز خلط، عن جهل أو تجاهل، بين الوطن وبين النظام الذي يعارض، والذي لا أستسيغ الكثير من تصرفاته.. خلط، بسبب الانفعال أو عمدا مع سبق الإصرار، بين الوطن والأجهزة الأمنية التي اتهمها ويتهمها بالاعتداء عليه.. انزعجت لأن هذا الكائن مثل الذي يطلق النار أو يطعن الأم فقط، لأنه تعثر في بلغتها. صحيح أن ذلك الجواز الأخضر تمنحه إدارة نشكو كلنا تقريبا من سلوكاتها السيئة والأكثر من مخجلة في بعض الأحايين، ولكنه تحول- ولا تسألني كيف، لأنني حقا لا أملك جوابا- إلى رمز، مثله مثل العلم، يجسد لنا ذلك المنفلت الذي يسكننا جميعا، ويحول ببراعة ساحر خرافي حفنة من التراب والهواء والشجر والماء إلى شيء يتجاوز الجغرافيا والتاريخ والدين والأساطير. عندما مزق زكريا المومني تلك الوثيقة الخضراء، لم يوجه ضربة إلى أولئك الذين يتصارع معهم حول «الأحقية» في الاستفادة من الريع، بل وجه طعنة إلى ذلك التراب الذي تمرغت فيه وأنا صغير.. إلى تلك «الكدية» التي كنا نهرع إليها لصنع «البيروري».. إلى «الدروج» التي احتضنت بسخاء أولى احتكاكاتي الأولى مع بنت الجيران.. إلى أحلامي الأولى.. إلى سخطي الأول والمزمن على الوضع.. إلى خيباتي.. إلى قبر والدي.. إلى كل تلك الأشياء البسيطة المحزنة والمخزية حتى التي تجعلني أكره العيش هنا.. وإلى تلك الأشياء البسيطة المفرحة التي تجعلني أتحمل أكثر تلك الوخزات التي أتلقاها بسبب جوازي الأخضر هناك في تلك المطارات…