ليس علماء الدين وأعضاء المجلس العلمي الأعلى وحدهم من يقومون بالإفتاء، بل إن أهم «الفتاوى» هي تلك التي تصدر عن القضاة، خاصة منهم المنتمون إلى أعلى محكمة في النظام القضائي المغربي، حيث يؤوّلون ويفسّرون وينتجون قواعد لم ينص عليها القانون، فتصبح مرجعا يستعين قضاة محكمة النقض، يراكمون كل سنة قرارات في مواضيع خلافية بين القضاة والمحاكم، ويملؤون فراغات لم ترد فيها نصوص، و»يفتون» في إشكالات جديدة من مستجدات العصر، فمنحوا للمرأة الحق في اقتسام الممتلكات مع الزوج عند الطلاق في حال إثباتها مساهمتها في ثروات الأسرة، واعطوا للزوج في المقابل حق الحصول على تعويض في حال تعسّف الزوجة في طلب الطلاق. وأسقطوا أسطورة «ضربو التران» المتداولة بين المغاربة، وألزموا مكتب السكك الحديدية بتعويض ضحاياه، وأبطلوا انتخاب رئيس الجماعة الحامل لشهادة من مدرسة تقليدية كما أبطلوا صدقة المريض بالسرطان لكونه مرض مميت... السرطان يُبطل الهبات المقرر فقها أن بطلان الصدقة لمرض الموت مقرر لمصلحة الورثة والدائنين، ولا ينظر فيه لأهلية المريض وعوارضها، وإنما النظر فيه إلى شروطه المعتبرة شرعا، «فما دام المتصدق كان يعاني من مرض السرطان، وهو من الأمراض التي حكم الأطباء بكثرة الموت به، وأنه تصدق وهو بحاله بدار بعد أن أقعده المرض الفراش واشتد به واتصل به إلى أن توفي حسبما هو ثابت من الملف الطبي المستدل به، فإن المحكمة لما التفتت عن النظر في مدى توافر علاقة المرض بموته وجنحت إلى النظر في مدى سلامة إرادته بالتصدق، واعتبرت إرادته سليمة رغم أنه بحال مرض أقعده الفراش واتصل بموته، تكون قد خرقت القانون المتمثل في القواعد الفقهية الواجبة الإعمال في النازلة». الملف يتعلّق برجل كان مصابا بسرطان الرئة والمعدة، وكان طريح الفراش حين قام بمنح المنزل الذي كان يقيم فيه لكل من زوجته وابنته، وهو ما ستكتشفه أخواته مباشرة بعد وفاته، لتبادرن إلى رفع دعوى أمام المحكمة مطالبات بإلغاء هذه الهبة لكونها جرت خلال المرض الذي مات به أخوهن. طلب استجابت له المحكمة الابتدائية، بعدما لم تقدم الزوجة والبنت أي جواب للمحكمة، في مقابل تقدمت الأخوات بملف متكامل من الوثائق المتعلقة بالعقار والملف الطبي لشقيقهن. وهنا بادرت المستفيدتان من الهبة، إلى استئناف الحكم عبر المحامي طارق السباعي، حيث تشبثتا بصحة العقد الذي حصلتا بموجبه على العقار، ومعتبرتين أن الأمر بمثابة الوصية التي يجب تنفيذها. محكمة الاستئناف طلبت إجراء خبرة طبية، من أجل معرفة الحالة التي كانت عليها أهلية الراحل خلال إبرامه عقد الهبة، فأكد الطبيب الذي أجرى الخبرة، أن الراحل وإن كان مصابا بالسرطان، فإنه ظل يتناول دواءه ومتمتعا بإدراك كامل وقدرة على التمييز، «قائما بكافة أشغاله وأعماله بصفة شخصية دون مساعدة الغير، وبقي كذلك متمتعا بقواه الفيزيائية التي تجعله مسؤولا عن كافة تصرفاته». لتخلص محكمة الاستئناف إلى إلغاء الحكم الابتدائي، ورفض طلب الأخوات الراغبات في استعادة العقار المتصدّق به. قرار حملته أخوات الراحل إلى محكمة النقض، معتبرات أنه لا ينبني على أساس قانوني، وأن الصدقة تمت خلال مرض الموت، الذي هو السرطان، وأعابت الأخوات على محكمة الاستئناف، مناقشتها إرادة الراحل وليس ما إن كان قد قام بالصدقة خلال مرض موته. دفوعات قبلتها محكمة النقض وأيدتها، حيث شدّدت على أن المقرر فقها أن بطلان الصدقة لمرض الموت مقرر لمصلحة الورثة والدائنين، «ولا ينظر فيه إلى أهلية المريض وعوارضها، وإنما ينظر فيه إلى شروطه المعتبرة شرعا، ويتبين من أوراق الملف، أن المتصدق كان يعاني من مرض السرطان، وهو من الأمراض التي حكم الأطباء بكثرة الموت به، وأنه تصدق وهو بحاله بدار المطلوبتين زوجته وبنته منها، بعد أن أقعده المرضُ الفراشَ واشتد به حتى لم يعد قادرا على الغذاء إلا بواسطة أنبوب اصطناعي تم زرعه له بعملية جراحية». وأعابت محكمة النقض على محكمة الاستئناف، التفاتها إلى البحث عن أهلية وإدراك الراحل، معتبرة أنها قد خرقت القانون وقررت نقض قرارها. من حق الزوج الحصول على تعويض عن الطلاق ! إذا ثبت للمحكمة أن الزوجة هي المسؤولة عن الفراق، وأن حقها في طلب التطليق للشقاق اتصف بالتعسف، وأنها لم تثبت بأن الزوج قد ساهم بدوره في هذا الفراق، وقضت تبعا لذلك بأن تؤدي تعويضا للزوج في إطار سلطتها التقديرية، فإنها تكون بذلك قد طبّقت القانون. ملفان اثنان أكدت فيهما محكمة النقض هذا التوجه، حيث يستفاد من أوراق الملف الأول ومن قرار محكمة الاستئناف بطنجة، أن الزوجة قدّمت طلبا إلى المحكمة الابتدائية بطنجة التمست فيه الحكم بتطليقها من زوجها للشقاق لأن العشرة ساءت بينهما، وأجابها الزوج بمقال مضاد التمس فيه الحكم بإرجاعها له نصف الصداق، وهو عبارة عن ثلاث لويزات ونصف لويزة وعقد من الذهب وثلاثة أزواج من الأقراص وخاتمين وسلسلة من ذهب وثلاثة خواتم من الألماس وعقد من الألماس، وأدائها له تعويضا عن الفراق قدره 30 ألف درهم. وبعد تعذر الإصلاح بين الطرفين، قضت المحكمة الابتدائية بتطليق الزوجة وتحديد مستحقاتها في 3000 درهم عن المتعة و1500 درهم عن واجب السكنى خلال العدة، ورفضت مطالب الزوج بالتعويض فاستأنف الحكم. محكمة الاستئناف قضت بإلغاء هذا الحكم في جزئه المتمثل في رفض التعويض، وحكمت على الزوجة بدفع 10 آلاف درهم كتعويض للزوج، لتبادر الزوجة إلى الطعن في القرار أمام محكمة النقض، معتبرة أن الأساس القانوني لإلزامها بتعويض الزوج غير موجود، لكونها لم يصدر عنها أي تصرف يضر بالزوج، خاصه أنه لم يحضر جلسة الصلح. محكمة الاستئناف استندت في قرارها إلى كون الزوجة هي المسؤولة عن الفراق لأنها لم تبذل مجهودا للحفاظ على وحدة الأسرة، وهو ما أيدته محكمة النقض، التي قالت إن مدونة الأسرة خولت للمحكمة حق مراعاة مسؤولية كل من الزوجين عن سبب الفراق، «والمحكمة لما ثبت لها من أوراق الملف ومن البحث الذي أجرته في القضية في المرحلة الابتدائية أن الطاعنة هي المسؤولة عن الفراق وأن حقها في طلب التطليق للشقاق اتصف بالتعسف في استعمال هذا الحق، وأنها لم تثبت بأن الزوج قد ساهم بدوره في هذا الفراق، وقضت تبعا لذلك بأدائها له تعويضا حسب منطوق القرار في إطار سلطتها التقديرية، تكون قد طبّقت مدونة الأسرة التطبيق السليم». فيما يستفاد من وثائق الملف الثاني، أن زوجة تقدمت بمقال لدى المحكمة الابتدائية لخنيفرة، التمست بمقتضاه تطليقها للشقاق لوجود خلافات بينهما، وأجاب الزوج بمقال مضاد اعتبر أن الزوجة متعسفة في طلبها، وأنه تكبد مصاريف باهضة لإقامة حفل الزفاف، وأنها غادرت بيت الزوجية بعد وقت قصير من عقد الزواج، وأنه سبق أن طالبها بالرجوع فقضت له المحكمة بذلك لكنها امتنعت عن تنفيذه، والتمس بالتالي الحكم له بتعويض مادي ومعنوي عن الضرر قدره ب60 ألف درهم. وبعد تبادل الردود وإجراء محاولة الصلح وفشلها، أصدرت المحكمة الابتدائية حكما بتطليق الزوجة وحكمت لها بمبلغ 8000 درهم عن المتعة و1800 درهم كواجب للسكنى خلال فترة العدة، ومنحت الزوج بالمقابل تعويضا قدره 8000 درهم. فاستأنف الزوجان الحكم كل في الجزء المتعلق به، فقضت محكمة الاستئناف برفض التعويض الذي يطالب به الزوج وتأييد الحكم الابتدائي في الباقي، معتبرة أن طلب الزوجة الطلاق مبني على سوء معاملة الزوج لها. محكمة النقض التي لجأ إليها الزوج، اعتبرت أن الزوجة هي المسؤولة عن الطلاق، «وأن الضرر قائم لأنها في غضون شهر من الزواج غادرت بيت الزوجية وتركته محط سخرية من طرف زملائه وأهله». وذهبت محكمة النقض في الرد على محكمة الاستئناف التي قالت إن التعويض الذي يطالب به الزوج لا يبرر أي ضرر، إلى أن التطليق «في حد ذاته ضرر»، وبالتالي يستوجب التعويض. شواهد مدارس وزارة الأوقاف لا تقبل في الانتخابات ! لإثبات المستوى التعليمي المنصوص عليه في المادة 28 من الميثاق الجماعي، يجب على المعني بالأمر أن يدلي بشهادة مدرسية صادرة عن مؤسسة تعليمية تتبع وزارة التربية الوطنية، والمحكمة بحكمها في الملف الذي كان موضوع دعوى وصلت إلى محكمة النقض، لما استبعدت الشهادة المدرسية الصادرة عن عميد مدرسة للتعليم الأصيل واعتبرتها صادرة عن مؤسسة لا تخضع لوزارة التربية الوطنية ولكون المستوى التعليمي الوارد بها لا يوازي المستوى المطلوب، «تكون قد أولت المادة المذكورة المحتج بخرقها تأويلا صحيحا»، يقول قرار المحكمة العليا بالمغرب. ويستفاد من وثائق الملف، أن السيد عبد الله وحمان تقدّم بمقال أمام المحكمة الإدارية بمراكش عرض فيه أنه انعقد في يوم 7 أكتوبر 2011، اجتماع بالمجلس القروي لجماعة بوابوض امدلان، لانتخاب مكتب المجلس والأجهزة المساعدة له بناء على قرار صدر عن محكمة الاستئناف الإدارية بمراكش، يقضي بإبطال انتخاب مكتب المجلس لخرقه المادة 28 من الميثاق الجماعي، على أساس أن السيد محمد المرابط لا يتوفر على الشهادة المدرسية التي يلزم توفرها، وأن هذا الأخير فاز للمرة الثانية بمنصب الرئيس. وبعد المناقشة، صدر الحكم بإلغاء عملية انتخاب رئيس المجلس الجماعي محمد المرابط، وهو الحكم الذي تأيد استئنافيا. الرئيس المنتخب طعن في القرار، باعتبار أنه متوفر على مستوى تعليمي «ممتاز» يخوله تسيير الإدارة المحلية، وهي غاية المشرع في التنصيص على ما يعادل الخمس سنوات من التعليم الابتدائي. لكن المحكمة استبعدت الشهادة المقدمة لكونها صادرة عن عميد مدرسة أولاد عبد المولى للتعليم الأصيل بإقليم شيشاوة، التي يشهد فيها بأن الطالب تابع دروسه بهذه المدرسة مدة سبع سنوات متتالية، واعتبرت أن تلك الشهادة صادرة عن مؤسسة لا تخضع لوزارة التربية الوطنية، ولكون المستوى التعليمي الوارد فيها لا يوازي المستوى المطلوب، «وهي بذلك تكون قد أوّلت المادة المحتج بها تأويلا صحيحا، مادامت الشهادة المطلوبة هي الصادرة عن مؤسسات تعليمية تتبع وزارة التربية الوطنية فيما يخص البرامج والدروس الملقنة بهذه المؤسسات». لا أساس لأسطورة «ضربو التران» كشف أحد القرارات الأخيرة لمحكمة النقض، عن انعدام الأساس القانوني للفكرة الشائعة لدى المغاربة، والتي تعتبر أن كل من توفي جراء حادث تعرّض له من قطار للسكك الحديدية، يعتبر مخطئا ولا يمكن لورثته الحصول على أي تعوض. «تدخل السكك الحديدية في مفهوم الطريق العام، وإن كانت ملكا للمكتب الوطني للسكك الحديدية، وذلك لا يغيّر من طبيعتها العمومية، وفي دعوى التعويض بسبب الحادثة المتسبب فيها القطار ينعقد الاختصاص للمحكمة العادية، وتحمّل المسؤولية فيها للمكتب الوطني للسكك الحديدية في إطار مسؤولية حارس الشيء...» تقول المحكمة العليا بالمغرب. ويستفاد من وثائق الملف الذي همّه القرار، أن ورثة «ن. لحسن» ادعوا في مقالهم أمام المحكمة الابتدائية بابن جرير، أن مورثهم هلك على إثر دهس القطار له بمحطة القطار بابن جرير، طالبين تحميل المدعى عليه، المكتب الوطني للسكك الحديدية، بصفته مسؤولا مدنيا كامل المسؤولية عن الحادثة، والأمر تمهيديا بإجراء خبرة حسابية لتحديد دخل مورثهم السنوي وحفظ حقهم في الإدلاء بطلباتهم إثر الخبرة، وأجاب المدعى عليه، المكتب الوطني للسكك الحديدية، أنه يؤمن مسؤوليته المدنية لدى شركة للتأمين، طالبا إدخالها في الدعوى لإحلالها عند الاقتضاء في الأداء، وأن الضحية يرجع إليه الخطأ كلية في إصابته في الحادثة بعدم انتباهه ومخالفته للضوابط المنصوص عليها في الظهير المتعلق بالمحافظة على السكك الحديدية وأمنها ومراقبتها واستغلالها، والذي يقضي بمنع الصعود إلى العربات أو النزول منها إلا في المحطات، باستثناء صدور موافقة من المستخدمين. شركة التأمين أجابت بدورها، مثيرة عدم الاختصاص النوعي، لكون المدعى عليه مؤسسة عمومية وأن الضحية أصيب في الحادثة بسبب خطئه الجسيم، ولا يتحمل مؤمّنها أي مسؤولية. وبعد الأمر بخبرة حسابية وإنجازها والتعقيب عليها وتمام المناقشة، قضت المحكمة بمسؤولية المكتب الوطني للسكك الحديدية عن الحادثة، وأدائه لصالح المدّعين التعويضات المحكوم بها. إلا أن المكتب وشركة تأمينه استأنفا الحكم، معتبرين أن السكك الحديدية ليست طريقا عاما، بل في ملكية المكتب ولا يحق للغير استعمالها. لكن القضاء اعتبر أن هذه الملكية لا تغير من طبيعة السكك الحديدية باعتبارها طريقا عمومية، وشدّد على أن مسؤولية المكتب في هذه الحالة تدخل ضمن مسؤولية حارس الشيء، «وهو يسأل عن الضرر الذي نشأ عن القطار بسبب دهسه لموروث المطلوبين بوصفه مؤسسة عمومية». وخلصت محكمة النقض بعدما أحيل عليها قرار محكمة الاستئناف المؤيد للحكم الابتدائي، إلى أن القطار انطلق في مسيره في الوقت الذي كان الهالك ينوي الصعود إليه، مع أن مسؤولية مستخدميه وحراسه ألا يعطوا الإشارة لانطلاقه إلا بعد التأكد من صعود المسافرين وإغلاق أبوابه، كما أن إثبات أجر ودخول الهالك يخضع لسلطتها في التحقق منه عن طريق الخبرة الحسابية، وهو ما لجأت إليه بشأن ذلك، مما تكون معه قد أبرزت في قرارها بعلل سائغة إسناد المسؤولية للطالب الأول واعتمادها للدخل السنوي للهالك، وأجابت عن دفوع الطالبين بما يعتبر كافيا في ردها...».