هنا الصناديق ليست شفافة، بل السياسة مثل ماء النهر. كل هذا يتم تحت نظر ممثل اللجنة الانتخابية المحلية، المشهد الأول: على مدخل مكتب اقتراع في مدرسة ابتدائية في وسط حي بانكو شرق برلين، علقت ورقة مكتوب عليها: «اختر قطعة حلوى». في البداية يعتقد الزائر لمركز الاقتراع أنها مزحة، فهو داخل لاختيار سياسيين في البرلمان وليس لاختيار قطع الحلوى، لكن عندما تقترب تجد مجموعة من أطفال المدرسة، التي تحولت إلى مكتب اقتراع، يتحلقون حول طاولة وضعوا فوقها قطعا كثيرة من الحلوى المعدة في منازلهم، وجاؤوا بها إلى مركز الاقتراع، حيث يحج الآلاف من سكان الحي لبيعها وتخصيص عائداتها لعلاج أطفال كينيا المصابين بالسرطان. إنه ليس فقط تمرينا سياسيا أن يحضر الأطفال إلى مقر اقتراع لحضور أكبر عملية تفكيك للسلطة القائمة وإعادة بناء أخرى، من خلال صناديق الاقتراع، بل إنه تمرين بيداغوجي ودرس تربوي في العمل الإنساني والإحساس بالمرضى والفقراء.
المشهد الثاني: الزمن: صباح الأحد، يوم الاقتراع في ألمانيا، والمكان المكتب الانتخابي رقم 502 في حي متوسط شمال برلين. أول من حضر إلى مكتب الاقتراع هم المشرفون على الانتخابات، وهم ليسوا موظفين ولا ممثلي أحزاب سياسية. إنهم مواطنون متطوعون تنازلوا عن يوم عطلتهم «المقدس»، وجاؤوا للإشراف على الانتخابات بمقابل رمزي لا يتعدى 50 أورو. لا توجد صناديق شفافة سوى في الأنظمة التي تزور الانتخابات. هنا الصناديق ليست شفافة، بل السياسة مثل ماء النهر. كل هذا يتم تحت نظر ممثل اللجنة الانتخابية المحلية، وهي لجنة يرأسها موظف تابع للبلدية يصوت بالمراسلة قبل يوم الاقتراع بأربعة أسابيع حتى يتفرغ يوم الاقتراع لمهمته. العملية تتم في دقائق قليلة، ويمنع القانون المشرفين على المكاتب الانتخابية من الحديث عن السياسة أو الانتخابات، أو حمل شارات أو ألوان تدل على تفضيل حزب على حزب. في نهاية اليوم يجري فتح الصناديق، وفرز وعد الأصوات علنا أمام المواطنين الذين يرغبون في حضور هذه العملية... سألت رئيسة لجنة الانتخابات Christine ruflett عن استعمال العنف في الانتخابات الألمانية، فتعجبت من السؤال، وسألتها عن استعمال المال للتأثير على الناخب الألماني فضحكت، وسألتها عن التلاعب في حساب الأصوات فاندهشت... قالت: «هل هذا يحدث عندكم؟». أنا بدوري ضحكت ولم أرد على سؤالها. ربما فهمت المقصود من أسئلتي. لا حاجة للجواب فالصحافي مثل شاعر الجاهلية ابن بيئته.
المشهد الثالث: وجبة الطعام دخلت هي الأخرى إلى المعركة الانتخابية الألمانية. حزب الخضر يعد الناخبين، إذا وصل إلى السلطة مع حليفه الاشتراكي، بسن قانون يعفي المطاعم الألمانية من نسبة معينة من الضريبة إذا امتنعت عن تقديم اللحوم مرتين في الأسبوع لزبائنها، والغرض بيئي وصحي في الوقت نفسه. بيئي، لأن الحزب الأخضر يتهم كبار مربيي الماشية والأبقار خاصة بتدمير الغابات والأشجار لزرع الأعلاف، وهذا يؤثر على البيئة. أما الاعتبار الصحي فيكمن في أن الألمان من أكبر مستهلكي اللحوم في أوربا، إلى درجة أن السلطة الأكثر طلبا على موائد الألمان هي سلطة اللحم بالمايونيز، ولكم أن تتصوروا التداعيات الصحية لإدمان اللحوم هذا. أنجيلا ميركل ترفض مقترح الخضر هذا ليس فقط لأنها رئيسة حزب يميني يدافع تقليديا عن أصحاب الشركات وكبار الرأسماليين الذين ستتأثر تجارتهم بالحد من رواج اللحم، بل تقول إن تدخل الحكومة في لائحة طعام الألمان خطأ، ويجب أن نترك الناس يعيشون كما يشاؤون...
المشهد الرابع: الحملة الانتخابية، ورغم أن الصحافة الألمانية نعتتها بالباردة هذه السنة، فإن نوادرها كثيرة وبعضها مثير. حزب الخضر علق أوراقا انتخابية صديقة للبيئة وتتلاشى بسرعة (dégradables)، لكن لما هبت الرياح أخذتها معها، وتركت الحزب عاريا من أهم وسائل الحملة الانتخابية، فأصبحت القصة نكتة تقول: «إن الطبيعة لا تحب الخضر رغم أنهم يدعون الدفاع عنها». حزبان متنافسان، واحد في أقصى اليمين والآخر في أقصى اليسار، اعتمدا صورة إعلانية واحدة لعائلة من الريف فيها أم وأب وأطفال وكلهم يمشون في حملة الحزبين معا، وأثار الأمر السخرية في الإعلام، كيف تظهر عائلة واحدة بنفس الوجوه في حملة الحزبين المتخاصمين؟ بحث الفضوليون في الأمر، واكتشفوا أن الصورة باعتها وكالة صور تجارية للحزبين معا، وأنها أساسا مأخوذة للدعاية للجبن وليس للسياسة... ضحك الناس وتحولت القصة إلى نكتة.