تحلّ في ال21 من غشت من كل سنة ذكرى ميلاد الملك، باعتبارها عيدا للشباب جريا على العادة التي سنّها الملك الراحل الحسن الثاني. وقبلها بأسابيع قليلة تحلّ ذكرى تولي محمد السادس ملكا على المغاربة، بمناسبة عيد العرش؛ لكن لحظة ميلاد جديد عرفتها الملكية بعد تدبيرها لشرارة «الربيع العربي»، وإبقاءها على صلاحياتها دون تغيير جوهري، وتميزها عما عرفته دول أخرى بفتح حرب شرسة ضد الإسلاميين ميلاد جديد ميلاد جديد شمل المتن الدستوري والشكل الملكي والأسلوب الشخصي للجالس على العرش، في تثبيت الروابط السياسية والرمزية مع الشعب، فأسبوعان قصيران من الاحتجاج والمطالبة بإسقاط الفساد والاستبداد، كانا كافيين ليبادر الملك إلى تقديم الجواب الذي يشكّل الإطار المؤسساتي الجديد الآخذ في التنزيل داخل المملكة. محمد السادس خاطب شعبه يوم 9 مارس 2011، مبشّرا بنقل بعض السلطات، التي ظلّ يمارسها الملك في دساتير الحسن الثاني، إلى الحكومة في شخص وزيرها الأول الذي سيُصبح في الدستور الجديد رئيسا للحكومة، وبتعزيز صلاحيات مجلس النواب في التشريع والمبادرة ومراقبة الحكومة، مقابل خفض مكانة الغرفة الثانية.
كوكبة جديدة من المستشارين وإلى جانب التحوّلات الدستورية والسياسية التي عرفها أسلوب حكم محمد السادس ما بعد الربيع العربي، ظهرت تغييرات وتطورات متسارعة وفق إيقاع لم يكن معهودا في مكتب العمل الرسمي للملك محمد السادس. فبعد رحيل المستشار الذي كان يوصف بالقوي والنافذ، الراحل مزيان بلفقيه، تحدّثت بعض ألسنة العارفين، وإن بصوت خافت، عن بعض الفراغ الذي خلّفه هذا الرحيل، ليكون موعد تعديل الدستور، لأول مرة في عهد الملك محمد السادس، محطة لبروز واحد من المستشارين الملكيين، وتصدّره واجهة الأخبار السياسية، وهو المستشار القانوني محمد المعتصم، ثم مباشرة بعد اعتماد الدستور الجديد، كشف محمد السادس عن كوكبة من الوجوه الجديدة التي ألحقها بديوانه الخاص، مجسّدا بذلك اختياراته وبصماته الخاصة في الحكم. فبمجرّد انتهاء المهمة الدستورية، وبعدما أصبح المعتصم المخاطب الأول للسياسيين، ومسارعة الإعلام إلى وصفه بالرجل القوي الجديد في المغرب؛ صدر بلاغ للديوان الملكي يُعلن تعيين المنوني في المهمة نفسها التي كان إلى وقت قريب يشغلها المستشار المعتصم. وبعد أيام قليلة، صدر البلاغ الثاني الذي يُعلن أن ذهاب وزير الداخلية السابق، الراحل مصطفى الساهل، إلى كل من نيويورك وباريس، كسفير للمملكة لدى الأممالمتحدة ثم لدى فرنسا، لم يكن إبعادا أو تهميشا، بل مجرّد إعداد لمهمة جديدة، بتعيينه مستشارا للملك. ثم تعزّزت الكوكبة بمؤسس حزب الأصالة والمعاصرة، فؤاد عالي الهمة، ووزير السياحة السابق ياسر الزناكي، ووزير العدل السابق عمر عزيمان… وعكس الطابع الشخصي وغاية الاستئناس التي طبعت دور مستشاري الملك في السابق، بات الأمر مختلفا مع الملك محمد السادس. حيث أصبح منصب المستشار في الديوان الملكي، منصبا مؤثرا ويعبّر عن حظوة صاحبه وترقيته إلى أحد أسمى مواقع المسؤولية في البلاد. وبعد إعلان محمد السادس رسميا تخليه عن مجموعة «مؤنسي» والده ومستشاريه القدماء، أصبح مستشار محمد السادس حاملا لملف أو مكلفا بجانب من جوانب السياسة والاقتصاد والثقافة أو الدبلوماسية.
دور مهم وحاسم للملك «إننا سنقوم بدور الموجه المرشد والناصح الأمين والحكم الذي يعلو فوق كل انتماء»، يقول محمد السادس في أول خطاب للعرش ألقاه في صيف 1999، في عبارات قد يكون عديدون أخطؤوا فهمها، ف«بالنسبة إلى شؤون الخارجية والدفاع والداخلية والشؤون الدينية والعدل، فهذه مسائل دستوريا تعود لي، لكن طبعا مع تنسيق حكومي». ورغم المستجدّات التي نصّ عليها الدستور الجديد، إلا أن الدور الملكي ظل مهمّا وحاسما في جميع الأحيان والمجالات، وذاكرة المغاربة ستذكر كيف كانت الطبقة السياسية، الصيف الماضي، في أعلى درجات الترقّب والانتظار، بعد طول مقام الملك في الديار الفرنسية، حيث كان يقضي عطلة شخصية. الحزب الثاني في الحكومة (حزب الاستقلال) قرّر حينها الانسحاب من أغلبيتها، حيث كان الانتظار يعمّ البلاد في انتظار العودة الملكية والقرار الذي سيتخذه الجالس على العرش أمام أولى أزمات حكومات الدستور الجديد. لكن وحدها الأسرة الصغيرة والبرنامج المسبق التحضير لزيارة المغرب غير النافع، يعيدان الملك إلى واجهة الحدث الرسمي. فبعدما حلّ الملك بالمغرب في اليوم المخصص للاحتفال بنهاية السنة الدراسية بالمدرسة المولوية، توجّه مباشرة من المطار إلى قاعة الحفل لمشاركة ولي عهده احتفالاته بانتهاء سنة دراسية جديدة. ورغم هذا الظهور الرسمي للملك، وتأكد عودته إلى الديار، سوف لن يكون السياسيون وحروبهم ومشاكل حكومتهم ضمن أولويات الملك. بل سيتوجّه مباشرة من الرباط إلى أقصى نقطة في شرق المملكة، حيث كانت الدولة عن بكرة أبيها مطالبة بالانتقال الجماعي إلى مكان لم يسبق لجل السياسيين والنخب الوصول إليه أو السؤال عنه. في قلب مدينة جرادة الفقيرة، سوف يقف كبار مسؤولي الدولة ورجالاتها ونسائها، لتقديم الحساب عن كيفية تدبيرهم أحد أكثر البرامج الملكية قربا والتصاقا بحياة الفقراء، المبادرة الوطنية للتنمية البشرية. ولن يأتي الحسم الملكي في الأزمة الحكومية إلا أسابيع بعد ذلك.
أسلوب محمد السادس أسلوب ملكي خاص في العمل وترتيب الأولويات ورسم الأهداف، يجمع بين ما يؤكده كبار المسؤولين من طيبة ولين واستعداد دائم للتواصل وتقديم المساعدة، وبين الغضبات المتوالية التي تطيح بين الفينة والأخرى برؤوس كبيرة في الدولة. «السيد رئيس الحكومة في اتصال يومي ومباشر بالديوان الملكي، ولا شيء يتم دون تنسيق وتبادل للآراء والمشورة»، يقول مصدر قريب من أجندة رئيس الحكومة، ويضيف أن اتصالات بنكيران تشمل جميع مكونات البلاط، بدءا من الملك شخصيا، وانتهاء بالمكلفين بمهام في ديوانه، «حسب طبيعة الموضوع والملف المراد مناقشته، وقد تأتي المبادرة من السيد رئيس الحكومة أو من الديوان الملكي، كأن يتم إخبارنا بأن جلالة الملك قرر تكليف رئيس الحكومة بمهمة معينة، مثل زيارة الحديقة الوطنية للحيوانات، وتوشيح مسؤوليها بأوسمة ملكية، أو سفره إلى قطر لتمثيل جلالة الملك…». رواية يؤكدها عبد الإله بنكيران بنفسه، حين قال، في لقاء جهوي لحزبه بسلا قبل بضعة أسابيع، إنه يحافظ على اتصال دائم بالملك، وحصوله على إذن أو موافقة ملكيين قبل الإقدام على أي خطوة. وإلى جانب جلسات العمل الخاصة، التي باتت تقليدا جديدا داخل المكتب الملكي يوازي اجتماعات المجلس الوزاري، كشفت السنوات الثلاث اللاحقة لما يعرف بالربيع العربي عن تطوّر آخر في أسلوب وطريقة إعداد الخطب الملكية. نهج جديد في صياغة الخطب الملكية تمثّل أساسا في تخصيص كلّ خطاب لموضوع معيّن، يستعرض فيه الملك تشخيصه، ويقدّم فيه ملاحظاته و«أوامره» لتجاوز الاختلالات. فبعد خطاب التعليم، جاء خطاب افتتاح السنة التشريعية الحالية ليخصّص لمهاجمة تدبير المدن، خاصة منها مدينة الدارالبيضاء. استراتيجية أثمرت توجيها شبه تام للطبقة السياسية والاقتصادية والحقل الإعلامي، طيلة الأسابيع التي تلي الخطاب الملكي، نحو التركيز على الموضوع الذي أثاره الملك، والسعي إلى تنفيذ توجيهاته. وشمل الأسلوب الجديد الواجهة الخارجية، حيث فاجأ الملك محمد السادس المتتبعين الداخليين والدوليين لملف الصحراء، بالطابع القوي والجريء لخطابه الأخير بمناسبة الذكرى ال38 للمسيرة الخضراء، حيث شكّل الخطاب أول خرجة من نوعها لرئيس الدولة المغربية، يوجّه فيها اتهامات صريحة ومباشرة إلى الجارة الجزائر بتوظيف أموال الشعب الجزائري في شراء مراكز قرار دولية، ومغالطة الرأي العام والقوى الكبرى بخصوص حقيقة الوضع الحقوقي في الصحراء. فيما جاء خطاب العرش، قبل ثلاثة أسابيع من الآن، ليحمل نبرة جديدة عنوانها النقد الذاتي والاعتراف الرسمي بعدم تحقيق العدالة في توزيع ثروات البلاد.
«لنا خصوصياتنا» 51 سنة مرّت على يوم 21 غشت 1963، وعن ذلك المشهد العاطفي الذي بدا فيه الملك القوي الطامح إلى إحكام القبضة على الدولة والمجتمع، الراحل الحسن الثاني، وهو يطلّ على شعبه حاملا أول أبنائه الذكور وولي عهده سيدي محمد.. قبل بضعة أيام انقضت 15 سنة إثر مشهد آخر، حمل فيه محمد السادس نعش والده إلى مثواه الأخير، ومتسلّما مشعل إعادة الأمل إلى شعب كان من بين آخر ما سمعه من ملكه الراحل، عبارة السكتة القلبية. «إذا كان جلالة الملك الحسن الثاني، تغمده الله بواسع رحمته، قد رحل إلى جوار ربه، فإننا نحن محمد السادس قد خلفناه في خدمتك شعبي العزيز وخدمة المغرب، وسنبقى على النهج الحسني سائرين تمسكا ببيعة الإمامة الشرعية التي تطوق عنقنا وعنقك موصولة بما سبقها على امتداد أزيد من اثني عشر قرنا موثقة السند بكتاب الله وسنة رسوله الكريم»، يقول محمد السادس في أول خطاب له بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب، أي في مثل هذا اليوم من عام 1999. الخطاب الملكي ذاته حرص على وضع الشعب في صورة الواقع وإكراهاته وحدود آماله، حيث قال الملك الشاب حينها بصراحة: «لسنا نملك عصا سحرية نزعم بها حل جميع هذه المشاكل»، مضيفا، في حوار صحافي لاحق مع جريدة «إلباييس» الإسبانية، أنه لا ينبغي نقل نموذج أنظمة الملكيات الأوربية إلى المغرب، «فلنا خصوصياتنا والتزاماتنا التي ترسم لنا الطريق الذي علينا أن ننهجه في المستقبل. ومع ذلك فإن دستورنا ليس جامدا. فخلال الأربعين سنة الأخيرة، كانت لنا أربعة دساتير والعديد من التعديلات». «أنا أشبه والدي وهو كان يعرف أن لي وجهات نظر أخرى»، يقول محمد السادس في مقابلة أخرى مع يومية «الشرق الأوسط». تدريجيا، كشف خليفة الحسن الثاني عن بصماته وأسلوبه الخاص في الحكم وبناء قنوات الاتصال المباشر مع الشعب، فمنذ لحظات حكمه الأولى، التصق وصف «ملك الفقراء» به ليسبق اسمه، وبدا وريث الحسن الثاني، منذ أيام ملكه الأولى، بشوشا مبتسما ورقيقا قرب جموع «الرعايا»، يبادرهم بالسلام والتحية، وهو يمدهم بمشاريع «الخير والنماء» حسب نشرة القناتين، وصوره الخاصة وهو يتجول في شوارع أمريكا وأوربا بلباس رياضي، أو وهو يمتطي دراجته النارية المائية في قمة النشوة والمتعة التي تولدها لديه الرياضات المائية، أصبحت تؤثث بيوت المغاربة ومكاتب الشركات. «لقد أولينا عنايتنا ونحن ولي العهد إلى القضايا الاجتماعية التي تهم المواطنين كافة مدنيين أو عسكريين مع رعاية خاصة للفئات التي تشكو الحرمان أو تعاني القهر»، يقول في إحدى خطبه الأولى، مضيفا، في حوار مع «الشرق الأوسط»، أنه يفضل أن يوصف بكونه ملك كل المغاربة، «الفقراء منهم والأغنياء، لقد شكل العمل الاجتماعي دوما أحد انشغالاتي الرئيسة».
الملك القريب وجدانيا السمة الأساسية التي ظلّت لصيقة بأسلوب محمد السادس في الحكم، منذ أصبح ملكا، هي زياراته الميدانية وطوافه بين جميع جهات ومناطق المغرب وأكثرها تهميشا، ويكفي أنه قضى الأيام الفاصلة بين عيد العرش وذكرى ثورة الملك والشعب، التي تحل اليوم، متنقلا بين شواطئ تطوان ومدينة الحسيمة. قرب يجد له في كلّ مناسبة للفرح أو الحزن فرصة ليتجسّد على أرض الواقع، آخر فصوله كان طريقة تفاعل الملك السريعة والفورية مع كارثة انهيار عمارات سكنية بحي «بوركون» بمدينة الدارالبيضاء، حيث كان أول المبادرين إلى الوقوف على أنقاض الكارثة بعد ساعات من وقوعها، ثم توالت زياراته للجرحى ضحايا الحادث في المستشفى، مقدما الدعم والرعاية الماديين. استمرار نهج القرب الوجداني والعاطفي هذا، بات يوحّد سنوات حكمه ال15 رغم ما عرفته من تقلّبات سياسية وتغييرات في أسلوب الحكم، ومواجهة عقبات السياسة والاقتصاد والتنمية الاجتماعية. وإحدى أقوى وآخر لحظات هذا القرب الوجداني التي تقاسمها الملك مع شعبه في ذكرى عيد العرش الأخيرة، كانت مناسبة توشيحه التلميذات المتفوّقات في امتحانات الباكالوريا، بمن فيهم التلميذة المغربية التي نالت الرتبة الأولى في فرنسا. التلميذات يتقدمن نحو الملك في ارتباك، بينما يقف هذا الأخير طويلا مصفّقا لهن بحرارة، قبل أن يقلّدهن أوسمة التشريف والتقدير. هذا الأسلوب الذي رافق محمد السادس طيلة سنوات ملكه، معبّرا عن وجه الملك الإنسان، يجد له في كل عام موعدا ليطفو بقوة على الواجهة، ويذكّر بتلك الشحنة الكبيرة من الأمل والتعاطف التي نالها منذ توليه خلافة الحسن الثاني. فيوم الأربعاء 6 غشت من العام الماضي، كان الملك بجلبابه التقليدي داخل قصره الرباطي، يستقبل آباء وأقارب الأطفال ال11 الذين تعرّضوا للاغتصاب على يد الإسباني دانييل غالفان، كما يستقبل ربّ البيت المغربي ضيوفه بحرارة وترحيب كبير، يقف فاتحا ذراعيه لكل ضيف من ضيوفه، مُعفيا إياهم من قواعد البروتوكول المعقدة لتقبيل اليد والحديث إليه بشكل رسمي، فيعانق هذا ويربّت على كتف ذاك.
بين العاصمة والمغرب غير النافع هذا القرب الوجداني يوازيه قرب فعلي، يربط 1999 ب2014 بشكل وثيق ودائم. فعلى مدى السنوات التي قضاها في الحكم، امتدّ عمل الملك ليطال قلب المناطق الجبلية والقاحلة وتلك المصابة بلعنات التاريخ. وحمل الموكب الملكي في تحركاته، بالإضافة إلى البرامج الرسمية لمختلف قطاعات الدولة، برامج مؤسسات أخرى، مثل مؤسسة محمد الخامس وبرنامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، بالإضافة إلى وكالة تنمية الأقاليم الشرقية. فانطلاقا من مدينة وقرى بوعرفة جنوب مدينة وجدة، إلى أقصى قرى إقليم فكيك، واصل الملك، خلال أكثر من 20 زيارة للمنطقة الشرقية، توقفه في عدد من القرى والجماعات التي ظلّت تعاني، منذ استقلال المملكة، نسيانا مطلقا وتكتّما مطبقا حول واقعها المزري. وعبر الموكب الملكي المنطقة التي عرفت اندلاع حرب الرمال بين المملكة وجارتها الجزائر، مباشرة بعد استقلال هذه الأخيرة، إلى أن بلغ قرية تالسينت، التي كانت قد أٌعلنت سنة 2000 بئرا لكميات هائلة من النفط، قبل أن يتأكد خطأ تلك المعطيات أو يتم التراجع عنها. أما الشمال الذي ورثه منكوبا مهمّشا، فبات محور النشاط الملكي مباشرة بعد إطلاقه أشغال بناء ميناء «الناظور غرب المتوسط»، وما أثاره ذلك من ردود فعل غاضبة من داخل مدينة مليلية المحتلة، باعتبار أن المشروع يشكل تهديدا اقتصاديا واستراتيجيا لمكانة الثغر المحتل من طرف الإسبان، ودخل الملك محمد السادس أحد أكبر معاقل التهريب الدولي للمخدرات، وأعطى إشارة انطلاق تحويل بحيرة مارتشيكا من ميناء لرسو الزوارق النفاثة التي تحمل الحشيش نحو أوربا، إلى منتجع سياحي بمواصفات عالمية، في إطار مشروع ضخم يتضمن تهيئة وتأهيل سبعة مواقع سياحية تمتد على مساحة ألفي هكتار، والذي يشمل، في مرحلته الثانية، مشروع تهيئة البحيرة التي تمتد على طول 25 كيلومترا مشكلة شريطا ساحليا ساحرا. وجاءت هذه الخطوة الملكية بعد أكثر من سنة على تأسيس شركة «مارتشيكا ميد»، التي باشرت القيام بدراسات بيئية واقتصادية واجتماعية. وعلاوة على البعد الاجتماعي والسياسي الذي تكتسيه تلك الزيارات الميدانية على الصعيد الداخلي، تكثفت في السنوات الأخيرة «غزوات» الملك إلى المناطق الحدودية والمتاخمة لبعض الثغور المحتلة. فبعد أزيد من 20 عاما من إغلاق الحدود الشرقية للمملكة، وتشبّث الجزائر بالإبقاء على هذا الوضع رغم الدعوات الملحة من المغرب إلى إعادة فتحها، وبعد مبادرات ملكية واضحة ل«محاصرة» الثغور الشمالية المحتلة من طرف إسبانيا عبر مشاريع اقتصادية ضخمة ومبادرات اجتماعية؛ واصل الملك محمد السادس اقتحامه لعدد من المواقع والنقط في أقصى شرق وجنوب شرق المملكة، في نقاط تماس حدودية حسّاسة اجتماعيا، في تكريس لصورة السلطان العلوي الذي يتخذ صهوة الحصان عرشا له، ولأسلوب شخصي لملك قريب من شعبه. أسلوب القرب هذا شكّل أحد أبرز وجوه الاختلاف عن أسلوب الملك الراحل الحسن الثاني، أسلوب الملك الرحالة من خلال زياراته الميدانية وطوافه بين جميع جهات ومناطق المغرب وأكثرها تهميشا. فبينما كان الجميع ينتظر بلهفة كبيرة عودة الملك من رحلته الخاصة الصيف الماضي إلى الديار الفرنسية من أجل معرفة قراره بشأن انسحاب حزب الاستقلال من الحكومة الحالية، كانت الوجهة الأولى التي اتخذها الملك بعد عودته هي الجهة الشرقية، حيث أشرف على برنامج مكثف من المشاريع والتدشينات، أخذته إلى مدينة بوعرفة المهمشة، وفيها اجتمعت الدولة بجميع مسؤوليها، لتقييم المبادرة الوطنية للتنمية البشرية.
طقوس الحسن الثاني لكن، وفي المقابل، تتمثّل أبرز معالم الاستمرارية التي مازالت تطبع «الدستور غير المكتوب» لمحمد السادس، الطقوس المتعلقة بالبروتوكول الملكي في الاستقبالات وإقامة حفل الولاء وتجديد البيعة. طقوس تفجّرت أولى النقاشات الصاخبة حولها في ظل الدستور الجديد، خلال الاستقبال الملكي لأول دفعة من رجال السلطة الذين عيّنوا باقتراح من عبد الإله بنكيران. فكثيرون توقعوا في السنوات الأولى بعد رحيل الحسن الثاني، أن يقدم خليفته على خطوات عملاقة، من قبيل تخفيف البروتوكول الملكي والتخلي عن بعض الطقوس البالية، خاصة منها تقبيل اليد. لكن إقدام بعض هؤلاء على خرق تلك الطقوس، كما كان الحال مع أعضاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، كشف مدى تمسك «العهد الجديد» بموروثه التقليدي، حيث اعتبر يومها عدم التقاط صورة جماعية مع هؤلاء الأعضاء ردا على عدم التزام بعضهم بطقوس البلاط. حرص على العادات العتيقة، تجلى في المناسبات والأعياد الدينية، حيث يقف الملك مرتديا جلبابه، ليتقدم عشرات أو مئات المغاربة للركوع قبل تقبيل اليد وترديد عبارات الولاء، فيما المحيط المكاني والزي التقليدي الذي يرتديه الجميع، وصفوف العبيد… كلها إشارات على دوام تقاليد موروثة عن عهود غابرة. أكثر من ذلك، تختفي صورة الحكم الحديث والحاكم العصري كلما حل موعد افتتاح السنة التشريعية تحت قبة البرلمان، ليرتدي النواب والمستشارون والوزراء الجلباب والسلهام والطربوش المخزني الأحمر، ويأتوا لحضور الجلسة الافتتاحية التي يرأسها الملك، أمير المؤمنين. وإحدى كبرى مناسبات الركوع الجماعي التي كرسها الحسن الثاني، وورثها عنه محمد السادس، هي حفلات البيعة السنوية بمناسبة عيد العرش. آلاف الرعايا وممثلو الرعايا من وزراء وعسكريين ومنتخبين برلمانيين ومحليين، يرتدون الجلابيب البيضاء ويقفون صفوفا في صعيد واحد، في انتظار وصول موكب الملك الممتطي جواده كي يسارعوا إلى الركوع، في تأكيد لاستمرار الحاجة إلى الخضوع والإذعان للسلطة والتوحد معها. فإشعاع الملك يدفع ضيوفه إلى الركوع لاشعوريا أمامه كما لو أن قوة خارقة ستنزل عليهم، وكما لو أنهم ينتظرون من يطمئنهم ويخبرهم بأنهم في أمان… وبعد توالي النقاشات المصاحبة لهذا الطقس المخزني العتيق كلّ سنة، شهدت ذكرى عيد العرش الأخيرة تغييرا شكليا طفيفا، تمثّل في استبدال الحصان، الذي يمتطيه الملك عادة في هذه المناسبة، بسيارة ركبها واقفا وهي تتقدّم به أمام جموع الراكعين. تجديد نفى عنه السوسيولوجي المتخصص، محمد الناجي، أي معنى تحديثي، مصرّا على أن المعنى كلّه يكمن في طقس الركوع. هذه الطقوس المخزنية العتيقة أبانت، طيلة السنوات الماضية، عن مقاومتها الكبيرة وصمودها أمام جميع رياح التغيير، فقد استعصت على حكومة التناوب الأولى، حكومة عبد الرحمان اليوسفي، رغم ما شكّلته تلك الحكومة من علامة على التغيير والانتقال من مرحلة إلى أخرى. بل إن حوارا صحافيا أجرته جريدة حزب الوزير الأول حينها، جريدة الاتحاد الاشتراكي، مع السياسي والأستاذ الجامعي محمد الساسي، حول الموضوع، أدى إلى معاقبة الصحافي عبد الرحيم أريري من طرف عبد الرحمان اليوسفي نفسه، وذلك بتوقيفه ثمانية أيام مخصومة الأجر، ثم دفعه إلى الخروج من الجريدة. فالحوار تزامن حينها مع وصول الملك محمد السادس إلى العرش، حيث أجري في غشت 1999، وحكومة اليوسفي كانت حريصة، كما هو حال حكومة بنكيران اليوم، على بناء جسر الثقة مع الملك الجديد، وضحّت بصحافيها فقط لأن الساسي دعا إلى اغتنام فرصة وصول ملك شاب إلى الحكم من أجل التخلي عن الطقوس المخزنية البالية من نوع تقبيل اليد والركوع.
الزوج والأب خلافا للصورة التي التصقت بأذهان المغاربة عن ملكهم السابق، الحسن الثاني، باعتباره ملكا فقط، حتى حين ظهوره رفقة أبنائه لم يكن يتخلّص من صفة الملك إلى جانب الأمراء؛ قدّم محمد السادس صورة جديدة عن الملك الإنسان، باعتباره زوجا أشرك أفراد الشعب في حفل زفافه في سابقة فريدة من نوعها، وأبا يتجوّل في الأزقة والشوارع ممسكا بيد ابنه البكر أو حاملا طفلته الصغرى. فقد قرر محمد السادس أن يوسع دائرة حياته الأسرية ليشرك المغاربة في أفراحها وأحداثها، خاصة أن بعض أفراحها يحمل نبأ ميلاد ولي العهد، ملك المستقبل، وأشقائه الأمراء. تلك فلسفة حملت مهندسة المعلوميات القادمة من حي «ديور الجامع» الشعبي بقلب العاصمة، إلى مرتبة الأميرة الأولى و«النجمة» على صفحات المجلات، وجعلتها تستأثر باهتمام داخلي وخارجي واكبه حسم ملكي في انشقاق مجتمعي حول قانون المرأة، انتهى بمدونة للأسرة تطابق ظاهرها التحديثي مع صورة «الأميرة الفاسية» الأنيقة. مدوّنة كانت أثمن ما حقّقته المغربيات في عهد الملك محمد السادس، حيث ألغيت الوصاية على المرأة عند عقد الزواج، وأصبح للمرأة الحق في طلب الطلاق مثلها مثل الرجل. كما أصبح من الممكن فرض إجراء فحص الأبوة على الرجال، ورفع سن زواج النساء إلى ثماني عشرة سنة إلا استثناء، وأصبحت المغربية المتزوجة بأجنبي تعطي جنسيتها لأبنائها مثلها في ذلك مثل الرجل، كما اقتحمت المرأة المغربية الحقل الديني الذي كان حكرا على الرجال، وأصبحت مرشدة دينية في المساجد تبين للنساء دينهن… كما شكلت هذه المدونة «ثورة نسوية» بامتياز. الخطوة الثانية التي تم اتخاذها خلال هذه سنوات لتحسين وضع المرأة المغربية الحقوقي، أعلنها خطاب العرش من مدينة طنجة في 30 يوليوز 2005، حيث قرر الملك تخويل الأم المغربية حق منح جنسيتها لأبنائها من زوج أجنبي، في تعديل تاريخي لقانون الجنسية، لتصبح الجنسية مترتبة على النسب أو البنوة، بعد أن كانت تقتصر على الأب فقط. وبذلك أصبحت جنسية الأم المغربية تنقل إلى أطفالها بصفة تلقائية، حيث يعتبر طفلها مغربيا منذ مولده، سواء كان ذلك في المغرب أو خارجه. «فقد قررنا، بصفتنا ملكا -أميرا للمؤمنين- تخويل الطفل من أم مغربية حق الحصول على الجنسية المغربية»، يقول محمد السادس في افتتاح إحدى الدورات التشريعية، تاركا لنواب الأمة «شرف» التصويت بنعم أو «عناء» التصفيق. لكن «إلى متى سنستمر في اللجوء إلى التمييز الإيجابي القانوني، لضمان مشاركة واسعة للمرأة في المؤسسات؟»، يتساءل محمد السادس في خطاب افتتاح الدورة الأولى من السنة الثانية من الولاية التشريعية السابعة. صورة الملك الإنسان، الزوج وربّ الأسرة، لم تندثر رغم مرور السنوات، ففي ذكرى عيد ميلاد ولي العهد قبل سنتين، تسرّبت تفاصيل رعاية الملك رغبات ابنه البكر وحرصه على تلبيتها. ميول جديد لدى ولي العهد الأمير مولاي الحسن كشفه لاعب الخفة الفرنسي جيرالد لوكيو، ويتمثل في ألعاب السيرك وحركاته السحرية. «المدهش في هذه التجربة، هو أنني لم أصب بالارتباك، رغم أن الملك كان على بعد متر واحد مني بينما كنت أقدم عروضي… بالنسبة إلي، وأنا الولد الصغير القادم من «سان دونان»، كان ذلك أشبه بالحلم»، يقول جيرالد لوكيو. وقصة هذا العرض الملكي بدأت ذات يوم، حسب جيرالد لوكيو، حين اتصلت السفارة المغربية بالسيرك الذي تعمل فيه مجموعته، داعية إلى انتقاء مجموعة من أفضل لاعبي الخفة وبهلوانات السيرك من أجل الانتقال إلى الرباط والمشاركة في احتفالات ولي العهد بعيد ميلاده. الساحر الفرنسي حكى قصة انتقاله إلى المغرب رفقة الحيوانات التي يستعين بها في عروضه، من كلاب مدربة وحمام خاص بألعاب الخفة. «وصلنا قبل ساعتين من الموعد المحدد لنا لتقديم عروضنا، حتى يتسنى لنا تركيب أجهزتنا، لينطلق الحفل في الساعة الرابعة بعد الزوال، عبر تمكين البهلوانات من تقديم عروضهم أمام الأسرة الملكية، على أن يأتي دوري بعدهم مباشرة. لكن الملكة قرّرت القيام بتوزيع الحلوى والهدايا، ما سبّب لي رعبا كبيرا، فدرجة الحرارة كانت فوق 35، والحيوانات التي ترافقني كانت تعاني بسبب ذلك، ولحسن الحظ أنني كنت قد فكّرت في شراء «قنبلة» ماء بارد، مكّنتني من تخليص الحيوانات المسكينة من الحرارة المفرطة. في النهاية مرّ كل شيء بخير، الملك والملكة صفقا لنا و«الملك الصغير» كان يبدو سعيدا».
غزة تعود بقوة لتنافس تازة داخل قلب محمد السادس أحد مظاهر الاختلاف عن أسلوب والده الحسن الثاني، الذي عبّر عنه الملك محمد السادس في بدايات حكمه، كان يتمثل في كيفية تعاطيه مع السياسة الخارجية، وهو ما لخّصته عبارة «تازة قبل غزة» الشهيرة. لكن التقلّبات الدولية والإقليمية، وتزايد الضغوط المتعلقة بملف الصحراء، أعادت تدريجيا محمد السادس إلى الواجهة الدولية، حيث بات العمل الدبلوماسي، في السنوات الأربع الماضية، يتصدّر الأجندة الملكية. فقد كانت آمال التغيير المعقودة على الملك محمد السادس تتجاوز الحدود إلى تصور انخراط أكبر للمغرب في قضايا منطقة الشرق الأوسط والهيمنة الأمريكية. «إن شعوبنا أصبحت غير مستعدة لتلقي المزيد من الإهانات والصدمات والكوارث والمآسي… وهذا ما يستوجب منا عدم الاقتصار على مجرد التعبير عن المواساة والتعاطف مع كفاح الشعب الفلسطيني المستميت، بل يتحتم علينا دعمه بكل الوسائل والإمكانيات ومساندة قيادته الصامدة برئاسة أخينا المجاهد ياسر عرفات، بما تتطلبه المرحلة العصيبة من مقومات الاستماتة في الصمود… لأن الظروف الدولية تلزمنا، أكثر من أي وقت مضى، بالتعامل مع قضايانا المصيرية بمنظور مستقبلي ومتجدد متسم بالحزم الكبير وبعد النظر»، يقول محمد السادس في القمة العربية الطارئة لسنة 2000، قبل أن يضيف، سنتين بعد ذلك في خطاب العرش: «إننا لن نسمح لنفسنا بأن يسجل التاريخ أننا لم نعمل إلا على تضليل شعوبنا وإيهامها بأننا نحقق تطلعاتها للوحدة، في حين أن مواقف البعض لا تزيد تلك الوحدة إلا تمزيقا وتشويها»، وهو ما كان بمثابة إعلان رسمي للانسحاب من الساحة العربية والدولية، والانكباب على التنمية والشؤون الداخلية للمملكة. «أنا أشبه والدي، وهو كان يعرف أن لي وجهات نظر أخرى»، يقول الملك محمد السادس عن نفسه في أحد حواراته الصحافية. وتجسّدت العودة إلى النهج الحسني في الدبلوماسية، من خلال المعارك الأخيرة التي خاضها المغرب لحماية موقفه في ملف الصحراء، والتي أبانت عن الدور الحاسم للدبلوماسية الملكية والانخراط الشخصي للمخوّل دستوريا بتدبير العلاقات الخارجية للمملكة وحماية مصالحها السيادية. شبكة العلاقات الرسمية والشخصية للقصر الملكي مع مختلف الأوساط المؤثرة في القرار الدولي، تحرّكت منذ تأكد مبادرة واشنطن إلى اقتراح آلية جديدة لمراقبة حقوق الإنسان في الصحراء العام الماضي. فرغم الانكماش الذي سجّله المتتبعون للنشاط الدبلوماسي للمملكة في السنوات الأولى لحكم محمد السادس، إلا أن هذا الأخير أبان عن سعي إلى الحفاظ على الأوراق الاستراتيجية في دبلوماسية المملكة، وهي بالدرجة الأولى علاقة تحالف مع فرنسا، وودّ مع أمريكا، وتضامن سياسي واقتصادي مع الخليج العربي. وفيما ظل الكثيرون يعتقدون أن مشكلة الصحراء والصراع مع الجزائر مشكلة شخصية بين الراحل الحسن الثاني ورجال العهد البومديني، وظل الترقب طاغيا على ما سيقوم به الملك الجديد في خلاف شاخ بين بلدين ذاقا الطعم نفسه للاحتلال وتعاونا في مقاومته، أبان محمد السادس عن استمرار في نهج المواجهة المباشرة مع الجار الشرقي. فقد جرب الثقة أولا، وأظهر بعض اللين، وبعث رسائل ود كثيرا ما فُهمت خطأ على أنها ضعف، «إن مبادئي وثقافتي وأخلاقي السياسية تمنع علي التدخل في الشؤون الداخلية لبلد أجنبي، فما بالك إذا تعلق الأمر ببلد شقيق وجار أتمنى له كل الخير، وأتمنى له الاستقرار والتقدم والازدهار»، يقول الملك محمد السادس في أحد حواراته الصحفية. لكن ردود بوتفليقة لم تكن لتشجعه على الثقة كثيرا، خاصة أنها تبنت، على عادتها، خطابا مزدوجا، به كثير من التودد والمغازلة، وكثير من الضرب تحت الحزام، خصوصا في ملف الصحراء الذي كان الحسن الثاني يربط بقاءه في الحكم به، «فمسألة الحدود بين المغرب والجزائر هي في الحقيقة من إرث الحقبة الاستعمارية، ولم يكن في نية المغرب، قط، أن يتحول الموضوع إلى موضوع نزاع بل رؤية المغرب أن تكون الحدود فضاءات للالتقاء والتواصل»، يضيف محمد السادس في الحوار ذاته.