خلال السنوات ال14 التي قضاها في الحكم، جرت جلّ الأنشطة الملكية في قلب المناطق الجبلية والقاحلة، وتلك المصابة بلعنات التاريخ علاوة على جرادة، طاف الموكب الملكي بما ظلّ البعض يعتبره «ثلث خالي» شرق المملكة وشمالها. فيما يكاد الملك يكون المؤسسة الوحيدة في البلاد التي تحرص على ممارسة كل اختصاصاتها وزيادة، لمستشاريه مطلق الصلاحية للتدخل واتخاذ القرار وإنتاج التأويل الدستوري والفقهي لذلك، رغم أن بعض أوراش عهده وصلت إلى مقبرة الفشل مثل قطاع التربية والتكوين الذي أعلن رسميا فشل مسلسل إصلاحه. مسحة من الكهولة علت في السنوات الأخيرة محياه، ووصف «الملك» الذي يسبق اسمه عادة، بدأ يتخلص من نعوت «الشاب» و«الجديد». عطوف حنون في أعين عموم الشعب وبسطائه. صارم تصيب لعنة غضبه كبار المسؤولين وصغارهم، في نظر من يتولون المناصب. هكذا هو الملك محمد السادس بالنسبة إلى المغاربة، بعد أكثر من 14 سنة من التربّع على عرش العلويين.
المشهد الأول: يوم الأربعاء 6 غشت الجاري، الملك بجلبابه التقليدي داخل قصره الرباطي، يستقبل آباء وأقارب الأطفال ال11 الذين تعرّضوا للاغتصاب على يد الإسباني دانييل غالفان، كما يستقبل ربّ البيت المغربي ضيوفه بحرارة وترحيب كبير. يقف الملك فاتحا ذراعيه لكل ضيف من ضيوفه، مُعفيا إياهم من قواعد البروتوكول المعقدة لتقبيل اليد والحديث إليه بشكل رسمي، فيعانق هذا ويربّت على كتف ذاك. ما اعتبره البعض «إخراجا» متقنا لتلميع صورة الملك وتجاوز تبعات الخطأ الذي حصل في مسطرة العفو الملكي، وأدى إلى خروج غالفان من السجن والتحاقه بالجارة الإسبانية، ردّ عليه القائمون على ترتيب الظهور الملكي بالقول إن الملك شخصيا هو من أمر بإخفاء ملامح ووجوه ضيوفه، رفعا الحرج عنهم، وحماية لهم من نظرة السوء التي قد تلحق بأي مغربي تعرّض ابنه للاغتصاب.
المشهد الثاني: موجة الحرارة التي شهدها المغرب في الأسابيع الماضية، تساهم في اندلاع حريق مهول وغير مسبوق في إحدى غابات منطقة سوس بالقرب من «أمسكرود». مصالح الوقاية المدنية والسلطات المحلية تستنفر إمكاناتها وجهودها لمحاصرة الحريق والحد من مساحات الأركان والعرعار التي يلتهمها. تمرّ الأيام متوالية والحريق مستمر في مقاومة خراطيم المياه والتهام مزيد من المساحات. وحده تدخّل ملكي صارم، استدعى وزير الداخلية على عجل، وأمره بالتوجه شخصيا إلى المنطقة، والإشراف على إخماد الحريق، بما يعنيه ذلك من تعبئة لكل الإمكانيات والقدرات الوطنية. وحين تبيّن أن هذه القدرات لا تكفي للتغلب على الحريق، كان التدخّل الملكي الثاني لدى الجارة إسبانيا التي سبق لها أن استفادت من مساعدة المغرب في إطفاء حرائقها، لتمدّ إطفائيي سوس بطائراتها المتطورة وتساهم في إخماد النيران. مهمة إنسانية وبيئية لم تكن لتتم لولا التحرّك الملكي السريع والصارم.
المشهد الثالث: الطبقة السياسية في أعلى درجات الترقّب والانتظار، بعد طول مقام الملك في الديار الفرنسية حيث كان يقضي آخر عطله الشخصية. الحزب الثاني في الحكومة قرّر الانسحاب من أغلبيتها، والانتظار يعمّ البلاد منذ ذلك الحين، في انتظار العودة الملكية، وتبيّن القرار الذي سيتخذه الجالس على العرش أمام أولى أزمات حكومات الدستور الجديد. لكن وحدها الأسرة الصغيرة والبرنامج مسبق التحضير لزيارة المغرب غير النافع، يعيدان الملك إلى واجهة الحدث الرسمي. يحلّ الملك مساء اليوم المخصص للاحتفال بنهاية السنة الدراسية بالمدرسة المولوية، ويتوجّه مباشرة من المطار إلى قاعة الحفل لمشاركة ولي عهده احتفالاته بانتهاء سنة دراسة جديدة. ورغم هذا الظهور الرسمي للملك، وتأكد عودته إلى الديار، سوف لن يكون السياسيون وحروبهم ومشاكل حكومتهم ضمن أولويات الملك، بل سيتوجّه مباشرة من الرباط إلى أقصى نقطة في شرق المملكة. زيارة جديدة إلى المنطقة الشرقية، بعد أكثر من عشرين زيارة قام بها منذ توليه العرش إلى هذه المنطقة «النائية». هناك سيحلّ بعاصمة الجهة، مدينة وجدة، لكن الدولة عن بكرة أبيها ستكون مطالبة بالانتقال الجماعي إلى مكان لم يسبق لجل السياسيين والنخب الوصول إليه أو السؤال عنه. في قلب مدينة جرادة الفقيرة، سوف يقف كبار مسؤولي الدولة ورجالاتها ونساؤها لتقديم الحساب عن كيفية تدبيرهم أحد أكثر البرامج الملكية قربا والتصاقا بحياة الفقراء، المبادرة الوطنية للتنمية البشرية.
«عطوف» على الشعب صارم مع النخب «عليك أن تعلم ماذا تعني مثل هذه الزيارة الملكية إلى منطقة فقيرة ومهمّشة ومنبوذة طيلة عقود»، يقول مصدر مواكب لتنقلات الملك، موضحا أن اللحظة التي يقرّر فيها الملك تنظيم نشاط رسمي له في مدينة مثل جرادة، «تتحوّل خلالها هذه المدينة، أو غيرها كمدينة كرسيف أو ورزازات أو ما شئت من النقط المهمشة، إلى عاصمة للدولة المغربية بكل معنى الكلمة، وهذا أمر له دلالاته، ويعكس بعمق ما يريده الملك لهذه البلاد». هذا التنقّل الملكي لا يخلو من قواعد تكريس هيبة وجلال الفعل الملكي، وما يحدثه ذلك من رهبة في نفوس المسؤولين الذين يتم استدعاؤهم إلى «عواصم» الملك المتنقلة. مصادر حضرت عملية تقديم حصيلة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي جرت قبل شهرين بمدينة جرادة، قالت إن وزير الداخلية، امحند العنصر، أصيب بارتباك وتلعثم شديدين أثناء تقديمه العرض أمام الملك. وأضافت هذه المصادر أن الحاضرين أشفقوا على وزير الداخلية، خاصة عندما تبعثرت أوراقه واعتذر للملك قائلا: «أستسمح يا مولاي». وفيما نقلت التغطية التي بثتها القناة الأولى في النشرة المسائية لليوم نفسه النص الكامل لكلمة العنصر، أوضحت مصادر حضرت النشاط أن الأخير اضطر إلى إعادة إلقاء الكلمة بعد انتهاء النشاط ومغادرة الحاضرين، أمام الكاميرات مرة ثانية، بعد وقوف تقنيي القنوات التلفزية على صعوبة حذف جميع لحظات التلعثم التي وقع فيها الوزير، خاصة أن تغطية الأنشطة الملكية تستوجب بث الكلمة الملقاة بكاملها. خلال السنوات ال14 التي قضاها في الحكم، جرت جلّ الأنشطة الملكية في قلب المناطق الجبلية والقاحلة وتلك المصابة بلعنات التاريخ. فعلاوة على جرادة، طاف الموكب الملكي بما ظلّ البعض يعتبره «ثلث خالي» شرق المملكة. فانطلاقا من مدينة وقرى بوعرفة جنوب مدينة وجدة، إلى أقصى قرى إقليم فكيك، واصل الملك توقفه في عدد من القرى والجماعات التي ظلّت تعاني منذ استقلال المملكة نسيان مطلقا وتكتّما مطبقا حول واقعها المزري. وعبر الموكب الملكي المنطقة التي عرفت اندلاع حرب الرمال بين المملكة وجارتها الجزائر، مباشرة بعد استقلال هذه الأخيرة، إلى أن بلغ قرية تالسينت، والتي كانت قد أٌعلنت سنة 2000 بئرا لكميات هائلة من النفط، قبل أن يتأكد خطأ تلك المعطيات. وحمل الموكب الملكي في تحركاته، بالإضافة إلى البرامج الرسمية لمختلف قطاعات الدولة، برامج مؤسسات أخرى، مثل مؤسسة محمد الخامس وبرنامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، بالإضافة إلى وكالة تنمية الأقاليم الشرقية.
الزوج المنفتح منذ لحظات حكمه الأولى، التصق وصف «الملك الشاب» و«الملك الجديد ليسبق اسمه، فبدا بشوشا مبتسما ورقيقا قرب جموع «الرعايا»، يبادرهم بالسلام والتحية، كما أن صوره الخاصة وهو يتجول في شوارع أمريكا وأوربا بلباس رياضي، أو وهو يمتطي دراجته النارية المائية في قمة النشوة والمتعة التي تولدها لديه الرياضات المائية، صور أصبحت تؤثث بيوت المغاربة ومكاتب الشركات. ورغم أنه لا يوجد نص قانوني أو دستوري ينص على اختصاصات معينة لزوجة الملك ولا سلطاتها أو مهامها، وإبقاء الأمر مرتهنا ل«اجتهاد» شخصي لملك أراد أن يبدو مجددا ومختلفا، فإن محمد السادس قرر أن يوسع دائرة حياته الأسرية ليشرك المغاربة في أفراحها وأحداثها. تلك فلسفة حملت مهندسة المعلوميات القادمة من حي «ديور الجامع» الشعبي بقلب العاصمة، إلى مرتبة الأميرة الأولى و«النجمة» على صفحات المجلات، وجعلتها تستأثر باهتمام داخلي وخارجي واكبه حسم ملكي في انشقاق مجتمعي حول قانون المرأة، انتهى بمدونة للأسرة تطابق ظاهرها التحديثي مع صورة «الأميرة الفاسية» الأنيقة. فحققت الأميرة للا سلمى أولى اختراقاتها للأعراف المخزنية العتيقة، لتصبح أول زوجة لملك مغربي يسمح لها بالظهور العلني. وتوالت بعد ذلك خرجاتها الرسمية كسيدة أولى للمملكة. ففي عهد الملك محمد السادس، ألغيت الوصاية على المرأة عند عقد الزواج، وأصبح للمرأة الحق في طلب الطلاق مثلها مثل الرجل. كما أصبح من الممكن فرض إجراء فحص الأبوة على الرجال، ورفع سن زواج النساء إلى ثماني عشرة سنة. المرأة المغربية المتزوجة من أجنبي أصبحت تعطي جنسيتها لأبنائها مثلها في ذلك مثل الرجل. المرأة المغربية اقتحمت الحقل الديني الذي كان حكرا على الرجال، وأصبحت مرشدة دينية في المساجد تبين للنساء دينهن... يسهر الملك رفقة زوجته الأميرة للا سلمى على تربية ولي العهد. وفي الذكرى الأخيرة لعيد ميلاده، تسرّبت تفاصيل رعاية الملك لرغبات ابنه البكر، وحرصه على تلبيتها. فميول جديد لدى ولي العهد الأمير مولاي الحسن كشفه لاعب الخفة الفرنسي جيرالد لوكيو، ويتمثّل في ألعاب السيرك وحركاته السحرية. «المدهش في هذه التجربة، هو أنني لم أصب بالارتباك، رغم أن الملك كان على بعد متر واحد مني بينما كنت أقدم عروضي... بالنسبة إلي، وأنا الولد الصغير القادم من «سان دونان»، كان ذلك أشبه بالحلم»، يقول جيرالد لوكيو. هذا الفرنسي الذي اشتهر بتميّزه الخارق في حركات الخفة مستعملا الحمام وملاعبا الكلاب المدربة على فنون السرك، كان قد حل ضيفا على الأسرة الملكية في المغرب، ليقدّم عروضه بمناسبة ذكرى عيد ميلاد مولاي الحسن. جيرالد، ورغم شهرته ونجاحه الدولي الكبير، خرج حينها ليعبّر للصحافة الفرنسية عن كونه مازال لم يتجاوز بعد وقع الدعوة الملكية التي تلقاها لتقديم عروضه السحرية، حيث قالت جريدة «لو تيليغرام»، التي أجرت معه حوارا، إنه بالكاد بدأ في النزول من فوق السحاب منذ مثوله أمام الأسرة الملكية المغربية وتقديمه لعروضه الفنية. قصة العرض الملكي بدأت ذات يوم، حسب جيرالد لوكيو، حين اتصلت السفارة المغربية بالسيرك الذي تعمل فيه مجموعته، داعية إلى انتقاء مجموعة من أفضل لاعبي الخفة وبهلوانات السيرك من أجل الانتقال إلى الرباط والمشاركة في احتفالات ولي العهد بعيد ميلاده. الساحر الفرنسي حكى قصة انتقاله إلى المغرب رفقة الحيوانات التي يستعين بها في عروضه، من كلاب مدربة وحمام خاص بألعاب الخفة، واستغرب الاستقبال الاستثنائي الذي حظي به منذ وصوله إلى مطار الرباط-سلا، وكيف أنه مرّ عبر إجراءات المراقبة الأمنية والجمركية بسهولة بالغة، قال إنها غير معتادة بسبب الحيوانات التي ترافقه عادة في أسفاره. «لكن، وحين وصولنا إلى الإقامة الملكية، كان علينا أن نترك آلات التصوير وجوازات السفر عند فرق المراقبة، فالنظام الأمني كان مذهلا». وداخل المكان الذي قدّم فيه عروضه، قال الفنان الفرنسي إن الحاضرين بدوا وقد خضعوا لعملية انتقاء دقيقة، حيث وجد الأمير رفقة أصدقائه المقربين، وقد وفرت لهم أنواع مختلفة من اللعب، مثل رقعة الشطرنج العملاقة، والأحصنة الآلية العملاقة... «وصلنا قبل ساعتين من الموعد المحدد لنا لتقديم عروضنا، حتى يتسنى لنا تركيب أجهزتنا، لينطلق الحفل في الساعة الرابعة بعد الزوال، عبر تمكين البهلوانات من تقديم عروضهم أمام الأسرة الملكية، على أن يأتي دوري بعدهم مباشرة. لكن الملكة قرّرت القيام بتوزيع الحلوى والهدايا، ما سبّب لي رعبا كبيرا، فدرجة الحرارة كانت فوق 35، والحيوانات التي ترافقني كانت تعاني ذلك، ولحسن الحظ أنني كنت قد فكّرت في شراء «قنبلة» ماء بارد، مكّنتني من تخليص الحيوانات المسكينة من الحرارة المفرطة. في النهاية مرّ كل شيء بخير، الملك والملكة صفقا لنا والملك الصغير كان يبدو سعيدا».
لكنه ملك يكاد الملك يكون المؤسسة الوحيدة في البلاد التي تحرص على ممارسة كل اختصاصاتها وزيادة، لمستشاريه مطلق الصلاحية للتدخل واتخاذ القرار وإنتاج التأويل الدستوري والفقهي لذلك، رغم أن بعض أوراش عهده وصلت إلى مقبرة الفشل مثل قطاع التربية والتكوين الذي أعلن رسميا فشل مسلسل إصلاحه. شعارات «العهد الجديد» و«المفهوم الجديد للسلطة» و«مغرب الحداثة» وغيرها من العبارات البراقة التي أمطر بها الإعلام الرسمي «رعايا» المملكة، لم تحل دون استمرار الملك الجديد على نهج والده الذي ظل متشبثا بأعرق التقاليد، ومُصِراً على إعادة إحياء بعضها بقوة وحماس كبيرين، وفي أولوية هذه الطقوس المرعية، تقبيل اليد. فليس الأمر مجرد إشعار بالاحترام والتقدير، أو تزلف من المحيطين وبحث عن القربى، بل إن تطبيقه إلزامي ومخالفته توجب العقاب. هكذا كان الأمر على عهد الحسن الثاني، وكثيرون توقعوا في السنوات الأولى بعد رحيل الحسن الثاني، أن يقدم خليفته على خطوات عملاقة، من قبيل تخفيف البروتوكول الملكي والتخلي عن بعض الطقوس البالية، خاصة منها تقبيل اليد. في المناسبات والأعياد الدينية، يقف الملك الشاب محمد السادس مرتديا جلبابه، ليتقدم عشرات أو مئات المغاربة للركوع قبل تقبيل اليد وترديد عبارات الولاء، فيما المحيط المكاني والزي التقليدي الذي يرتديه الجميع، وصفوف العبيد... كلها إشارات على دوام تقاليد موروثة عن عهود غابرة. أكثر من ذلك، تختفي صورة الحكم الحديث والحاكم العصري كلما حل موعد افتتاح السنة التشريعية تحت قبة البرلمان، ليرتدي النواب والمستشارون والوزراء الجلباب والسلهام والطربوش المخزني الأحمر، ويأتوا لحضور الجلسة الافتتاحية التي يرأسها الملك، أمير المؤمنين. وإحدى كبرى مناسبات الركوع الجماعي التي كرسها الحسن الثاني، وورثها عنه محمد السادس، هي حفلات البيعة السنوية بمناسبة عيد العرش. آلاف الرعايا وممثلو الرعايا من وزراء وعسكريين ومنتخبين برلمانيين ومحليين، يرتدون الجلابيب البيضاء ويقفون صفوفا في صعيد واحد، في انتظار وصول موكب الملك الممتطي لجواده لكي يسارعوا بالركوع، في تأكيد لاستمرار الحاجة إلى الخضوع والإذعان للسلطة والتوحد معها.
قيود الطقوس وبما عرف به الملك محمد السادس خلال السنوات السابقة لتوليه الحكم، من نفور من طقوس القصور الملكية، وتبرمه الدائم من حضور المراسيم البروتوكولية الصارمة، حمل اعتلاء الملك الشاب لعرش المملكة صورة جديدة عن حاكم منفتح مجدد ميال إلى الحداثة، يعبر عن أذواقه الغنائية والموسيقية، ويمارس رياضاته المفضلة أمام العدسات، راكبا أمواج البحر صيفا، أو متزحلقا في سفوح الجبال شتاء. وتأكدت الاختيارات «الحديثة» لخليفة الحسن الثاني بهجره شبه التام للقصور العريقة، واختياره الإقامة في إحدى فيلات واحد من أرقى أحياء العاصمة، مواليا خرجاته المفاجئة على متن سياراته الخاصة التي يتفنن في اختيار أشكالها وماركاتها، ومحترما في سيره قانون المرور، كل ذلك في قالب خطابي كرسته جميع الخطابات الملكية، تحت عنوان: «مشروع المجتمع الحداثي». موروث وتقليد في الحكم وممارسة السلطة، لم يعد منذ وفاة الملك الراحل الحسن الثاني، خارج لائحة المواضيع التي يطالها النقاش والجدال والأخذ والرد. وكثيرا ما عرف عهد الملك محمد السادس انتشار شائعات منعه الاستمرار في تقبيل اليد، وكثيرون قرؤوا في نهجه «الحداثي» وتسامحه مع من يكتفون بتقبيل كتفه أو السلام عليه، إيذانا بقرب تخلّص القصر الملكي المغربي من طقوس عتيقة، لكن إحدى أولى المهام التي كُلّف بها ولي العهد، الأمير مولاي الحسن، كشفت عن صمود هذه الطقوس أمام تغيّر الأعراف وانتقال الأجيال. ووصول الأمير إلى الحديقة الوطنية للحيوانات الجديدة بالقرب من الرباط، كان موعدا لتأكيد هذا الصمود، حيث حرص المسؤولون، مدنيون وعسكريون، ممن سلّموا على الأمير، على أداء طقس تقبيل اليد بكل عناية انضباط، ما جرّ على المملكة إقحامها من طرف قنوات فضائية مصرية وصحف أردنية ومواقع اجتماعية عالمية في نقاش حول هذه الطقوس. فهو ظل قانونيا ودستوريا، هو الملك وأمير المؤمنين والممثل الأسمى للأمة ورمز وحدتها وضامن دوام الدولة واستمرارها، والضامن لاستقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها «الحقة»، يعين الحكومة ويقيلها، وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة، فيما مسحة من الكهولة علت في السنوات الأخيرة محياه، ووصف «الملك» الذي يسبق اسمه عادة، بدأ يتخلص من نعوت «الشاب» و«الجديد»، كما يواصل تسلق سلم أثرياء حكام العالم في هدوء وثقة.