الكثيرون راهنوا مع مجيء محمد السادس إلى الحكم على زوال العديد من مراسيم البروتوكول التقليدي التي تثقل كاهل الملك وتضع المسؤولين الذين يَمْثلون بين يديه في حرج كبير حد الشعور بالمهانة... صحيح أن العاهل الجديد أبدى مرونة أكبر تجاه طقوس البروتوكول، لكن لم يتغير شيء في العمق.. واليوم يعاد طرح سؤال التخلي عن بعض أشكال الطقوس التقليدية في ملكية عريقة.. هل من شأن ذلك تحديث النظام السياسي، وتطوير بنياته ومؤسساته؟ أم أن من شأن التخلي عن طقوس البروتوكول التقليدي إضعاف هيبة الملكية؟ يحكي الحسن الثاني رواية وقعت له عام 1936 حين أسرع بعض وجوه القوم في لباسهم التقليدي إلى لثم يده كولي العهد، إذ خاطبه محمد الخامس قائلا: "لاحظت يا بني قبل قليل وأنت تدخل القصر ماداً يدك إلى الناس ليقبلوها، ولم يكن يبدو عليك شيء من الضيق، بل كنت على العكس مبتهجا وفرحاً بذلك، لا تنس يا بني في المستقبل أن تسحب يدك عندما يُقبل عليك الناس لتقبيلها، اعلم يا بني أن تعلق الناس بأسرتنا مصدره روحي أخلاقي، ولا يعبر عنه بتقبيل الأيدي". تحيل هذه الواقعة إلى وجود طقس تقبيل الأيدي منذ زمن بعيد، والاختلاف بين الراحلين محمد الخامس والحسن الثاني في النظر إلى المسألة يوجد في الشكل لا في الجوهر، إن السلطة تصبح سابقة على الملك الذي يجب أن يُبدي كل يوم جدارته واستحقاقه لها يوما عن يوم، حتى ولو كان شكل السلطان يتعارض مع ميوله الطبيعية أو الثقافية.. الملك في المغرب لا يَنتمي إلى طبيعة، ما وصفه ماكس فيبر، بالسلطان السياسي أو الحاكم الوظيفي الذي يعمل في إطار مؤسسات الدولة التي تقتسم السلطات فيما بينها وفق مراحل تطور المجتمع السياسي، وإنما إلى السلطان الكاريزمي الذي يحكم بصفته قائداً سياسيا وإماماً دينيا، حيث تتمركز داخله كل الوظائف وهو مصدر كل الشرعيات، لأن مصدر شرعية حكمه فوق طبيعي: فهو السدة العالية بالله، فقد كان معاوية بن أبي سفيان يقول: "من يَغْش سدة السلطان يقوم ويقعد"، والسدة هي المكان العالي والشرفة.. وهو ما يحيل على رفعة وسمو السلطان باعتباره سيداً وخليفة الله في أرضه.. وهو شريف بما يحيل على النسب الديني المرتبط بالرسول (صلى الله عليه وسلم) وعلى علو المكانة والأفضلية من حيث حسب الآباء ومجد الأسلاف، والتقرب من الجناب الشريف بالنسبة لخدام الأعتاب الشريفة، التماسا لبركة سليل الأنْساب الصافية والدم النقي هو تعبير عن الوفاء والمخدومية.. ورغم إزالة طابع القداسة عن جسد الملك في الدستور الجديد، فإن السلطان المغربي لا زال مثل الشمس إذا ما طلعت لم يبد في سماء تسيير الدولة كوكب.. وكل ما يفيض عن السلطان من جسد أو لباس أو نعمة أو حركة أو كلمة.. جالب للبركة واليمن في حالة الرضا وحاصد للغضب والعقاب في حالة السخط. عراقة مراسيم البروتوكول المغربي لا يجب حصر فهمنا للعديد من مراسيم البروتوكول في الجانب السياسي أو بعدها الديني "لا ركوع ولا سجود إلا لله عز وجل"، إن تقاليد المخزن هي معطى سوسيولوجي أيضا وجزء من صلب النسيج الاجتماعي، فالعريس يلقب ب "مولاي السلطان" الذي تبارك الجموع زفافه وتستقبله بفرق الخيالة وإطلاق البارود وزغاريد النساء ورميه بالورد ورشه بالروائح والعطور وتقديم الحليب والتمر له، وحماية التراب الذي يمشي عليه من السحرة والمشعوذين، والحرص على تقديم فروض الطاعة والولاء له كل حين: "الله يبارك في عمر مولاي السلطان"، "أسيدي بايع".. لم تكن تقاليد البروتوكول المخزني مكتوبة ولا تصدر في مراسيم أو ظهائر، بل تمثلت كأعراف بعضها ضارب في الجذور في عمق الأحكام السلطانية وتربية الملوك وبعضها مستجلب من نماذج الاستبداد الأسيوي في أوج قوته مع ملوك الفرس.. حتى أصبحت جزءاً من بنية السلطة في المغرب، وستترسخ معالمها وتتوطد في القرن 17، وستعرف أوجها مع الملك الراحل الحسن الثاني الذي كان يعين على رأس مراسيم البروتوكول أشخاصا من دار المخزن، لهم إطلاع واسع على تقاليد الدولة المغربية، وكان يتدخل في الكثير من التفاصيل، وسمح له عمق تكوينه الثقافي والتاريخي وشكل ميله إلى نموذج السلطان/ الإمبراطور في أقصى أبعاده مع المرابطين والموحدين والسعديين، إلى ترسيخ تقاليد باذخة تمثل شكل السلطة التي اتخذها نظام حكمه المركزي الذي اكتسى فيه الملك طابع القداسة.. وللأسف فإن العديدين لا يعون أبعاد إسقاط محمد السادس طابع القداسة عن شخصه كملك! خلفيات دعوات الإلغاء كان محمد الساسي الفتى الملتحي والتلميذ البوعبيدي النجيب أول من نادى بضرورة إزاحة بعض الطقوس المذلة بكرامة الإنسان في البروتوكول المخزني، وفي مقدمتها تقبيل اليد غداة أول استجواب له مع يومية "الاتحاد الاشتراكي" بعد رحيل الحسن الثاني، وهو ما دفع أحد كبير الحقوقيين إلى معاقبة الصحافي الذي أجرى الاستجواب، أقصد عبد الرحمان اليوسفي الوزير الأول في حكومة التناوب التوافقي، جرى ذلك في فاتح غشت 1999.. هل كان اليوسفي مخزنيا؟ ما قام به الساسي في بداية العهد الجديد هو ما حاول أحمد الريسوني الزعيم السابق لحركة التوحيد والإصلاح أن يلفت الانتباه إليه، حول شكل التحية والسلام المخصّصين للملك كما جسدهما حفل تعيين العمال والولاة الجدد، وإن من منظور مختلف.. إن محمد الساسي حين تحدث عن إلغاء طقوس تقبيل اليد تكلم كأستاذ حقوقي يفكر بمنطق عصري حداثي، وفي ذهنه الدولة العصرية التي تحفظ الكرامة البشرية لكافة مواطنيها بعيداً عن منطق العبد والسيد، الراعي والرعية.. أما أحمد الريسوني فيتحدث من داخل البنية التقليدية لكن في أفق ديني يرتبط بمفهوم "لا سجود ولا ركوع إلا للخالق"، لكن أليس في إلغاء العديد من طقوس البروتوكول التقليدي ضرب لبنية السلطة وهيبة الملكية؟ تقاليد مرعية إن شكل تنظيم أمور القصر والإشراف على مراسيم البروتوكول التي كان يشرف على بعضها الحاجب الملكي، وعلى بعضها قائد المشور قبل أن تصبح لدينا وزارة القصور والتشريفات والأوسمة الملكية، تجسد أسلوباً في ممارسة السلطة بالمغرب، وبُعد تمظهر السلطان الحاكم في علاقته بالحاشية والرعية، ومناقشتها ليست ترفاً زائداً أو تفاصيل شكلية تلهينا عن الجوهر السياسي لنظام الحكم بالمغرب. لكن يجب أن ننتبه إلى ما أشار إليه المؤرخ ابن زيدان في كتابه "العز والصولة في معالم نظم الدولة" حين قال: "ومن معرفة الناس لنظام القصور، تتجلى أمامهم عظمة الدولة وخطرها، إذ بمعرفة حياة الملوك تُعرف حياة الشعوب وأثرها"، من خروج الموكب الملكي في ساحة المشور حيث يتجمع الناس صائحين بحياة الملك، كانت النساء تحملن أطفالهن وتعتبرن أن مجرد رؤية السلطان محمد الخامس إلى ابنهن، بمثابة الفأل الحسن الذي سيكون له انعكاس على المستقبل الزاهر للطفل، إلى "حَرْكات" المخزن على قبائل السيبة، حتى شكل اللباس والعادات المرتبطة ببروز الملك... تتجلى مظاهر غريبة مصاحبة للسلطان في المغرب، إن مراسيم البروتوكول كما يجسدها حفل الولاء هي ترميز أسطوري لطبيعة سلطة الحاكم.. هذه المظاهر الاحتفالية الفولكلورية هي أحد أبعاد تجلي السلطان في المغرب.. اكتملت معالمها في القرن 17 مع ظهور ملامح الصلحاء والشرفاء، واغتنت مع حكم الحسن الثاني، وللأسف فإن الدارسين والباحثين اهتموا أكثر بالصراع السياسي حول السلطة وبما اعتبر جوهرا للنظام السياسي في المغرب وطبيعة المؤسسات وعلاقة الحاكم بالمحكومين.. لكن القليل منهم من التفت إلى طقوس ممارسة السلطة أي شكل جوهر النظام السياسي، الذي هو سابق في الوجود على السلطان ذاته الذي يجد نفسه تحت وطأة تقاليد عريقة، تتشكل من طقوس ثقيلة وتقاليد قديمة متوارثة منذ قرون كتجسيد لشكل بنية الحكم، وكقواعد مرعية يعتبر الإخلال بها تجاوزاً لهيبة السلطة المركزية، تقاليد تفرض حتى على الحاكم الجديد التكيف مع سلطتها، حيث يصبح السلطان أقوى من الملك! لقد أعلى الحسن الثاني من طقوس ممارسة السلطة، لذلك كان حريصا على مراسيم البروتوكول الملكي في حفل الولاء كما في خروج موكبه في عربة تقليدية وسط المشور السعيد، أو أثناء رحلات الصيد، وفي لباسه، كما في شكل طعامه وعاداته اليومية، في البخور والعطور التي كان يضمِّخ بها قصوره، وفي ذلك النظام الصارم المتبع في شكل المثول في حضرته، وتقاليد الانحناء وتقبيل اليد، وفي جيش الخدم والعبيد المحيط به، كل فرقة مكلفة بمهمة دقيقة ووفق نظام صارم يعرض المخالفين لطقوسه إلى العقاب والتأديب... الصالح والطالح إن شكل تنظيم أمور القصر والإشراف على مراسيم البروتوكول تعتبر إرثا ثقافيا يثري طقوس التقاليد الملكية كما في أعرق الملكيات الديمقراطية من اليابان إلى إسبانيا وإنجلترا فالدانمارك.. لكن بعض هذه الطقوس يحمل وشم العبودية ويثقل كاهل الملك العصري ويشكل إهانة للكرامة البشرية لمن يحضرون بين يديه من موظفين سامين وقادة حزبيين ومسؤولين كبار ووزراء.. يجب القطع معها، نستشعر معاناة محمد السادس في الخضوع لها كملك عصري عاشق للحياة ميال إلى التلقائية، حيث تتناقض هذه الطقوس مع تكوينه الثقافي الذي لا زال يعطي الانطباع بأنه حاكم منفتح وحداثي... إن طقوس الانحناء المذل بالكرامة البشرية وتقبيل الأيدي لا يجب أن يستمر، حتى بدعوى أن الملك لم يعاقب رجالات الدولة الذين كانوا في حضرته ولم يقبلوا يده ولا انحنوا حد الركوع له، بل على محمد السادس إصدار قرار رسمي، ليكن ظهيراً شريفاً بمنع كل الطقوس الحاطة من الكرامة، لكن بالمقابل يجب الاحتفاظ بالعديد من تقاليد البروتوكول التي تعتبر ملمحاً ثقافيا يميز الملكية المغربية من خلال طقوس عريقة متوارثة كما هو الشأن في اليابان وبريطانيا.. وكلما انفتح النظام السياسي المركزي كلما سمح بالتخلي عن العديد من الطقوس الشكلية المخلة بالكرامة البشرية. *[email protected]