جاء نصيب الجامعات العربية كعادته شاحبا وغير ذي قيمة في التصنيف العالمي للجامعات، الذي دأبت جامعة «شنغهاي جياو تانغ» الصينية على إعداده بشكل منتظم منذ العام 2003. ففي الترتيب السنوي لهذا العام، الصادر رسميا قبل ثلاثة أيام (15 يوليوز 2014)، غاب العالم العربي برمته، باستثناء أربع جامعات سعودية، وجامعة القاهرة في مصر، التي تم تصنيفها ضمن الخمسمائة جامعة الأولى في العالم.. وفي المقابل، كان نصيب إسرائيل من هذه الكوكبة من الجامعات المُصنفة ستّ جامعات، بترتيب أفضل بكثير من جامعاتنا العربية. ظلت الجامعات المغاربية، كعادتها، خارج زمن التصنيف، كما هو حال مجمل البلاد العربية. أما تصدر القائمة فعاد للولايات المتحدة الأمريكية ب16 جامعة من بين العشرين الأولى، و146 من المجموع، أي 500 جامعة. كما كان للبلاد ذات المنظومات التعليمية والبحثية الناجحة نصيب من هذا الترتيب، من قبيل «المملكة المتحدة»، و«فرنسا»، و«ألمانيا»، و«كندا»، و«استراليا»و«سويسرا»و«اليابان»و«السويد»، و«هولندا» «والنرويج»، و«بلجيكا»و«إيطاليا»، و«جنوب إفريقيا»، بما في ذلك دول صغيرة الحجم وذات فعالية اقتصادية، مثل «تايوان»، و«كوريا الجنوبية»و«هونغ كونغ». يُذكر أن المعايير المعتمدة دوليا، بما فيها جامعة شنغهاي، لتصنيف الجامعات وترتيبها أربعة، هي تحديدا: «جودة التعليم»، حيث يُعتمد مؤشر خريجي المؤسسة الذين حصلوا على جوائز نوبل وأوسمة فيلدز. يليه مؤشر «جودة هيئة التدريس»، أي الذين فازوا بجوائز وأوسمة علمية، والأكثر استشهادا بأبحاثهم في واحد وعشرين تخصصا علميا. أما المعيار الثالث فيخص «مخرجات التعليم»، أي مؤشر المقالات المنشورة في الطبيعة والعلوم الدقيقة، وكذلك المقالات الواردة في دليل النشر العلمي الموسع ودليل النشر للعلوم الاجتماعية ودليل النشر للفنون والعلوم الإنسانية. وأخيرا معيار «حجم المؤسسة»، أي مؤشر الإنجاز الأكاديمي قياسا بالمعايير سالفة الذكر. لا شك أن ثمة علاقة تلازمية بين مواقع الدول في تصنيف جودة الجامعات، واستراتيجياتها في مجال التعليم الجامعي والبحث العلمي. فليس صدفة أن تتبوأ الدول ذات الموقع الاقتصادي والتنموي المتقدم قائمة الجامعات الأكثر جودة في العالم. والواقع أن النجاح في تجويد التعليم العالي وتطوير البحث العلمي رهينان باستراتيجية الدولة وتصوراتها لهذا القطاع. ومن هنا لا نحلم بأن تدخل جامعتنا المغربية كوكبة الجامعات الأفضل في التصنيف العالمي على الأقل في الزمن القريب والمتوسط، ليس بسبب عدم قدرة أبنائها على ذلك، ولا بسبب عجزها الفطري عن إدراك هذا المقصد، وإنما تحتاج جامعاتنا إلى إرادة صادقة للنهوض بأوضاعها.. تحتاج إلى ثورة حقيقية لإعادة صياغة تصوراتنا لمكانتها، ووظائفها وأهدافها، والأدوار الحقيقية المنوطة بها. وقبل هذا وذاك تحتاج الجامعة إلى الاعتراف بها كيانا مستقلاً، قائما بذاته، متمكنا من مقومات التعليم والبحث بحرية واستقلالية مسؤولتين. تتعدد مصادر ضعف جامعتنا المغربية وتتنوع، وتتضافر في تفسير استمرارها خارج زمن التصنيف العالمي للجامعات الأفضل جودة. والمفارقة اللافتة أن ثمة طاقات ومؤهلات بشرية قادرة على تغيير وجه الجامعة ووضعها على سكة التطور، تحتاج فقط إلى مشروع جدي، يُعيد للجامعة مكانتها التي تآكلت بالتدريج، ويوفر لجسمها شروط الانخراط المؤسس على تكافؤ الفرص، والعمل الجماعي، والمنافسة العلمية الحقيقية. فلو تصورنا على سبيل الافتراض، وفي سياق تنصيب المجلس الأعلى للتعليم أخيرا، والحديث عن إصلاح الجامعة، أن العزم عُقد على التصدي بإرادة صادقة وحازمة لثلاث عِلَل، أضعفت الجامعة المغربية، وأرجعتها إلى الوراء في السنين الأخيرة، فإننا سنتمكن دون شك من توفير أرضية جديدة للانطلاق بجامعاتنا نحو الجودة والإنتاجية. تتعلق العِلّة الأولى بعدم استقلالية الحقل الأكاديمي والعلمي عن «المجال السياسي». فمنذ أن أسست الجامعة المغربية أواخر خمسينيات القرن الماضي ظلت مجالا مفتوحا للصراعات والتجاذبات السياسية.. ومن باب الموضوعية نشير إلى أنه ليست السلطة وحدها التي اخترقت الحقل الأكاديمي وسعت إلى توظيفه لبناء الولاء والتأييد لها، بل أيضا الأحزاب والمنظمات السياسية. في حين ترتبط العلة الثانية بضعف الحكامة الجيدة وصعوبة بثّ مبادئها في التدبير والتسيير. أما العلة الثالثة فتخص أخلاقيات المهنة، أي منظومة القيم الناظمة لمهام الجامعة ووظائفها، التي تقهقرت بالتدريج، وغدت شبه منعدمة في الكثير من مؤسسات التعليم العالي، ومن قضى زمنا يسيرا في رحاب الجامعة المغربية يلاحظ كل هذه العلل، ويلمس أضرارها المسؤولة عن تراجع الجامعة كفضاء للتحصيل والتكوين والبحث العلمي، وكإطار لبث قيم التنوير، والتسامح، والمواطنة الكاملة. من حقنا أن نفتخر بجامعتنا المغربية، ونطمح إلى أن تكون رائدة ومتألقة أسوة بنظيراتها في العالم، لكن من حقنا أيضا أن نغضب ونحزن على التقهقر التدريجي، وإن بدرجات مختلفة من مؤسسة إلى أخرى. فالعبرة بالمنحى العام الذي انزلقت إليه أوضاع الجامعة، وليس ببعض الومضات والإنجازات المتفرقة هنا وهناك.