لم يسأل أحد ممن اطلع على تدوينة لي على فايسبوك والمعنوة ب "في قلب صخرة!" أين توجد "الحفرة-المزرعة" التي كان وصف جمالها في الصورة المرفقة بها موضوعها؟ وقد بلغ عددهم قرابة الماءة (أخدا بعين الاعتبار التعليقات الواردة في الحسابات المشاركة للتدوينة). وهذا في التقدير له دلالة رائعة من منظور فلسفة الجمال. لماذا؟ المقال / التدوينة الموسوم "في قلب صخرة" (https://bit.ly/3PeNc5m ) كان مصحوبا بصورة تعكس لونا من ألوان الجمال الطبيعي. لكن لم أشر إلى مكان تلك "الحفرة-المزرعة" التي دار موضوعه حول جمالها بلغة مزجت بين الوصف الأدبي والمقاربة العلمية. وقد بحثت قبل كتابة تلك التدوينة عن أصل الصورة ومكانها للتأكد من أصالتها. استوقفتني فكرة الإشارة إلى هوية "الحفرة-المزرعة" في تلك التدوينة، لكن لاشعوريا غلب التوجه الذي يفيد أن "لا بأس من عدم ذكره، فذلك أمر ثانوي". بعد ذلك أثار انتباهي ذلك السلوك، ودفعني الفضول إلى رصد ردود فعل القراء الكرام، وبالضبط حول ما إذا كان أحدهم سيسأل: وأين توجد هذه "الحفرة-المزرعة" الجميلة؟ وكانت النتيجة كما أشرت سابقا: لا أحد اهتم بهوية تلك التحفة الجمالية الرائعة. لا يعني ذلك أن سؤال وأين يوجد ذلك الجمال؟ لم يخامر أذهان القراء، لكن الأكيد أنهم رجحوا التقدير القائل: ذلك أمر ثانوي! والدليل: لا أحد سأل عنه. هل يعد هذا أمرا سلبيا؟ لا يمكن المغامرة بأي جواب في غياب "دراسة" تحاول تفسير سلوكنا جميعا والبحث عن دوافعه الخفية. لكن يمكن المجازفة بأمر هام، شخصيا اعتبرت ذلك أمرا إيجابيا يتماشى وفلسفة الجمال. أهمية الجمال الأساسية تكمن في المتعة التي يحققها لمتذوقيه في لحظة تذوقه، أما ما يتعلق بهوية ذلك الجمال فهو لا يدخل في مكوناته، ذلك أن معرفتها لن تنقص ولن تزيد من درجة ولون جماله. واقصد بهوية الجمال، طبيعيا كان أو إبداعيا، اسم المبدع، وتاريخ الابداع، ومكانه، وما قد يرتبط به من أحداث … باختصار جميع المعلومات ذات الصلة بذلك الجمال دون أن تدخل في تركيبة العناصر التي تشكل قيمته الجمالية. مع اعتبار أن لكل جمال قيمة عامة تتضمن قيمته الجمالية الذاتية إضافة إلى قيمة هويته. وفي التقدير، تأتي أهمية الهوية في المرتبة الثانية، وتكون فقط لإشباع فضول علمي أو معرفي، أو رغبة في "الوصول" إلى ذلك الجمال بشكل مباشر. لكن حين تتفوق قيمة هوية إبداع فني ما عن قيمته الجمالية، فإننا لا نكون بصدد عشق الجمال، بل بصدد عشق عناصر تلك الهوية، مثل شهرة المبدع أو القيمة التاريخية للإبداع… فحين تطوف بمعرض لوحات فنية، فالذي يهيمن على سلوكك وأنت تتصفح اللوحات بذوق جمالي، وتستمتع بجمالها، هو المقارنة الذوقية بين جمالها، وقد لا تهتم كثيرا بتوقيع في أسفلها يشير إلى هوية الرسام. ولو عرضت عليك لوحة فنية رائعة بدون هوية، هل سيتغير مقدار إعجابك بجمالها بمجرد التعرف على الرسام الذي أبدعها؟ هذا سؤال فلسفي مهم. لو افترضنا أن تقديرك للقيمة الجمالية زاد بمجرد أن علمت أن الرسام هو ليوناردوا دافنشي أو بيكاسو، أو لو نقص ذلك التقدير لما علمت أن الرسام شخص منبوذ في المجتمع، هل كنت تعبر عن تقدير جمال اللوحة أو عن قيمتها المعنوية العامة التي لا شك أن هوية الرسام تشكل جزءا مهما منها؟ التاريخ أيضا جزء من هوية الفن، فلوحة رسمت قبل عدة قرون لها قيمة من نوع آخر مقارنة مع لوحة عمرها ساعات أو أسابيع أو حتى بضع سنين. لكن من حيث فلسفة الجمال، فالقيمة الجمالية للوحة الفنية مثلا، تسمو عن عناصر الهوية كلها، رسامها، تاريخها … لتبقى الألوان والخطوط وحدها من يحدد القيمة الجمالية، إضافة إلى حامل تلك الألوان والخطوط، هل هو قماش أو لوح خشبي، أو ورق صقيل، أو جلد غزال، أو كف امرأة خطت عليه رسوما جميلة بالحناء… فالحامل جزء من مكونات جمال الرسم أو النقش أو النحت … في حالات يمر رجل بفتاة فتبهره بجمالها، ويقرر طلب يدها غير مبال بهويتها: من أبواها؟ وما خلفيتهم الاجتماعية؟ وكم عمرها؟ وماذا تحب وتكره؟ و… وقد يتمكن من الزواج بها ضدا حتى على إرادتها! وبالطبع هذا الأسلوب في اختيار شريكة الحياة لا يُنصح به. حين تعجب بمقطع موسيقي، أو حتى بصوت غنائي، فهناك تمايز بين الجمال التي أمتعك وبين مصدره ومؤلفه و … ما هو الجمال؟ ستجد تعريفات كثيرة ومختلفة، بلون علمي، أو لون فلسفي، أو لون أدبي، وغير ذلك. تعاريف تعجز عن محاصرة معنى الجمال، لأنه يتعلق بتجربة كل شخص. فما يعجبني قد لا يعجبك او ربما قيد يغضبك، وما يعجب شخصا في ظل ثقافة قد ينفر غيره في ثقافات أخرى… الجمال في أحد أبعاده يرتبط بالحواس الخمس، فنجد جمال الصوت، وجمال الذوق، وجمال الرائحة، وجمال الملمس، وجمال المشهد. لكن الجمال يقتحم حواجز تلك الحواس ليشمل جمال الأخلاق، وجمال التواصل، وجمال الأسلوب الأدبي، و… الجمال شيء يمكن أن تجده في كل شيء، في الفن، في الطبيعة، في معاملة، في ابتسامة، في عبارة، في لمسة، في شكل زهرة، في عبق وردة، في غروب الشمس، في تلاطم أمواج، بل قد تجده في مشهد دمعة على خد لا تعرف سببها، وفي تناسق ألوان أفعى، … في نص مكتوب جمالين على الأقل، جمال المعنى، وجمال الخط الذي كتب به، وقد يجتمعان معا في نص وقد يتخلف أحدهما، لكن مادام واحد منهما موجودا فذلك النص يحمل قيمة جمالية لمن يدركها. لكن كيفما كان لونه وموضوعه ومصدره وحامله وسياقه وتاريخه، فالجمال هو ما تشعر به وأنت بصدده. إنه يتعلق بطبيعة تأثير ما تدركه، بالفكر أو الحواس، في دماغك. فإذا أثار متعة وسعادة كان ذلك جمالا، وإذا أثار غير ذلك فهو غير ذلك. هذه الحقيقة في الأدمغة هو ما يفسر اختلاف الناس وتفاوتهم في إدراك الجمال وتذوقه، وهو من دون شك له علاقة بالثقافة وبالتربية، وبالقيم التي يومن بها كل شخص. الجمال فطري لأن أدمغتنا مهيئة لإدراكه والتفاعل معه، وهو تنشئة لأن طبيعة وقوة مفعوله في أدمغتنا يرجع إلى طبيعة التنشئة الاجتماعية التي تلقيناها. كثيرا ما يستغرب أناس مدى إعجاب أناس آخرين بمشاهد ألفوا مشاهدتها دون أن تثير لديهم أي إعجاب. لذلك يؤكد خبراء التربية على التنشئة على قيم الجمال وحبه، وعلى مساعدة النشء على تذوقه واكتساب القدرة على حسن اكتشافه في كل شيء. لكل ما سبق يمكن أن نجازف بالقول إن الجمال يسمو عن هويته، وإن كانت هذه الأخيرة مكملة لقيمته العامة، والتي قد يستغني عنها. فكما لم تكن صورة "الحفرة-المزرعة"، كما أشرت إلى ذلك سابقا، في حاجة إلى ذكر شيء من هويتها للاستمتاع بجمالها، فالجمال ليس في حاجة إلى هوية ليكون جمالا يحدث أثره السحري الرائع في أدمغتنا.