نهاية الأسبوع المنصرم نجح حزب العدالة والتنمية المغربي في تنظيم مؤتمره الوطني الاستثنائي، ونجح أيضا في تقديم دروس تستحق الوقوف عندها بالكثير من التقدير والاحترام. الدرس الأول هو أن القيادة السابقة للحزب بقيادة الدكتور سعد العثماني قدمت استقالتها بشكل جماعي واعترفت بمسؤوليتها السياسية اتجاه نتائج الانتخابات الأخيرة، واتجاه تدبير المرحلة ككل، وهو سلوك ديموقراطي نادر في حياتنا الحزبية وفي منطقتنا العربية عموما.. لقد اختارت القيادة السابقة للحزب موقف الاستقالة رغم أنها كان يمكن أن تعلق أسباب الهزيمة على الخروقات الكثيرة التي عرفتها الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة والتي كان لها دور مؤكد في تقليص الحضور التمثيلي للحزب داخل المؤسسات المنتخبة.. لقد اختارت قيادة الدكتور العثماني تسجيل ملاحظاتها باعتدال شديد واعترفت بنتائج الانتخابات حتى تفسح المجال للتداول على رئاسة الحكومة بطريقة انسيابية، مؤكدة بذلك استثنائية النموذج المغربي المختلف عن باقي التجارب في العالم العربي، الذي لم تنجح فيه أي دولة في اختبار الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية في مواقع السلطة وواجهت إرادة شعوبها بالقمع والبطش.. أما الدرس الثاني فقد قدمه مناضلو حزب العدالة والتنمية وهم يقومون باختيار قيادة جديدة في مؤتمر استثنائي جرى تنظيمه في ظل ظروف الجائحة انطلاقا من 80 محطة بالإضافة إلى محطة بوزنيقة التي تجمع فيها أعضاء المجلس الوطني من أجل تداول صريح في طبيعة المرحلة وما تتطلبه من أجوبة تنظيمية وسياسية..اختيار الأستاذ عبد الإله بنكيران ب81% من الأصوات يعبر عن حجم الثقة والمصداقية التي يحظى بها وسط مناضلي الحزب وأيضا حجم الآمال الملقاة على عاتق القيادة الجديدة للقيام بالمراجعات الضرورية واستعادة المكانة السياسية للحزب التي يستحقها باعتبار مكانتها المجتمعية وما يمثله من آمال فئات عريضة داخل المجتمع. ومن المهم الإشارة أيضا أن أول من هنأ الأستاذ عبد الإله بنكيران بعد انتخابه هو الدكتور سعد الدين العثماني في مشهد غير معتاد داخل بيئتنا السياسية، وهو ما يقتضي الاعتراف بدرس التداول الديموقراطي داخل حزب العدالة والتنمية. فماذا عن المستقبل؟ في نظري المتواضع الحزب مؤهل لكي يتجاوز بنجاح صدمة 8 شتنبر، بل ويخرج منها أكثر قوة وأكثر حنكة إذا نجح في استثمار عناصر قوته بشكل جيد وفي توظيف ذكائه الجماعي لاستخلاص الدروس والعبر مما حصل وفهم رسالة 8شتنبر جيدا سواء ما تعلق منها بالمجتمع أو ما تعلق بعلاقته بالدولة، فحزب العدالة والتنمية حزب منظم بشكل جيد وله خزان من الشباب والأطر والكفاءات والنساء، ونتائج الانتخابات الأخيرة لا تعكس وزنه السياسي الحقيقي. غير أن الحزب يحتاج إلى القراءة الموضوعية والدقيقة لهزيمته الانتخابية والانتباه إلى الأسباب الحقيقية المرتبطة أساسا بالذات الحزبية، والتخلص مما يمكن تسميته ب"الثقافة الطائفية" وهي ثقافة موجودة للأسف داخل الحزب تمنع قيادته وعددا من أعضائه من خوض تمرين النقد الذاتي والقيام بتشريح الأخطاء السياسية الذاتية التي قام بها الحزب خلال هذه الولاية التي قادها الأخ سعد الدين العثماني سواء بوصفه أمينًا عاما للحزب أو بوصفه رئيسا للحكومة. صحيح أن الانتخابات المغربية كانت ولازالت محكومة بآليات الضبط القانوني، وبأدوات التحكم الإداري والتنظيمي الذي تتوفر عليها وزارة الداخلية، ولكن لا ينبغي أن ننسى أن رئيس الحكومة يتوفر هو أيضا على مجموعة من الآليات الدستورية والقانونية التي لم تستثمر في الوقت المناسب لضمان الحد الأدنى من التوافق بين الأحزاب السياسية، ولاسيما أمام أحزاب الأغلبية التي تملصت من مبدأ التضامن الحكومي. لقد كانت الانتخابات دائما محكومة باستخدام المال وتدخل الإدارة ولم نصل في المغرب إلى تنظيم انتخابات حرة ونزيهة بمعاييرها النموذجية..اليوم يتعين على قيادة الحزب الجديدة ونخبته المفكرة أن تتجه نحو المستقبل وتنصت بتواضع لنبض الشارع وللشرائح الاجتماعية التي كانت وفية له بشكل تصاعدي منذ 1997 إلى 2016 وتستمع لانتقاداتها بقلب مفتوح وتتجاوز التحليل بنظرية المؤامرة التي تعلق هذه الهزيمة الغير المسبوقة على العامل الخارجي. نحتاج اليوم إلى الانتقال إلى مرحلة جديدة في تاريخ الحزب تفتح إمكانية إنتاج مداخل جديدة في التفكير تعطي مضمونا حقيقيا وملموسا للمرجعية الإسلامية في الممارسة السياسية، وتفتح نقاشا جديا حول ضرورة دمقرطة السلطة وعقلنة ممارستها في البلاد، والقيام بدور متقدم في مسار التحول الديموقراطي بما يضمن الحفاظ على الاستقرار السياسي في البلاد، باستحضار التحديات الخارجية والداخلية التي يواجهها المغرب، وما يرافق كل ذلك من مراجعات ضرورية تتعلق بالبناء التنظيمي للحزب وتجديد هياكله وإصلاح بيته الداخلي وإعادة تأهيله للقيام بالأدوار التأطيرية والتوجيهية الضرورية التي تعزز اللحمة الداخلية للحزب وتحافظ على قدراته النضالية والتعبوية.