قادني التزام مهني، نهاية الأسبوع، إلى مدينة مراكش، التي اعتدت الإقبال عليها بكل حب، وقد عوّدتني أن تستقبلني بحبّ. أحبّ هذه المدينة، وتحبّني، مادامت لا تبخل في منحي شعورا عظيما بالاطمئنان والسلام. تهفو إليها نفسي بكل خشوع، كأي حاجّ يقصد الحَرَم. هذه المدينة تكتنز أمرا جليلا من السماء، تخفيه وتدثّره بألف حجاب وحجاب، وتفضح بعضه سُحنات الناس، وحُمرة الجدران، وروائح العطارين، وقهقهات المتمازحين، ومَثَاوي الأولياء والصلحاء، وحتى نصْبُ النصّابين والدجّالين والسارقين. خلق الله مراكشَ، ثم خلق ما بعدها.. وفيها العالمَيْن. دخلتُها دخول الآمنين الراسخين في أرض الحبّ، و"من دخلها فهو آمن". قضيتُ ما قضيتُ من أمري على عجل حتى يبقى لي فائض وقت، وفي فضْل وقتي (وأفضله) فتّشت عن مراكش وعنّي، لعلّي أجد روحي التائهة تطوفُ فوق مئذنة تنتصب بشموخ رجالاتها الحارسين، أو تستريح فوق زينةٍ نسائية مرصوصة بأناة في معرضٍ كلما "شاخ" ازداد بهاء، أو على ورد مجفّف يعرضه بائعٌ شاطر بسخاء وقد نبَتَ في أرض تُسقى بعَرَق أهليَ الأمازيع الأكارم. أو لعلها روحٌ تستوطن حبّاتِ سُبحة شيخٍ من شيوخ مراكش الذين لا يُلقى لهم بالٌ "مدفوعين بالأبواب"، يردّد وِرْده خاشعا وقد أخذه كابِرا عن كابر ضمن سلاسل القوم النورانية. مراكش نسجُ وحدها. إن أتيتها متجرّدا من نفسك عرفت مِقدار نفسك.. أرواح الأوّلين والآخرين تجتمع هنا كل صباح ومساء وتقرّر مصائر العالمين، ومنازل الطالبين، ومُراد الأسياد المبجّلين المقدّمين. أو هكذا أحسبها. دخلتها وقد أغلقها الحرس والعسسُ، يطلبون شهادة المرور ورخصة التنقل. ومتى كانت مراكش تحتاج رخصا وجوازا لتغشاها حتى تغشاك. دخلتها كما قدّر الرحمان الرحيم، مع الرفيق الذي تقيّد قبل الطريق، وكان نِعْم الصّاحب، خاصة أمام الأمن المستنفر زيادة. دخلتها وقد نُصبتْ على مداخلها العوارض والحواجز، في زمنٍ غير، وحيث الناسُ غير، وبعدما "بلغت القلوب الحناجر" من الوباء الذي أوصد في وجه الناس أرض الله. دخلتها وفي البال ما أعرف من رواج المدينة و"حماسها"، ووقارها، وقلّما تجتمعُ لمدينة الأضداد. قضَمَ الوباء من بهجتها مساحات بسِعَةِ الفرح كله.. وقضم من خفّة أهلها وابتساماتهم، وخَطْوهم السريع... كل شيء يسير متثاقلا، على غير هدى. هذه المدينة اليوم يحاصرها الوباء، وتنازع لمحاصرته. بالكاد تُبقي على بقيّة حياة يصنع دبيبها أهلها المرحون، والغاضبون، والمثقلون بالتاريخ، وبالفقر، كما الغنى. كل الفرجة التي كانت تصنعها اختفت، إلى أجل غير مسمى، بين دروبها الضيقة الضّاجّة بالقصص والمرويات، وبين جوانح أهلها القانطين إلا من رحمة ربيَ الجواد الكريم، وقد طوْوا صحائفهم وحكاياهم وأسرارهم، وخِفّتهم، واختفوا. حتى ساحتها، حيث يتحقق لي "الفناء" ومنتهى الحبّ، تحولت إلى مجرّد مطعم كبير بعربات تقاوم للبقاء يجتهد أصحابها وُسعهم في مراودتك عن نفسك لتقبل دعوتهم. فمن يُشبِع جوْعة المتلهّفين لأخبار السابقين واللاحقين، وللفرجة وصنّاع الفرجة، ورواد البهجة ممن أفلتوا من الحواجز؟ فُنيتُ عنِ الفَناءِ وعنْ فَنائِي فَناءً فِي وُجودِكَ عَنْ وُجودِي هذه المدينة، التي تشعرك بخفّة الساحرين أنها آلة زمن وهي تنتقلك من "التمدن" وتقذفك في التاريخ بلا استئذان أو تمهيد، تعيش اليوم وقتا مستقطعا سيئا، وباردا، وتنتظر الفرج بدعوات الصالحين الراسخين، ورجالها الميامين. وحتى وأنت تريد الفرار من ضيق المدينة وقد ساءك حالها، إلى فسحة أطرافها بجبالها الراسيات، يعترضك عارضُ الأمن بأن الشاهقات مخترقات السحاب صعبةُ الطلب وأنْ لا سبيل إليها، تأكيدا على أن الحال غير الحال. تعود خائبا، وتجلس في مقهاك المعتاد كل زيارة مستذكرا أيامه وزبائنه الذين كانوا لا ينقطعون، وكل القصص من بنات خيالك عن رواده من خلال مرايا تأويل متقابلة لا تنتهي لحركاتهم وسكناتهم، وفائض الكلام الذي يصلك من أحاديتهم، فلا تجد إلا الكراسي فارغة، والنادلون فيما يشبه حالة تسوّل للزبناء للجلوس. يوجعك الأمر، وتجد في نفسك إنكارا وكَدَرا. تدخل دروبها التي تعرف، ولم تعرفها. تنازلَ أهلُها عن بعض فرحهم، عن كثير من فرحهم.. وللحق، فقد كانوا يمنحون زوار المدينة فرحا غامرا، وعندما غاب الضيوف، أو حبسهم عذر كورونا، رجّت مراكش، وضجّ "بهجاوة". تسأل البائع عن شيء تشتريه هديّة، تحاول مفاوضته كما اعتدت بشطارة الحاذقين على ما تتوهّم، فيردّ عليك بوجع: "لباس اللي بدينا بعدا تنشوفو الناس". تستسلم وقد استشعرت ثقل الكلام وما ينبئ به الكلام. تتوغّل في أسواقها عميقا، كما كنت تفعل دائما، فلا تواجهك، بعد دقائق، إلا أبواب موصدة على غير ما اعتدت.. توقّف كل شيء، وقد بلغت الأزمة مبلغها من الناس الذين تعوّدوا أن يعيشوا بزوار الحمراء، قبل أن يزورها، ويزور العالم، طائفُ بليّة يرفع لها "السبعة رجال" حرّاس البهجةِ الأوتاد، وكل الرجال، اللطيف: "الله يرفع علينا الوباء.