انتقلت فيدرالية ناشري الصحف المغربية، يوم الجمعة الماضي، إلى مدينة العيون، برهانات وطنية وأخرى تنظيمية. من ناحية أولى، كان اجتماع المجلس الفيدرالي للهيئة في عاصمة الأقاليم الجنوبية للمغرب، ومن جهة ثانية، عُقد جمع عام استثنائي للفرع التابع للفيدرالية بأقاليم الصحراء. رسالة واضحة غير مشفرة صدرت عن اللقاءين، مفادها أن هدف تحصين المؤسسات والممارسات المهنية ضد المخاطر الاقتصادية وتداعيات الأزمات المتلاحقة، والحرص على حماية استقلالية المهنة والنأي بها عن تأثير تيارات التسفيه والتسطيح والتوظيف، لا يتعارض مع المسؤوليات الوطنية للصحافة. هناك الكثير مما يمكن قوله في الشق الإعلامي من معركتنا الجماعية ضد مشاريع التقسيم والإضعاف التي تحاصرنا منذ عقود، والأداء الإعلامي والتواصلي الرسمي يحتاج إلى نقاش وطني مفتوح وجريء، سواء ما يتعلّق منه بالتواصل الحكومي، وما يصدر عن الدولة من رسائل في ملف الوحدة الترابية، خاصة في لحظات الأزمات، أو ما يرتبط بأداء الإعلام العمومي أو المملوك للدولة، في اتجاه تحرير أكثر للطاقات الإعلامية والمهنية الموجودة في جلّ المؤسسات، لكنها مقيّدة بشكل غير مفهوم. لكن هناك تحوّلا كبيرا حصل في المعركة الإعلامية، أبانت عنه أزمة الكركرات الأخيرة، لا بد من تسجيله والوقوف عنده. أكد اجتماع هيئة ناشري الصحف المغربية في عاصمة الصحراء أن الصحافة، بصفتها سلطة رابعة ورقيبا على احترام القوانين وتطبيق الإصلاحات والتمكين للمؤسسات، لا تقوم بوظيفتها في جزيرة معزولة، ولا تتطلع إلى القيام بأدوارها بمهنية واستقلالية دون المشاركة في المجهود الوطني لحماية التراب والسيادة. خطوة عملاقة في طريق كسر هذا الحاجز النفسي (الوهمي) لدى البعض، ممن يعتقد أن الانخراط في الدفاع عن مغربية الصحراء انسياق وراء «المخزن» وتبعية للدولة. وكم كان عميد الصحافة المكتوبة، وضيف شرف فيدرالية الناشرين في لقاء الجمعة الماضي، محمد البريني، بليغا وهو يروي قصة قديمة لاستدعاء وزير الداخلية الراحل إدريس البصري، رفقة مسؤولي الإعلام الرسمي، ممثلي بعض الصحف، ومعاتبتهم على عدم مواكبة جولة قياديين عائدين من صفوف البوليساريو قادتهم إلى بعض دول العالم. قال البريني إنه ردّ على اتهامات محدّثه المسؤول عن الإعلام الرسمي، بتذكيره بأن الصحافة غير الرسمية، مثل جريدة الاتحاد الاشتراكي التي كان عضوا في هيئة تحريرها، تدافع عن القضية الوطنية عن قناعة تامة، وليس لأنها وظيفة تتلقى الأجر مقابل أدائها. فعبر كل من الإعلام التقليدي، العمومي منه والخاص، والإعلام الجديد ممثلا في الشبكات الاجتماعية، استفاد المغرب من تفوّق معنوي كبير على الخصوم، رغم نهجهم أسلوب الدعاية المحمومة. تحوّلت المنابر والأبواق الإعلامية لكل من الجزائر وجبهة البوليساريو، في الفترة الأخيرة، إلى منصة ل«أقصاف» متواصلة ضد المغرب، لكنها ظلت تتفتت على صخرة الموقف الواضح والمعزز بالمعطيات، سواء التاريخية أو القانونية أو بعض الأخبار الميدانية. دعونا نسجّل ذلك، لكن مع الانتباه إلى أنه يعود إلى ضعف فادح في الآلة الإعلامية للخصوم. جيراننا الجزائريون مازالوا أسرى أسلوب إعلامي توقفت عقاربه في سنوات الحرب الباردة وما قبل الأنترنت. لغة تمتح من قاموس الحرب، وتعتمد معطيات ومزاعم يعي الطفل قبل البالغ تهافتها وعدم استنادها إلى أي قدر من الحقيقة، في وقت باتت فيه السماوات مفتوحة والمعلومات متدفقة على مدار الساعة واليوم. النموذج الذي قدّمه مغاربة الفيسبوك والصحافة الخاصة، ورقية كانت أم إلكترونية، ينبغي أن يكون درسا واضحا نأخذه بشكل حاسم، مفاده أن تحرير الكلام حول الصحراء وفتح المجال أمام تملّك المجتمع قضاياه المصيرية، يخدم المصالح العليا للبلاد ولا يهددها، كما يعتقد البعض. المنصات الدعائية، من وكالات أنباء وقنوات تلفزيونية وصحف جزائرية، وإن كانت أسيرة نهج دعائي عتيق ومتجاوز، إلا أنها ينبغي أن تجد في مقابلها صحافة قوية وحيوية ومتنوعة، تبديدا لأي غموض أو تردد يمكن أن يعتري الرأي العام، وقطعا للطريق أمام المنصات والمنابر الإعلامية الدولية التي تحاول، بين الفينة والأخرى، أن تنكأ جرح المغرب الترابي. فلولا الضعف البيّن الذي يعتري الآلة الإعلامية للخصوم، لما كان الاندفاع التلقائي للمغاربة، بشبكاتهم الاجتماعية وصحافتهم المترنحة، كافيا لحماية الجبهة الإعلامية في المعركة. في الوقت نفسه، كانت اللقاءات والأحاديث الجانبية على هامش اجتماع فيدرالية الناشرين، بين مسيري المؤسسات الإعلامية، ذات شجون خاص. هناك شبه إجماع على دخول الصحافة مرحلة السكتة القلبية، ماديا ومعنويا. ومع الأخذ بعين الاعتبار نصفي الكأس، الفارغ والمملوء، فإن ما يحدث مع هذه المهنة يوحي بأن هناك قرارا، غير مفهوم ولا مبرر ولا قابل للاستيعاب، بطي تام ونهائي لصفحة صحافة «تزعج»، ليس لأنها معارِضة أو مكلفة ب«أجندات» أو لا تقاسمُ الدولة الهم الوطني، بل فقط لأنها تحرص على هامش صغير جدا، لكنه ضروري، من المسافة إزاء القرارات والروايات والاختيارات الرسمية، في ما هو موجود أصلا للاختلاف فيه، وليس بشأن ثوابت الدستور أو مكامن الإجماع الوطني. كثيرة هي الأمراض والعلل التي كانت الأجساد تشكو علتها قبل ظهور الجائحة، لكن هذه الأخيرة سرّعت وتيرة الرحيل عن دنيانا هذه، وهو ما يجعلنا نعيش منذ أسابيع على إيقاع خيمة عزاء مفتوحة على الدوام. جسم الصحافة أيضا كان مريضا ومصابا بعلل ذاتية وأخرى بفعل فاعل، وبمجيء الجائحة تسارع إيقاع الوقوع في الهاوية، في مشهد تراقبه عيون أصحاب القرار بصمت، لكن مع نظرة تشي بكثير من الارتياح والغبطة. إذا كان المغرب اليوم يحارب من أجل الصحراء، فإن صحافته في مراحل حاسمة من «عبور الصحراء»، ومن الخطير ألا نعي ارتباط هذه بتلك، ليس لأن الصحافة مهمة في الدفاع عن وحدة التراب، بل لأنها أول مؤشر على سلامة وصحة الجسم الوطني، مؤسساتيا وسياسيا، وقدرته على التماسك والصمود.