تنطوي التحولات التي تحصل في الجزائر على إشارات متضاربة تجاه المغرب؛ فإذا كان الحراك الشعبي وجه رسائل إيجابية تتضمن الرغبة في التعاون بدل الصراع في الإقليم، بما يعود إجابا على اتحاد المغرب العربي، فإن السلطة الجديدة، ممثلة في الرئيس عبدالمجيد تبون، مافتئت تعمل على إذكاء سياسات العداء المترسخة لدى أجهزة الدولة العميقة في الجارة الشرقية. الموقفان معا يعكسان حالة التناقض بين تطلعات الشعب الجزائري وسياسات حكومته، فهل تؤثر التغييرات المتضمنة في مسودة الدستور الجزائري المرتقب على سياسات التنافس الإقليمي بين البلدين في المنطقة؟ إشارات متضاربة عبّر الحراك الشعبي الجزائري، الذي انطلق باحتجاجات يوم 22 فبراير 2019، عن تطلع الجزائريين للحرية والديمقراطية. وفي عدد من المحطات، عبّر زعماء الحراك عن رغبتهم في إقامة اتحاد مغاربي قوي، في مواجهة مختلف التهديدات، بل إن بعضهم رفع العلم المغربي إبان المظاهرات التي عرفتها العاصمة الجزائر وغيرها من المدن. ورغم أن الحكومة المغربية تجنبت التعليق على الوضع الجزائري، واختارت الحياد، رغم الأحداث الهائلة التي وقعت، من قبيل إجبار الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة على الرحيل، واعتقال فريقه الأمني والسياسي والاقتصادي، إلا أن المغاربة عبروا دوما عن رغبتهم في أن يروا الجزائر ديمقراطية وقوية. وخلال كل تلك الأحداث غالبا ما طرح السؤال التالي: إذا استطاع الحراك تغيير النظام الجزائري، فهل يؤدي ذلك إلى حسم قضية الصحراء وتأسيس تكتل إقليمي مغاربي؟ لكن الأجوبة لم تكن واحدة، رشيد بلباه، كان أحد الخبراء المغاربة في الشأن الجزائري، الذي توقع حدوث الأفضل في العلاقات، إذ يقول: "عندما يدعو المغرب إلى الحوار، فهو يتوفر على محاوِرين، وهم دستوريا الملك والحكومة المنتخبة، فهم محاورون لهم القدرة على اتخاذ القرارات الاستراتيجية. المشكل أنه من الجانب الآخر، تبيّن، خصوصا في السنوات الأخيرة، أنه ليس هناك محاور جدي"، وتابع بلباه قائلا: "لو دخلت الجزائر في سياق سياسي جديد بالفعل، سيكون حينها للمغرب محاور جديد منتخب من طرف الشعب الجزائري". قبل أن يستدرك أنه "في مسألة الصحراء، كان هناك تكييف ثقافي وسياسي كبير. في المخيال السياسي الجزائري، المسألة لدى غالبية الجزائريين محسومة، وليسوا مع الطرح المغربي والمفاوضات، لأن الإشكال أعمق مما نتصور". لكن على صعيد آخر، ظلت النخب الموالية للسلطة والدولة العميقة معادية للمغرب وصحرائه، ولعل أقوى مثال على ذلك المرشحون للانتخابات الرئاسية الذين تنافسوا فيمن يكون أكثر عدوانية تجاه المغرب. ويعد عبدالمجيد تبون، الرئيس الحالي، من أبرز من وظف العلاقات مع المغرب في حملته الانتخابية، سواء في موقفه الرافض لفتح الحدود المغرب، بحجة أن الأخير فرض التأشيرة على الجزائريين عقب أحداث أطلس آسني، وعليه أن يعتذر لهم قبل فتح الحدود، متجاهلا أن الذين هاجموا فندق أطلس آسفي ذوو أصول جزائرية ودخلوا بالسلاح عبر التراب الجزائري. وإمعانا في التعبير عن عدائه للمغرب، اختار تبون يوم تنصيبه رئيسا للجزائر في 20 دجنبر لكي يؤكد على الموقف الجزائري الراسخ ضد الوحدة الترابية للمغرب، بل إن الرئيس الجديد، وفي أول حوار صحافي له مع جريدة أجنبية هي "لوفيغارو" الفرنسية، اختار تحديدا وطيلة الحوار التهجم على العلاقات المغربية الفرنسية، بدل الدفاع عن مصالح بلاده، ما دفع بعض المحللين إلى القول إن الرئيس تبون يعاني من "عقدة نفسية" تجاه المغرب، يحتاج حلها إلى طبيب نفساني وليس إلى السياسة. لذلك، يلاحظ أن الرئيس تبون ما فتئ يعبر في كل مناسبة بأنه سيواصل سياسة العداء نفسها تجاه المغرب، والتي يرسمها الجيش وأجهزة المخابرات أساسا. سعيد الصديقي، أستاذ العلاقات الدولية بفاس، يرى أن "الخطاب السياسي للرئيس الجزائري معاد للمغرب، وقد يتعزز في السنوات العشر المقبلة". وأشار الصديقي أن "محاولة بعض النخب الجزائرية المعادية للمغرب إحياء الخطاب التخويفي منه، الهدف منه تبرير الإخفاقات السياسية والاقتصادية للجزائر". لكن الصديقي لاحظ أن "الرئيس تبون، ربما، يعتقد خطأ أن الشعب الجزائري لم يتغير، لقد لاحظنا كيف أن الحراك الجزائري تبنى خطابا تصالحيا مع المغرب، على خلاف الخطاب المعادي للرئيس تبون، الذي يظن أنه من السهل الاستمرار في توظيف الخطاب التخويفي لتعزيز شرعيته الناقصة". وهكذا إذا كان الحراك الشعبي رفع شعار الديمقراطية، فإن مآلات الأحداث اليوم في الجزائر، تكشف أن الحراك لم يحقق أهدافه، والدليل على ذلك مسودة الدستور الجزائري، التي عززت من سلطات الرئيس، وأهملت مطالب الحراك في تغيير النظام السياسي من نظام رئاسي إلى نظام برلماني، كما عززت من سلطات الجيش التي أتاحت له التحرك خارجيا في إطار مهام حفظ السلام الأممية، وكذا في إطار تهدئة النزاعات التي قد تندلع في المناطق المجاورة للبلاد. توسيع مجال الصراع في عديد المواقف، عبّر دبلوماسيون مغاربة أن الجزائر جعلت من سفاراتها أداة في خدمة جبهة البوليساريو، بدل خدمة مصلحة الجزائريين، خصوصا في أوروبا وإفريقيا. اليوم، مع توسيع مهام الجيش الجزائري، يُرجح أن تتحول مناطق الصراع بين البلدين إلى مناطق احتكاك بين جيشين، خصوصا في مناطق النزاعات، حيث المصالح المغربية والمصالح الجزائرية متداخلة. في افتتاحية العدد الأخير (يونيو 2020) من مجلة الجيش الجزائري بعنوان: "تحولات تمليها المتغيرات"، أبرزت أن "مقترح مشاركة الجيش الوطني الشعبي في عمليات حفظ السلام خارج حدودنا الوطنية يتماشى تماما مع السياسة الخارجية لبلادنا، التي تقوم على مبادئ ثابتة وراسخة تمنع اللجوء إلى الحرب وتدعو إلى السلام، وتنأى عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وتحرص على فض النزاعات الدولية بالطرق السلمية"، وأضافت أن "الأمن القومي لبلادنا الذي يتجاوز حدودنا الجغرافية الوطنية، يقتضي في ظل الوضع السائد على الصعيد الإقليمي، وما يطبعه من تحولات وتغيرات جديدة، تعزيز حماية أمن واستقرار وطننا...، خصوصا بقارتنا السمراء التي تشهد أكبر عدد من النزاعات في العالم". بالنسبة إلى خبراء جزائريين، فالتغيير الدستوري الجديد الذي يوسع من مهام الجيش للقيام بعمليات خارج الحدود، يجد مبرراته في وجود المجموعات المسلحة في مالي والنيجر، وكذا في تدشين قواعد عسكرية لدول إقليمية وغربية في منطقة الساحل والصحراء، كما يعود إلى ارتفاع منسوب التوترات والحروب الأهلية كما في ليبيا، وهي تطورات تؤدي إلى تضرر المصالح الاستراتيجية للجزائر وأمنها الحدودي، ما استلزم إجراء مراجعة عميقة للعقيدة الدفاعية للجيش الجزائري، لتكييفها مع التطورات الراهنة. بيد أن عباس بوغالم، أستاذ العلوم السياسية بجامعة وجدة، يرى أن التغيير الدستوري قد يُلغي الكوابح الدستورية التي كانت قائمة فعلا أمام الجيش الجزائري منذ عقود، والتي كانت تمنعه من التدخل خارج حدود بلاده، لكن لا ينبغي المبالغة في ذلك، لأن تلك الكوابح لم تكن "جامدة ولا تتحرك"، والدليل على ذلك أن الجيش الجزائري شارك في الحروب العربية الإسرائيلية لسنتي 1967 و1973، كما أنه قام بعمليات خارج حدوده في دول إفريقية لإنقاذ مواطنين جزائريين من جماعات إرهابية، ولذلك فهو جيش لا يعدم الوسائل والأساليب للتدخل حين تكون مصالح الجزائر تقتضي ذلك، لكن "الجديد، ربما، هو أن التغييرات الدستورية قد تمنح الجيش الجزائري الغطاء المناسب للعمليات التي كان يقوم بها في السابق بدون غطاء"، معنى ذلك أنه "جيش سيكون لديه هامش أكبر للتحرك خارج الحدود، دون أن يتسبب ذلك في جدل داخلي". وعن الهدف، حسب بوغالم، فهو ليس لدرء التهديدات الحدودية فقط، بل "الانخراط في المنظومة الأممية لحفظ السلم والأمن الدوليين"، ويذهب بوغالم إلى أن الجيش الجزائري يسعى من وراء ذلك إلى "اكتساب الخبرات القتالية وفق المعايير المهنية العالمية"، و"التعامل في إطار مهام حفظ السلام مع عقائد عسكرية لجيوش مختلفة، ما يؤهله لتوظيفها مستقبلا في بناء عقيدته العسكرية الخاصة به". علاوة على ذلك، يرمي الجيش الجزائري من وراء توسيع مهامه خارج الحدود إلى تبرير الميزانية الضخمة التي تُقتطع له من الميزانية العامة للدولة الجزائرية، دون أن ينعكس ذلك جليا على احترافية ومهنية الجيش الجزائري وأدائه، والدليل على ذلك خوضه في الشؤون السياسية حتى الآن، بينما تقتضي المعايير المهنية أن يكون الجيش خاضعا للسلطة المدنية، وبعيدا عن الصراعات الحزبية والسياسية. وبخصوص مدى انعكاس تلك التحولات على العلاقة مع المغرب، يرى بوغالم أن "التغييرات الجديدة في البناء السياسي الجزائري لن تضيف شيئا إلى العلاقات السلبية بين البلدين". ذلك أن الملاحظ أن العلاقات في أدنى مستوياتها، سياسيا واقتصاديا، وقائمة على القطيعة في الميدانين العسكري والأمني، وفق ما صرّح به مسؤولي البلدين في أكثر مناسبة. لكن توسيع مهام الجيش الجزائري، قد تكون "ورقة جديدة، قد توظف في تعزيز الموقع التفاوضي للجزائر في إدارة بعض النزاعات الإقليمية، كما هو الحال في ليبيا ومالي والنيجر، وقد تحاول استغلال الورقة عينها للعب في النزاع حول الصحراء المغربية، لكن لا يبدو أن السلطة الجديدة في الجزائر قادرة على تغيير الوضع القائم". ومما يعزز هذا الطرح أن مسودة الدستور الجزائري تعزز من صلاحيات الرئيس وليس العكس، الذي يحتكر صناعة القرار السياسي، ولا يترك للحكومة أي مجال للخوض في القضايا الاستراتيجية، اللهم ما يتعلق بالأمور التدبيرية الجارية، فهو رئيس دولة بكل الصلاحيات، والقائد الأعلى للجيش، ورئيس المجلس الأعلى للقضاء، وهو من يعين رئيس الحكومة والوزراء ويقيلهم إن شاء، ويعين الثلث في البرلمان. إن رئيسا للجزائر بكل هذه الصلاحيات، وفوق ذلك كله يحمل عقيدة سياسية معادية للمغرب، يمكنه أن يكون سببا في مزيد من الصراعات بين البلدين الجارين، لكن من المستبعد جدا أن يكون سببا في أي مصالحة، تنهي العلاقات المتشنجة بين الدولتين، وتفتح الآفاق أمام الشعوب المغاربية في الديمقراطية والتنمية.