في سياق النقاش غير المسبوق من نوعه بين مؤسسي ورواد تجربة الصحافة المستقلة التي برزت قبل عشرين عاما متمثلة، أساسا، في تجربتي “الصحيفة” و”لوجورنال”، تنشر “أخبار اليوم” النص الكامل للرد الذي خصّها به الزميل أنس مزور، تعليقا على الحوار الذي خصنا به الزميل أبو بكر الجامعي، وما تلاه من ردود وتعقيبات. وتظل «أخبار اليوم» منفتحة على آراء ومساهمات جميع الزملاء المعنيين بهذه التجربة، إيمانا منها بحق الجمهور في معرفة تفاصيل وحيثيات ما جرى، بكل حيادية ونزاهة ومسؤولية. ⊗ أنس مزور وجدت في الاستجواب الذي نشرته جريدة “أخبار اليوم” مع مدير نشر أسبوعيتي “لوجورنال” و”الصحيفة”، أبوبكر الجامعي، يوم 9 ماي 2020، وما تلته من ردود، سواء ما نشر منها بنفس الجريدة أو ما جرى نشره وتداوله بوسائط أخرى، فرصة للدعوة إلى الشروع في توثيق وتأريخ ذاكرة تجربة لها أهمية في فهم مسار الصحافة المغربية، وتفاعلها مع صناع القرار والرأي العام، في العقود الأخيرة. وهي في الوقت عينه فرصة لتقديم شهادة أحد “أبناء الدار”، وبعض الأسئلة التي يمكن لها أن تساعد باقي الزملاء والمؤرخين في كتابة هذا التاريخ المشترك. وكما يقول أهل الاختصاص، فإن استعمل التاريخ لأغراض سياسية أو حزبية أو عقائدية يسمى التاريخ الإيديولوجيا، وإن استعمل من طرف السلطة سمي تاريخا رسميا، أما إذا استعمل لأغراض الهوية، فيسمى التاريخ الذاكرة. وهذا الصنف الأخير هو الذي أدعو إليه بكل تجرد وموضوعية، لإدراج الظاهرة في سياقها التطوري، لنوثق ونؤرخ لهويتنا كصحافيين. وقبل الشروع في تقديم شهادتي وبعض الأسئلة، التي تخص عملي بمؤسسة “ميديا تروست” التي كانت تصدر “لوجورنال” و”الصحيفة”، منذ صيف سنة 1998 إلى صيف 2001 حين قدمنا استقالة جماعية من المؤسسة، أود أن أعبر عن موقفي بوضوح بخصوص اختيارات مدير النشر أبوبكر الجامعي، ورئيس تحرير “الصحيفة” نور الدين مفتاح، رفعا لكل لبس. فأنا أعتبر أن كل واحد منهما يتحلى بروح وطنية عالية، وكل واحد قدم الكثير للمهنة ولبلده وفق اختياراته وفهمه لدور الصحافي. وأتأسف كثيرا حين لا يستطيع الزملاء أن يعذروا بعضهم حين يجد كل واحد ما يعتبره الآخر صوابا، أنه خطأ. أعبر كذلك عن تقديري لمجهودات جميع الزملاء ب”الصحيفة” و”لوجورنال”، الذين سعوا إلى القيام بواجبهم كصحافيين بمهنية عالية، بغض النظر عن اختلاف مرجعياتنا ومقارباتنا لدورنا كصحافيين. وكما يقول الفيلسوف اليوناني: “من الاختلاف يأتي أجمل ائتلاف”.. فنحن كفريق صحافي اشتغل بمؤسسة “ميديا تروست”، قبل أن تتفرق بنا السبل، لسبب أو آخر، كنا نشكل جميعا تحت قيادة إدارة النشر ورئاسة التحرير فريق عمل يختلف أعضاؤه على مستوى الأفكار والمرجعيات والاختيارات.. وكان اختلافنا وتنوع مقارباتنا يصنع الائتلاف الجميل، الذي نال إعجاب وتقدير واحترام عشرات الآلاف من القراء، واهتمام مختلف المؤسسات والتنظيمات المتابعة والمهتمة بتدبير الشأن العام ببلادنا. هذه التجربة بما لها وما عليها، أرى أنها تستحق التوثيق بشكل يقربنا من حقيقتها.. انطلاقا من كونها تجربة أصبحت ملكا للجميع ارتباطا بما صنعته من تأثير في الأحداث وفي صانعي القرار والمساهمين في تدبير الشأن العام.. وأرى أنه من المفيد لنا جميعا أن يتم تجميع كل الروايات والمعطيات التي ارتبطت بالتجربة لنتمكن كمهنيين وكفاعلين ومهتمين استخلاص العبر من تاريخنا القريب، بما يساعدنا على تدبير حاضرنا ومستقبلنا بشكل أنسب. كما أود إثارة الانتباه إلى أمر أجده مهما، يرتبط بنسبية الحقيقة، وبتعدد فهمنا وإدراكنا لكل فعل وحدث. وأول ما أبدأ به لإغناء الروايات التي قدمها الحوار والردود التي أعقبته بخصوص الاستقالة الجماعية، التأكيد على كون قرار مغادرة “ميديا تروست” بالنسبة إلى هيئة تحرير أسبوعية “الصحيفة” صيف 2001، لم يرتبط بقرار لرئيس التحرير، نور الدين مفتاح، وهو بالمناسبة أستاذي بمعهد الصحافة، ومديري لعشر سنوات، وإنما هو قرار جماعي تناقشنا فيه جميعا كأعضاء هيئة تحرير الأسبوعية ومتعاونين، بمن فيهم الزميل عبدالعزيز كوكاس، والذي تراجع عن قرار تقديم الاستقالة الجماعية دون علمنا في آخر لحظة وفق ما كان يؤكده لنا خلال جميع الاجتماعات التي حضر فيها معنا. وقبل أن نشرع في حوار جماعي بيننا بخصوص قرار الاستقالة الجماعية وإعمال بند الضمير، كنت شخصيا قد تقدمت بطلب استقالة من المؤسسة قبل صيف 2001 بأسابيع، ورفضها رئيس تحرير الصحيفة، وطلب مني التريث إلى أن نناقش الأمر لاحقا، ليكشف لي أن هناك تفكيرا في مغادرته السفينة كذلك، وقد يغادرها زملاء آخرون.. قبل أن أقدم طلب استقالتي، كنت أجد نفسي أقرب صحافي من فريق أسبوعية “الصحيفة” إلى أبوبكر الجامعي.. فكثيرا ما كنت أحظى بجلسات مطولة معه بمكتبه، نتحدث في تفاصيل بعض المواضيع التي كنت أشتغل عليها، وحين يزور المؤسسة صحافيون أجانب كان في كل مرة يقدمني أمامهم كصحافي متخصص في الإسلاميين، وازداد قربي منه أكثر حين دخل في إضراب عن الطعام بمقر المؤسسة بعد منع إصدار الأسبوعيتين نهاية سنة 2000، وعبرت عن قراري الالتحاق بالإضراب في رسالة أوصلتها له وهو يجيب عن أسئلة الصحافيين بندوة نظمت بمقر “ميديا تروست”. ولأضع القراء والمهتمين في السياق الذي يمكن أن نفهم فيه كل ما حدث، يجب أن أذكر بأن علاقة مدير نشر لوجورنال والصحيفة بمتخذي القرار بأعلى هرم الدولة، لم تكن متشنجة منذ البداية. فالسنوات الأولى من مسار “ميديا تروست” كانت تعرف وضعا مريحا على مستوى التواصل، يطبعه التعاون على مستوى تبادل الآراء، وهي مرحلة عرفت، كذلك، وضعا ماديا مريحا للمؤسسة، بالنظر إلى عدد الإعلانات التي كانت تُنشر (خاصة بأسبوعية لوجورنال). وإلى حدود سنة 2000 حدث في أكثر من مرة أن أطرق باب مدير النشر وأفتحه فأجده يتحدث عبر الهاتف، لكن قبل أن أغادر يشير بيده لأجلس.. ويكون الشخص الذي يرفع السماعة الثانية هو فؤاد عالي الهمة. وكما تعلمون، فإن تأسيس “لوجورنال” شهر نونبر 1997 تزامن مع تداول مرض الملك الحسن الثاني، رحمه الله، بشكل واسع وبداية الحديث عن تحضير مرحلة انتقال الملك إلى ولي عهده.. وهي الفترة عينها التي عرفت الانتخابات التشريعية للسنة ذاتها وتشكيل “حكومة التناوب” بقيادة المعارض السابق عبدالرحمان اليوسفي (الاتحاد الاشتراكي). وبعد مرور سنة من تأسيس لوجورنال أصدرت “ميديا تروست” أسبوعية “الصحيفة”، وتزامن انطلاقها مع تعيين فؤاد عالي الهمة مديرا لديوان ولي العهد. وكما كان يشرح أبو بكر الجامعي دائما، فإن رهانه على الاستثمار في الصحافة المستقلة وإدارة نشر الأسبوعيتين، ارتبط بثقته بحدوث انفتاح سياسي بالمغرب يمكن أن يؤدي إلى الديمقراطية. وهو ما يقوله بالحرف في الاستجواب الأخير مع “أخبار اليوم”: “الحسن الثاني لم يكن ديمقراطيا، لكنه كان إنسانا ذكيا، وفهم أن استمرار الملكية يقتضي انفتاحا سياسيا، وهناك فرق بين الانفتاح السياسي والديمقراطية، وكنت أقول لفاضل (الراحل فاضل العراقي هو رجل الأعمال الذي ساهم بأكبر نسبة من رأسمال ميديا تروست بعد فترة من تأسيسها) إن رهاني هو أنه حينما يصير هناك انفتاح سياسي، ربما ستنشأ حركية تنفلت من بين أيدي الملكية، وتؤدي بنا إلى الديمقراطية”. وبالموازاة مع هذه القناعة والرهان، كان والد أبوبكر (خالد الجامعي) رئيس تحرير جريدة لوبنيون وقتها، قد دخل في علاقة استشارة مع فؤاد عالي الهمة مدير ديوان ولي العهد، بطلب من هذا الأخير، حول تصوراته لمرحلة ما بعد الحسن الثاني. وأصبحت الآراء/ الاستشارات التي يقدمها خالد الجامعي للهمة، والمحادثات التي تجمع المسؤول ذاته بمدير نشر “لوجورنال” و”الصحيفة” ذات أهمية أكبر، بعد وفاة الملك الراحل، وجلوس الملك محمد السادس على العرش، وتعيينه للهمة كاتبا للدولة في الداخلية. وطوال الفترة الأولى التي لم تعرف أي تشنجات في العلاقة بين الجامعي والهمة، كانت “لوجورنال” و”الصحيفة” بمثابة كاسحة ألغام تفجر على أغلفتها مواضيع كانت تعتبر من الطابوهات، وكان وزير الداخلية القوي إدريس البصري ينال الانتقاد بشكل لم يكن معهودا في الصحافة المغربية. وبحسب ما عشته من داخل التجربة، وأتحدث بشكل خاص عن عملنا بأسبوعية “الصحيفة”، بحكم أني كنت أحضر جميع اجتماعات هيئة التحرير وأحضر أثناء عملية إقفال الجريدة قبل إرسالها إلى المطبعة، لم تكن هناك أي إملاءات لا في المواضيع ولا في زاوية معالجتها.. وهو الوضع عينه الذي كانت تعرفه “لوجورنال” بحسب ما يصلني من معطيات. لم يكن هناك اصطدام في البداية، لأن الحسن الثاني رحمه الله كان يرغب في تحقيق انفتاح سياسي يساعد على انتقال سلس للحكم.. وبعد ذلك، كان أصحاب القرار الجدد من محيط الملك محمد السادس، حريصون على توسيع هامش الانفتاح السياسي، والتأسيس لصفحة جديدة تدشن لعهد جديد. كانت بلادنا تعرف أوراشا كبرى لتجسيد هذا الانتقال، سواء فيما ارتبط بعمل هيئة الإنصاف والمصالحة والتحضير لتقرير الخمسينية، أو في التحضير لمقاربة جديدة لتدبير ملف الصحراء، وفي مراجعة السياسة الاستثمارية للشركات الملكية أو الشركات المقربة من القصر.. وهو ما شكل هوامش كبيرة لحرية الصحافة في نقل الأخبار والأحداث وتحليلها واستقصاء ما كان غائبا من حقائق ومعطيات. قرب خالد الجامعي من صناعة القرار بخصوص بعض الملفات كان يتيح للمؤسسة الحصول على بعض الأخبار الحصرية، أو على الأقل معرفة التوجه العام للتحضير لبعض القرارات، لكن زاوية معالجة الموضوع وتعاطي صحافيي “لوجورنال” والصحيفة معه، كانت تتم باستقلالية تامة، وهو ما كان يصنع تراكمات من سوء الفهم مع أصحاب القرار.. فكثيرا ما جرت رياح النشر بالأسبوعيتين بما لا تشتهي سفن المسؤولين. وكان من بين هذه الملفات التي اشتغلت عليها كصحافي، قضية حصار الشيخ عبدالسلام ياسين، رحمه الله… ففي أكثر من مناسبة كان يطلب مني خالد الجامعي بعض التفاصيل عن جماعة العدل والإحسان، وحين تم اتخاذ القرار بخصوص رفع الحصار عن المرشد العام لجماعة العدل والإحسان، تم بتنسيق مع الجامعي منح فرصة استجواب وزير الداخلية وقتها، أحمد الميداوي، بشكل حصري لأسبوعية الصحيفة، ولوموند. وكنت أجريت الاستجواب مع الوزير إلى جانب رئيس التحرير نورالدين مفتاح.. حين علمت بخبر القرار وموعد الاستجواب كنت بمدينة طنجة في عطلة قصيرة، فاتفقت مع رئيس التحرير أن أتوجه مباشرة إلى بيت عبدالسلام ياسين لنتأكد من صحة القرار وكيفية تنزيله على أرض الواقع.. وكلف مصور المؤسسة الزميل كريم السلماوي الالتحاق بي بسلا. حين وصلت إلى مشارف بيت الشيخ ياسين جرى منعي من طرف الشرطة بلباس مدني.. فتأكدنا من استمرار الحصار. بعدها مباشرة التحقت مع الزميل السلماوي بالرباط لنرافق مفتاح إلى مكتب وزير الداخلية. بدأنا الاستجواب، وكان الميداوي قد تجاهل سؤالا طرحته عليه، فأعدت طرحه بصيغة ثانية، الأمر الذي أثار غضبه، ووقف بمكانه معلنا نهاية اللقاء، قبل أن يتدخل مفتاح بلباقته ليقنع الوزير بإكمال الاستجواب.. وقبل أن نغادر مكتبه قال لنا أوصيكم بالوطنية، فأجبناه أننا جميعا وطنيون، وكل واحد يمارس وطنيته بما يفرضه عليه موقعه وضميره.. عدت مباشرة بصحبة السلماوي إلى بيت الشيخ ياسين، ووجدت الشرطة مستمرة في حصار البيت، فقلت لهم إذا كان وزير الداخلية قد أكد لي قبل قليل أن عبدالسلام ياسين حر في البقاء ببيته أو مغادرته متى شاء، فمن المسؤول عن وجودكم هنا إلى الآن؟ فاتصل أحدهم عبر الهاتف، وأشار بيده للسماح لي بالاقتراب من البيت قبل أن ينسحب مع زميله. هنا كان لي الشرف أن أكون أول من التقى بالشيخ رحمه الله بحديقة بيته، لكنه اعتذر عن الإدلاء بأي تصريح وأخبرني بأن الجماعة قررت ألا يدلي بأي تصريح إلى أن يعقد ندوة صحافية. أحكي هنا قصة هذا الاستجواب الذي ارتبط بقرار رفع الحصار عن شيخ العدل والإحسان، لأشرح كيف أن توصلنا بخبر رفع الحصار بفضل علاقات شخصية للمؤسسة مع مسؤولين بالدولة لم تتعارض مع حفاظ هيئة تحرير الصحيفة على استقلاليتها التامة والمطلقة في اختيار أسئلة الاستجواب و في زاوية المعالجة للموضوع وفي إنجازه ميدانيا. حبنا للوطن، كان يفرض علينا القيام بواجبنا كصحافيين ونحن نحترم بصرامة أخلاقيات المهنة، وسعينا إلى استقصاء حقيقة كل موضوع نقتنع بأهمية الخوض فيه.. لكن السعي إلى القيام بواجبنا المهني لم يكن بالضرورة محل اتفاق تام بيننا في تفاصيله. بعد مدة قصيرة من قرار رفع الحصار عن ياسين، بدأت أفهم أن علاقة أبو بكر الجامعي بالهمة لم تعد كما كانت، وأسمع منه انتقادات لاذعة لطريقة تدبير المسؤولين للشأن العام ببلادنا. ما هي نقطة أو نقاط الخلاف بالضبط التي حدثت بين الصديقين؟ وهل للأمر ارتباط بانقطاع العلاقة الاستشارية بين خالد الجامعي وبين الهمة؟ الجواب عن هذه الأسئلة سيكون مفيدا لفهم الأسباب الحقيقية التي جعلت العلاقة بين الطرفين تدخل إلى مساحة التوتر. حدود المهنية وأخلاقياتها كما أومن بها، هي أن يبتعد الصحافي عن تصفية الحسابات مع خصومه أو الذين تربطه بهم مشاكل من خلال النشر… وهي أن تتوقف مهمتي في البحث عن الأخبار والمعطيات وإنجاز التحقيقات والتحليلات ونشرها، لأفسح المجال لباقي الفاعلين للقيام بدورهم. شيئا فشيئا بدأت أشعر أن رؤية أبو بكر الجامعي للأمر مختلفة.. أتذكر أنه بعدما دخلت “لوجورنال” في مشاكل مع محمد بنعيسى، السفير المغربي بواشنطن ووزير الخارجية لاحقا، طلب مني مدير النشر بحكم أن عائلتي موجودة بطنجة أن أبحث عن أخطاء تدبير بنعيسى لبلدية أصيلة.. لكني رفضت مع نفسي القيام بعمل أحدد له زاوية المعالجة تقتضي البحث عن هفوات لمسؤول.. فقط، لأن المؤسسة لديها مشاكل معه.. لم يسألني مديري عن الموضوع مرة أخرى، لكن مع نفسي كنت أقول إذا صادف الصحافي اختلالات في تدبير أحد المسؤولين لمؤسسة يشرف عليها، أو حدث مستجد في أخبار تدبير المؤسسة.. أو توصلنا بشكاية طرف… طبعا سأشتغل على الموضوع.. لكن أن أذهب إلى مدينة أخرى وأبحث عن هفوات مسؤول في تدبير مؤسسة ما.. وجدت الأمر لا يناسب فهمي لواجبي المهني. أتذكر، كذلك، حين قدّم أحد الصحافيين الشباب استقالته من “لوجورنال” بعدما توصل بعرض عمل بإدارة مراقبة التراب الوطني (الديستي) من طرف الجنرال حميدو العنيكري.. استشاط مدير النشر غضبا، واعتبر الأمر طعنة من الخلف، فاستغربت الأمر، خاصة وأن الصحافي بالنسبة إليّ كان نزيها حين أخبر بحقيقة مغادرته، وله كامل الحرية في اختياراته المهنية. الوطن يحتاج إلى جميع المهن والمهمات التي تكفل الاستقرار والسير العادي لمؤسسات الدولة، لكن عموما لم أتناقش مع مديري بخصوص هذه النقطة كذلك. ربما إذا كنا تناقشنا في عدد من الأمور التي اختلفت معه فيها، قد تتوضح الأمور أكثر ويغير أحدنا موقفه، لكن مع الأسف لم أبادر ولا مرة واحدة في التعبير عن اختلافي معه في التقدير أو الموقف، بما في ذلك قرار استقالتي الفردية، فقد كنت اكتفيت بتسليم الطلب لرئيس التحرير وتناقشت معه فقط، وحتى عندما قدمنا الاستقالة الجماعية، اتصل بي أبو بكر الجامعي وقال لي إن الجنرال العنيكري هو من يقف وراء استقالة مفتاح، فأجبته أن القرار هو قرار جماعي وهناك أسباب أخرى، وعبرت عن استعداد للقاء به والحديث في الموضوع، لكن مع الأسف لم يجدد الاتصال بي لنلتقي حينها. أما السبب الذي جعلني أقدم طلب استقالتي الفردية، فكان سببه هو ما حدث عندما طلب مني فاضل العراقي، رحمه الله، وأبو بكر الجامعي مرافقتهما إلى المركز الاجتماعي بعين عتيق (جنوبالرباط) بعد صدور عدد “الصحيفة” خصصنا غلافه للإضراب عن الطعام الذي خاضه عدد من المعطلين من أصحاب الإعاقة الحركية. طلب مني مرافقتهم بحكم أني كنت من أنجز التقرير عن الموضوع. تشكل وفد من مدير النشر أبوبكر الجامعي، ووالده خالد الجامعي، والحجوجي، الرئيس السابق للاتحاد العام لمقاولات المغرب، ورئيس حزب القوات المواطنة، وحين التقينا بالمضربين، فهمت أن سبب الزيارة هو إقناعهم بتوقيف إضرابهم، وأن الحكومة إذا فشلت في توظيفهم وتعريض حياتهم للخطر، فإن القطاع الخاص سيتكلف بتوظيفهم. كانت هذه الزيارة بالنسبة إليّ صدمة كبيرة، فرغم بعدها الإنساني المرتبط بإنقاذ حياة عدد من الشباب، لم أتقبل أن يكون دور الصحافي يتجاوز النشر إلى القيام بفعل سياسي إلى جانب رئيس حزب سياسي.. طبعا، حين بدأنا مناقشة إمكانية تقديم استقالة جماعية من مؤسسة “ميديا تروست”، لم تكن حادثة زيارة المضربين عن الطعام هي السبب الوحيد الذي جرى تداوله بين أعضاء هيئة التحرير، فقد تحدثنا عن تفاصيل أخرى، سيكون مفيدا أن يتم شرحها بعد نشر نص الاستقالة الجماعية، كما أشار إلى ذلك نورالدين مفتاح، رئيس تحرير الصحيفة. أما بخصوص علاقة الأمير مولاي هشام بقرار الاستقالة الجماعية أو بتمويل أسبوعية “الأيام”، التي أسسها الفريق ذاته الذي غادر “ميديا تروست”، فالذي أتذكره هو أن أبو بكر الجامعي كان يخبرني كل مرة بأن الأمير حين يتحدث معه عبر الهاتف يعبر له عن إعجابه بعمل فريق الصحيفة أكثر مما يقوم به فريق “لوجورنال”. وبالمناسبة، فقد كنت حريصا على عدم الحديث مع الأمير، مثلما كنت حريصا على عدم نسج علاقة مع فاعلين سياسيين آخرين كان يرتبط بهم بعض الزملاء بهيئة التحرير، حتى لا يكون هناك تأثير لهؤلاء على الخط التحريري للجريدة. وحين جرى الاتفاق على قرار الاستقالة الجماعية، كان مفتاح قد أخبر الزميل حسين المجدوبي المتعاون مع الصحيفة من إسبانيا، وبحكم أنه صديق مقرب من الأمير فقد عرف من خلاله مولاي هشام بأننا سنغادر “ميديا تروست”، فقدم عرضا بتمويل الجريدة الجديدة، لكن هيئة تحرير الصحيفة رفضت بالإجماع العرض، على اعتبار أن الدافع الأساسي لمغادرتنا “ميديا تروست” هو الحفاظ على استقلاليتنا، والحفاظ على المسافة عينِها بين جميع الفاعلين السياسيين. وكنا ندرك بطبيعة الحال أن للأمير أجندته السياسية، ولا يمكن أن نقبل بأن يجري توظيف عملنا ضمن أي أجندة سياسية. جميع النقاشات التي سبقت قرار الاستقالة الجماعية، حضرها عبدالعزيز كوكاس، الذي كان في وضع متعاون بسبب أنه رجل تعليم، ولا يمكنه الحصول على البطاقة المهنية وعضوية هيئة تحرير الصحيفة رسميا، لكن على مستوى الممارسة، فقد كان يقوم بدوره كباقي الزملاء أعضاء هيئة التحرير. وأتذكر أنه في آخر اجتماع عقدناه ببيت مفتاح، أخبرنا أنه بوسع أي شخص غيّر رأيه ووجد أنه غير مقتنع بخطوة الاستقالة الجماعية التعبير عن موقفه، ويحتفظ بعلاقة ودية معه. هنا قال لنا كوكاس بالحرف: “إذا لم أكن مقتنعا بقرار الاستقالة وأحضر معكم، سأكون خائنا أتجسس عليكم.” وفي يوم الاجتماع الذي قدمنا فيه الاستقالة الجماعية لم يحضر كوكاس. وبعد ذلك علمت أنه جاء لمقر “ميديا تروست” ليشرف على إعداد عدد الصيف للصحيفة، ويصبح رئيس تحريرها الجديد. هل كان يعلم أبو بكر الجامعي بما قاله كوكاس عن نفسه؟ وهل فعلا كان يتجسس علينا؟ ولفائدة أي جهة؟ أم كان صادقا في موافقته على قرار الاستقالة الجماعية وحيثياتها وتراجع في آخر لحظة بعد توصله بعرض مغر؟ ولم يكن الجامعي أي علم بتفاصيل ما جرى بيننا وبين كوكاس؟ القناعة الراسخة عندي، هي أننا جميعا كصحافيين صنعوا هذه التجربة، كنا نبذل قصارى جهدنا للاشتغال بمهنية عالية من أجل مصلحة الوطن. وأن كثيرا من الصدامات بين الصحافيين وبين من يحكمون البلد كان بالإمكان تجنبها لو فهم الجميع جيدا أن الوطنية يتغير مدلولها من موقع لآخر، وأنه لا يمكن لبلد أن يتطور فيه الانفتاح السياسي بدون الحفاظ على صحافة مستقلة. وختاما، أدعو جميع من ساهم في صنع تجربتنا المشتركة السعي إلى تقديم روايته وشهادته بما يسمح بمعرفة أكبر قدر من الحقيقة.