لقد حاول محمد شحرور أن يقدم مساهمة علمية جديدة في نقد النص الديني، وتسليط الضوء على القرآن الكريم، انطلاقا من رؤية جديدة أساسها اللغة العربية، على اعتبار أن النص القرآني هو نص لغوي أساسا. هذه هي الفكرة الجوهرية في نقد الدكتور إدريس الكنبوري نظريات شحرور. وهو يرى أن هذا المفكر المشرقي نظر إلى المفسرين القدامى، ووجد أنهم لم ينجحوا في الاقتراب من النص القرآني بسبب تخلف العلوم في عصرهم، وعدم انفتاحهم على العالم، لذلك، نظروا إلى القرآن نظرة شمولية منبهرين بنظرية الإعجاز البلاغي التي سدت في وجوههم جميع الأبواب إلى النص، وتجاوز حالة الانبهار التي استمرت عدة قرون. يخلص الكنبوري إن المساهمة الكبرى لشحرور هي تفكيك النص القرآني إلى عناصره المختلفة، بدل النظر إليه ككتلة واحدة كما فعل السابقون، حيث ميز بين القرآن والكتاب وأم الكتاب والسبع المثاني وتفصيل الكتاب، فأصبحنا أمام نظرة معاصرة غير مسبوقة تجمع بين التراث والحداثة. في هذه الحلقات، تطوير لهذه المناقشة، ودعوة أيضا إلى النقاش. ييروي محمد شحرور، في كتابه: «الكتاب والقرآن: قراءة جديدة»، قصته مع الكتاب فيقول إنه التقى في عام 1980 الدكتور جعفر دك الباب، الذي كان قد حصل على الدكتوراه في اللسانيات من جامعة موسكو، فيما كان شحرور نفسه يدرس الهندسة المدنية في المدينة نفسها. وخلال الحديث بينهما، لاحظ دك الباب اهتمام شحرور «بأمور اللغة والفلسفة وفهم القرآن»، فأطلعه على «منطلق أطروحته» التي خصصها لنظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني، ثم يعلق قائلا: «فعند ذلك الوقت أدركت أن الألفاظ خدم المعاني، وأن اللسان العربي لسان لا يوجد فيه ترادف، وأن المترادفات ليست أكثر من خدعة، وأن البنية النحوية يرتبط بها خبر بلاغي بالضرورة» (ص 47). وهذا هو المنطلق الذي انطلق منه شحرور في كتابه الأول، ثم في كتبه اللاحقة، أي نفي الترادف في القرآن الكريم، وبالتالي، في اللغة العربية. بيد أن الملاحظ أن الرجل انطلق منذ البداية من فكرة وجود «مؤامرة» عند اللغويين والنحاة، عندما قال إن الترادف ليس أكثر من «خدعة». وربما كان هذا طبيعيا بالنسبة إلى شحرور الذي كان متأثرا بالفكر الماركسي خلال مدة دراسته في الاتحاد السوفياتي، وبفكرة أن للسلطة دورا في كل شيء طوال التاريخ، بما في ذلك التفسير والفقه، لأن هذه كلها تندرج ضمن خانة الإيديولوجيا، التي هي بدورها مجرد انعكاس للبنية التحتية، أي الواقع الاجتماعي والشروط الاقتصادية الموضوعية. يتضح ذلك من هجومه على جميع التفاسير والمفسرين في التاريخ العربي-الإسلامي، وهذا ما أشار إليه بقوله: «وانتهيت إلى هذه النقطة الخطيرة (!) والقاتلة للبحث العلمي الجاد، وهي أنه لا يمكن إنسانا أن يقفز قفزة أساسية نوعية في المعرفة والبحث إلا إذا اخترق المدارس الموروثة وخرج عنها، وحرر نفسه من إطار هذه المدارس» (ص46)، غير أن التمحيص يكشف لنا أن المؤلف لم يستوعب أيا من المدارس السابقة التي يتحدث عنها، بل يتبنى منهجا ترقيعيا انطباعيا ويريد الانطلاق من الصفر، كل ما معه من العلوم والمعارف أن الترادف غير موجود في القرآن، وأن البنية النحوية «يرتبط بها خبر بلاغي بالضرورة». وقبل التوقف عند مسألة الترادف، نشير إلى أن تعبير «خبر بلاغي» ليس له أي معنى على الإطلاق، ولعله أراد القول: «خبر تبليغي» أو إبلاغي، من الإبلاغ، أما الجمع بين الخبر والبلاغة فهو خارج السياق. وهذا ما يدل على أن المؤلف لم يكلف نفسه عناء البحث في كتب اللغة، بل اكتفى بقاموس ابن فارس ونسخة من القرآن وجعل يؤلف من دماغه. وهو إن كان قد أشار إلى الجرجاني، فإن الجرجاني يتحدث عن علاقة النحو بالمعنى، حيث أفرد فصلا تحت عنوان: «عدم تعلق الفكر بمعاني الكلم مجردة من معاني النحو» في كتابه «دلائل الإعجاز»، وليس ب«الخبر البلاغي». وفكرة الجرجاني هذه ترتبط بنظريته الشهيرة حول النظم، والتي يرى فيها أن الكلمة الواحدة ليست لها قيمة أو «شرف» في ذاتها، بل تأخذ قيمتها من السياق الذي توضع فيه. أما قضية الترادف اللغوي، فقد أثارت منذ القديم جدلا بين اللغويين والمفسرين، ومرجع الخلاف بينهم يعود إلى أمرين أساسيين؛ الأمر الأول أن المدافعين عن الترادف كانوا ينطلقون من الدفاع عن اللغة العربية باعتبارها أشرف اللغات لأنها لغة القرآن الكريم، فرأوا في الترادف دلالة على الثراء والغنى اللذين تتميز بهما العربية مقابل اللغات الأخرى، لأن الترادف معناه كثرة الكلمات والمفردات وتنوع الدلالات، فكان بعض علماء العربية يتباهى بأنه جمع للأسد مثلا مائة اسم، وللسيف ألفا، وهكذا، وينسب إلى الفيروز أبادي، وهو لغوي معروف، كتاب تحت عنوان: «الروض المسلوف فيما له اسمان إلى ألوف». أما الأمر الثاني فهو أن رافضي الترادف كانوا ينطلقون من الدفاع عن الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم، لا عن العربية كما فعل الفريق الأول، حيث انطلقوا من أن الإعجاز معناه أن كل كلمة في القرآن تعني شيئا في حد ذاته ولا تعني شيئا آخر، إذ كلما عُوِّضت بمرادف لها تغير المعنى. ونحن لو دققنا النظر لوجدنا أن ما من مسألة، في اللغة أو في غير اللغة، إلا ودار حولها الجدل والنقاش بين الرافضين والمؤيدين في الثقافة العربية-الإسلامية، لكن الذي ينتصر دائما هو الموقف الوسط الذي يقف في صف الاعتدال ويرفض التحجر. وقد كان هناك موقف وسط في قضية الترادف هو الأقرب إلى الصواب وإلى الحقيقة التاريخية، فقال أصحاب هذا الرأي إن الترادف يمكن أن يكون ممنوعا داخل اللغة الواحدة لكنه جائز بين لغتين، كما ذكر السيوطي في «المزهر»، وذهب بعضهم إلى أن الترادف في العربية قليل، وما يبدو مترادفا هو مجرد قرب في المعنى لا مطابقة تامة، لذلك قال الزركشي: «فعلى المفسر مراعاة الاستعمالات، والقطع بعدم الترادف ما أمكن، فإن للتركيب معنى غير معنى الإفراد». واستدل اللغويون عن وجود الترادف في القرآن بآيات كثيرة منها مثلا: «وأقسموا بالله جهد أيمانهم»، وقوله تعالى: «يحلفون بالله ما قالوا»، حيث وقع ترادف بين القسم والحلف؛ وكذلك قوله تعالى: «وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا»، وقوله تعالى أيضا: «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين»، حيث حصل ترادف بين البعث والإرسال.