“طفلاي هما كل همي اليوم؛ لا أريد أن يدفعا ثمن طيشنا وتهورنا؛ أما أنا فقد فقدت الأمل في أن أكون حرة فكرياوأمنيا“، هكذا علقت المغربية حميدة ( اسم مستعار)، واحدة من بين مئات زوجات وأرامل الجهاديين المغاربة العالقاتبين شمال سورياوتركيا، بعد اعتقال أو مقتل أزواجهن، تاركين وراءهن أطفالا أبرياء أيتام يعانون في صمت داخلخيم بلاستيكية صغيرة في مخيمات مكتظة تفتقر لأبسط ظروف العيش في عز فصل الشتاء والبرد. في البداية، ترددت في البوح للجريدة خوفا من أن تتعرف عليها قوات سوريا الديمقراطية التي تشرف على مخيمالاحتجاز الذي تقبع فيه منذ سنتين تقريبا، قبل أن تقرر كشف جزء من أسرارها، بعدما أكدنا لها أننا سنكونحريصين على حجب كل المعلومات التي قد توحي ل“قسد” أنها تواصلت مع وسيلة إعلام مغربية، خاصة وأن الهواتفوكل وسائل التواصل ممنوع في تلك المخيمات. في حالة نشر القصة “ستتم مداهمة الخيم للبحث عن الهواتف، وبماأن الصحافة المغربية هي التي ستتحدث عن الموضوع، فسيتم التركيز علينا في التفتيش. وضعنا هنا ليس مستقرا،والهواتف المحمولة ممنوعة علينا، لهذا أي معلومة ستؤدي بي إلى السجن عند هؤلاء“. تروي أنها سقطت أسيرة رفقةطفليها لدى الأكراد في 2017. هروب إلى الجحيم من خلال الاستماع إلى روايتها يَستشف الواحد أن ال1665 مغربيا، الذين خرجوا من المغرب صوب مختلف بؤرالتوتر، خاصة داعش في سوريا والعراق، خرجوا من النور إلى الظلمات، من الجنة إلى الجحيم. يتعلق الأمر بواحدةمن الأسرة المغربية التي استجابت لنداء الزعيم السابق القتيل أبو بكر البغدادي للالتحاق بما يسمى “دولة الخلاقة” عقب تأسيسها في في الموصل صيف 2014. كانت سافرت مع زوجها وطفليها من مدينة تطوان إلى طنجة، حيثاستقلوا القطار إلى مدينة الدارالبيضاء، ومن مطارها طاروا إلى تركيا أواخر دجنبر 2014. ويبدو أنهم لم يستطيعوا في البداية الدخول إلى سوريا، حيث اضطروا إلى السفر إلى إندونسيا، بعدها عادوا إلىتركيا، وعبر البوابة الحدودية “بتل أبيض” بمدينة أو “أورفة” التركية تمكنوا في المحاولة الثانية من الدخول دخلنا إلىسوريا. تجهل سبب تعريج زوجها على أندونسيا ، بينما ترجح أن يكون الأمر مرتبطا بتوجيهات منسق الرحلة. وفي يناير 2015 وصلوا إلى الرقة عاصمة داعش في سوريا حينها. عندما غادرت المغرب كانت تبلغ من العمر 28 عاما، وزوجها 33 سنة، بينما الطفلان لم يتما سن العاشرة. أخبرتنا أن زوجها مات قبل سنة متأثرا بجراحه نتيجةقصف طيران التحالف الدولي في ضواحي سوريا، بينما كانت هي معتقلة لدى الأتراك. كان من بين المغاربة الذينقرروا القتال إلى آخر رمق في صفوف داعش قبل سقوطه في مارس الماضي بمعركة الباغوز. وعلى عكس بعض المغاربة الذين التحقوا بالتنظيم، كان زوجها متعلما، “فهو حاصل على الإجازة بالتفوق في القانونالخاص، وبكالوريا حرة“، علاوة على دبلوم في التسيير الإداري والمعلوماتي من أحد معاهد تطوان. وكان متشبعابالفكر “المحافظ والعيب والحرام“. وكما هو حال آلاف المعطلين المغاربة، لم يتمكن من الحصول على وظيفة. “كانيشتغل مع والده في البداية بحرفة يدوية، رغم أنه كان يحلم بأن يكون معلما على الأقل“، تشرح حميدة. أما عنمسارها، فأوضحت قائلة: “لم أتمم دراساتي ولم أتخرج، لكنني حظيت بتعليم ابتدائي كاد فيه المعلم حقا أن يصبحرسولا“. وتابعت قائلة: “خرجت من المستوى الإعدادي، لكني لم أتوقف عن القراءة والمطالعة“. الوجه القبيح سألناها إن كانت أنجبت في “دولة الخلافة” المزعومة كما حدث مع العديد من المغربيات، فردت قائلة: “عند دخولناإلى مستنقع التنظيم ورؤية وجهه القبيح، قررنا أن لا ننجب الأطفال كي لا نتحمل ذنبا جديدا“. وفي نوع من جلدالذات والندم، تتأسف قائلة: “لم أكن أعرف قيمة بلدي ومجتمعه حتى ابتعدت عنه جدا. تجاوزت حالة الندم بدرجات،فأنا الآن شبه حية، لذلك أتجنب النظر إلى وجهي في المرآة“. تؤكد على خلال الدردشة أنها لم تكن متشبعة بالفكر الداعشي قط، بل عشق زوجها والسعي إلى تحسين ظروفالعيش قَادَها إلى مسايرته، اعتقادا منها بأنها ستحظى بالحرية ورغد العيش تحت حكم البغدادي. في النهايةاكتشفت أنها استُغِلت من قبل زوجها وداعش. “كلما كنت أحدثه (أي زوجها) عن وضعي الأمني، لكنه كان يخبرنيأن النساء، لا يتابعن ولا يحاسبن، وفي الأخير هو مات وحقق ما أراده، وأنا وُصِمت بأثقل تهمة في العالم (إرهابية)،وبقيت في وجه المدفع، لقد دمر حياتي ومستقبلي“. أكثر من ذلك تقول: “زوجي ضحك عليّ، كنت دمية في يده، وكذاداعش الذي خدعني بتسويق الوهم.”. ورغم الندم والمعاناة، لازالت تتذكر حبا أفلاطونيا دمرته داعش. حب موؤود تتذكر أنها التقت زوجها سنة 2006؛ كان يسكن الحي عينه الذي تقطنه بتطوان؛ كانت نظراتهما تتقاطع يوميا. “لمتكن بيننا أي علاقة، لأنه كان ملتزما جدا، بينما كنت تلك المراهقة المنفلتة من سطوة الأم المتسلطة والأب الحاضر/ الغائب“، تعلق. في إحدى المرات طلب منها رقم هاتفها ل“غرض نبيل“. ” بعدها قال لي أريد أن أراك بالجلباب المغربي وعليه خمار. هنا دق النبض في قلبي، إذ كانت المرة الأولى التي يهتم بها شخص لشأني ويبدي اهتماما بي“. واستطردت: “تعلقتُ به وما عدت أرى غيره أمامي، بدأت أرى فيه مخلصي ومنقذي من مستنقع أمي؛ توطدت علاقتنا، فأرادخطبتي، توجه إلى أبي فطلب منه الأخير دخول البيت من بابه مع أهله. وهكذا كان“. تلخص حياتها قبل السفر إلىداعش: “أردت الخروج من المستنقع، فوقعت في الجحيم“. يُستشف من كلامها أنها لم تكون تربطها علاقة جيدة بوالدتها، بحيث صورتها ك“متسلطة ومادية“، في المقابل،تصف علاقتها بوالدها ب“الطيبة“، زاعمة: “أنها كانت تعمد الإيقاع بيني وأبي كي يضربني ويعنفني“. لم تتواصلمع والدتها منذ سفرها إلى سوريا؛ في المقابل، تتواصل أحيانا مع والدها عبر هاتف أحد الأقارب. مصادر مقربة منبعض المغاربة المحتجزين في شمال سوريا، أسرت للجريدة أن هناك أسرا تتبرأ من أبنائها سواء الأحياء المحتجزينأو الأموات أو مجهولي المصير بعد التحاقهم بداعش؛ وفئة ثانية ترغب في عودتهم ظاهريا على الأقل. أما حميدةفتصنف نفسها في الفئة الثانية. “لكنهم لم يسعوا في الأمر ولم يتوجهوا لأي جهة مطالبينا بنا، وكلما حدثتهم بأنيطالبوا بالطفلين، يطلبون مني أنا المعتقلة أن أرشدهم وأدلهم إلى أين يتوجهون؟ وماذا يقولون؟ ولمن يتوجهون؟“،تتأسف. عبدالعزيز البقالي، المنسق العام للتنسيقية الوطنية لعائلات العالقين والمعتقلين المغاربة في سوريا والعراق، قالللجريدة إن بعض الأسرة المغربية تواصلت مع التنسيقية “تطالب باسترجاع أبنائها وبناتها وأطفالها الذين يعيشونفي ظروف مأساوية وغير إنسانية في المخيمات، بما في ذلك من يقبع منهم في السجون دون محاكمات عادلة، بلمنهم من أنهى مدة محكوميته ولم يتم إطلاق سراحه كالعديد من الحالات في السجون العراقية“، وأردف ” مطالببإعادة الشباب المغرر بهم والنساء والأطفال إلى وطنهم وإدماجهم في المجتمع“. وإذا كان بعض الجهاديين المغاربة التحق بصفوف داعش تيمنا وتشبعا منه بالفكر المتطرف الدموي الداعشي،تعترف حميدة أن أسرتها ذهبت ضحية الدعاية الداعشية القوية. “الإغراء كان قويا؛ حياة مجانية؛ من كانليرفض؟“، تعترف. وتصر على أنها لم تكن تعلم ما يدور في ذهن زوجها، باستثناء رغبته في الاستفادة منالإغراءات الداعشية. أما هيّ فتزعم أنها كانت “متشبعة بالفكر المتحرر من سطوة الأهل، وحتى الزوج“، وأسرت أنهاكانت طلبت من زوجها الطلاق 7 مرات قبل السفر إلى سوريا، لكن أهلها كانوا يرفضون ويهددونها بالتبرؤ منها فيحالة أقدمت على ذلك. وهل وجدوا تلك الوعود والإغراءات التي قدمها لهم داعش عندما وصولوا إلى سوريا؟ قالت إنهم كانوا يستفيدونمجانا من ” السكن والكهرباء والماء والتطبيب والهاتف الأرضي والسيارة وبنزينها وأثاث البيت الأساسي والتكميلي،علاوة على كفالة شهرية“، نظرا إلى أن زوجها كان يشتغل ك” إداري لوجستيكي“، بينما هي كانت ترعى الأطفال فيالبيت. وأسرت، كذلك، أن ” الامتيازات تختلف باختلاف المناصب“، لكن النخبة الداعشية هي التي كانت تستفيدمن تلك لامتيازات الكبيرة. هذه النخبة وفق العديد من المصادر والتقارير كانت من بينها قلقة قليلة من المغاربة، ويبقىالوجه البارز هو المغربية فتيحة المجاطي. تقول إنها ” أرادت أن تخرج من هناك كما دخلت، لكن الوضع بالداخل كانصعب جدا، وبالخارج أصعب“. لكن تلك الامتيازات كانت إغراءات البداية، بحيث مع بدء اشتداد ضغط التحالفالدولي على التنظيم وقطع خطوط الإمداد، بدأت تلك الامتيازات تتبخر إلى درجة أن التنظيم بدأ في الشهور الأخيرةقبل سقوطه من التخلص من النساء (ربات البيوت) بعد تحولهم إلى عالة عليه. بيانات مزورة من المعروف أن داعش يفرض على الملتحقين الجدد الحصول على تزكية من أحد أعضائها، وهي استراتيجية يعتمدهاالتنظيم للتحقق من هوية ونية الملتحقين الجدد وتجنب أي اختراق سواء من قبل الجماعات العدو أو الاستخباراتالعالمية؛ لكن حميدة تقول إنهم لم يعطوا التنظيم بياناتهم الحقيقية لحظة تسجيلهم. كما أنهم لم يصطحبوا معهم أيأوراق ثبوتية إلى الداخل السوري. ومع ذلك هناك مغاربة آخرون كانوا يتعاملون بأسمائهم الحقيقية. وفي إحدى المناسبات خرج زوجها لمدة شهر ولم يعد؛ وتباينت الأنباء بين من قال لها إنه هرب ومن قال إنه قتل. لهذاطلبت مما يسمى ب“مكتب الأسرى والشهداء” أن يسكنها في “بيت المضافة” الذي يحكى أن المغربية المجاطي هيمن كانت تشرف عليه، بحكم أنه لم يعد لها مصروف ولأن زوجها في عداد المفقودين ولا يمكنه صرف الكفالة لها. وتضيف أن داعش طردها بمعية طفليها من البيت الذي كانت تسكنه، بحجة أنه لا يمكنها البقاء بدون محرم. وبعدمارفض مأوى المضافة استقبالها، توجهت لما يسمى بمكتب الهجرة والجوازات لتسوية وضعيتها، والذي أحالها علىفرع آخر في بلدة “غرانيج” شرق “دير الزور“. بعدها انتقلت إلى البلدة المجاورة “هجين“، حيث شحنها داعش رفقة أخريات وأطفالهن من مختلف الجنسيات فيشاحنة، قيل لهن إنها متوجهة إلى مدينة “إدلب“. أخبرهن التنظيم أن الهدف من إرسالهن إلى “إدلب“، هو ضمانسلامتهم في ظل توتر الأوضاع. لكن حميدة تعتقد أن داعش كان يود التخلص منهن بعدما أصبحن عالة عليه، لأنالشاحنة لم تصل إلى “إدلب“، إذ أوقفها حاجز أمني ل“قسد“، قبل أن يتم اقتيادهن إلى سجن “الشدادي” نواحيالحسكة. لاحقا، رُحلن مع أطفالهن إلى مخيم “الهول” الذي يأوي ما يقارب 80 ألف امرأة وطفل. أما المخيم، الذيتوجد فيه اليوم، فقد لحقت به في دجنبر 2017. من جهة أخرى قالت إنها تعرفت على مغربيات في سوريا قبل سقوطالتنظيم، كما كانت توجد معها مغربيات في مخيم “الهول“. وفي هذا المخيم حميدة تعيش إلى جانب مغربياتوأطفالهن، لكن كل واحدة في خيمتها، علاوة على أوروبيات من أصول مغربية. حميدة تطالب من الحكومة المغاربة التعجيل بترحيلهن لأنهن يواجهن الموت في أي لحظة بسبب تحالف الأوضاعالأمنية المتوترة والبرد القارس والرياح الشديدة، وغياب بعض التخصصات الطبية. أخبرتنا حميدة أن أحد طفليهايحتاج إلى أخصائي في أحد الأمراض المزمنة، وهو الشيء غير المتوفر في المخيم. علاوة على غياب الأدوية،باستثناء “بعض مسكنات الألم، وإذا ما تطلبت الحالة العلاج فهو على حسابها الشخصي ونحن لا نملك المال، ولاتأتينا حوالات مالية من أهالينا كالأجانب“، تضيف حميدة. بالإضافة إلى أن الأطفال في المخيم لا يدرسون، كما أنهناك “نقصا حادا في التغذية، باستثناء بعض الأرز والعدس والحمص اليابس والسكر والزيت الذي توزعه الصليبالأحمر“. عبدالرحيم الغزالي، المتحدث باسم اللجنة المشتركة للدفاع عن المعتقلين الإسلاميين، أبرز للجريدة قائلا: “نحن فياللجنة سبق لنا أن أشدنا بتصريح الدولة المغربية في شخص عبد الحق الخيام القاضي باسترجاع هؤلاء النسوةوأطفالهن، ونحن إذ نثمن هذه الخطوة نؤكد على أن العوائل لا ذنب لهم في هذا الصراع كون هؤلاء النسوة التحقن أورافقن أزواجهن في إطار التجمع العائلي لا غير“. وتابع الغزالي “لذا، ندعو الدولة إلى تعجيل مسطرة إعادتهنبأقصى سرعة، نظرا إلى معاناتهن في وضعية غير إنسانية في مخيمات تفتقر لأبسط شروط العيش الكريم“. شكر وصرخة أمل كل التقارير والخبراء يتحدثون عن كون المتطرفين يستعملون حسابات مزيفة على وسائل التواصل الاجتماعي لمراوغةالأجهزة الأمنية ومحو أي أثر يمكن أن يقود إليهم، لكن زوج حميدة لم يكن من هذا الصنف، بل اختار له طريقةخاصة، والتي كان يعتبرها الأكثر أمنا وقدرة على المراوغة، وربما قد يكون نجح في ذلك، بما أنه استطاع الالتحاقبداعش انطلاقا من المغرب. هذه الطريقة تمثلت في استعمال هاتف زوجته، بينما هو كان يستعمل هاتفا عاديا. وفي هذا تقول حميدة: “الحقيقة هي أني استُغلت من قبل زوجي. إذ كان يدفعني للواجهة ويمرر أفكاره عبر حسابيبالفايسبوك. كنت أظن أنه أرادني أن أكون فاعلة ونشيطة. أخبرته ذات يوم بأني متخوفة جدا، لكنه كان يطمئننيويقول لي إن النساء لا يتابعن ولا يحاسبن. هؤلاء النسوة المحتجزات يتابعن كل شيء ينشر، لاسيما في المغرب، من شأنه أن يساعدهن على العودة أو يجعلهنيتشبثن بالأمل. إذ إن التصريحات الأخيرة لعبدالحق الخيام، مدير المكتب المركزي للأبحاث القضائية، لقيتاستحسانهن. وفي هذا الصدد قالت حميدة: “أشكره جزيل الشكر على تصريحه وموقفه من سفرنا؛ أنا مدينة له ماحييت“. وعما يمكن أن تقوم به لو عادت بها الحياة إلى الوراء، علقت: “كنت سأبلغ عن زوجي لعلني أحظى بحقي فيالطلاق. وما كنت ادخرت جهدا في تغيير حياتي إلى الأفضل“. وختمت مناشدة المسؤولين المغاربة: “أنقذوا أطفالي من الجهل كي لا يكونوا ألعوبة في يد أي كان في المستقبل. أريدأن أرى طفلي أداة بناء في المجتمع، لا مشروع قتل وسفك دماء أو متاجرة بالدين“.