ماذا يجب على كتاب الرواية السياسية أن يفعلوه كي يصبحوا أكثر إثارة للاهتمام؟ هذا الفن ليس سهلا، فهو يحمل رسالته في ذاته. رسالة ممتعة بقدر ما هي خطرة. في هذه السلسلة، يحاول الكاتب أن يؤسس لتصور حول مشروع للطريقة التي ينبغي أن تكون عليها الرواية السياسية. – المثقف الثوري المتمسك بالثورة: ثمة أمثلة كثيرة لهذا النمط في الرواية العربية، لذا سنكتفي بتحليل شخصية مثقفة ظهرت في رواية «الثلج يأتي من النافذة» لحنا مينة، هي شخصية «فياض» البطل. قدّم حنا مينة في رواية «الثلج يأتي من النافذة» نمطين للمثقف الثوري المتمسك بالثورة، أولهما تميز بالصمود والتصدي والمواجهة، ومثّله «خليل»، وثانيهما تميز بالهرب وعدم القدرة على الثبات، ومثّله «فياض» المثقف البرجوازي الصغير الذي لاحقته السلطة السياسية لأفكاره اليسارية، وألقت القبض عليه، وزجت به في السجن، حيث تعرض على أيدي الجلادين للتعذيب الشديد؛ «في كل ليلة أجر إلى التحقيق، وفي كل ليلة أجلد بالسياط، وحين يغمى علي، يسكب الماء البارد على جسدي، ينقعونه جيداً، كالجلد قبل وضعه على السندان، ينقعونه ويضربونه حتّى يتمزق، ويخرج اللحم مع السياط، ويتناثر على الجدران، فيحملونني في بطانية ويلقونني في الزنزانة، ويدي ليست يدي، ورجلي ليست رجلي. أصبح كتلة من لحم مقرح، مدمى، أزرق مشوه لا أحد يعرفني، ولا أكاد أعرف نفسي». لم يتوقف فياض عن مزاولة النشاط السياسي بعد خروجه من السجن، فلوحق واشتد الحصار عليه، وقرر الهرب إلى لبنان، لينجو من عيون السلطة المنتشرة في كل مكان، وليجرب النضال في بلد آخر. التقى «فياض» في لبنان العامل «خليل» الذي استطاع أن يكشف ما تنطوي عليه شخصية «فياض» من الاندفاع والحماسة الفارغة، وإطلاق الشعارات والكلمات البعيدة عن التنظير والتنظيم، والرومانسية المفرطة والتوهيمات الخيالية؛ «إلى الشيطان العقل والمنطق. أريدها كلمات من نار، تكوي. تحرق» لقد أدرك «خليل» أن ما يحتاج إليه «فياض» إنما هو التجربة التي تستطيع تخليصه من نواقصه وعيوبه، فنصحه بأن يدخل التجربة ليتعلم الصبر والجلد، ويتمرس بالنضال: «التجربة هي المحك، فقبل التجربة جميع الناس مناضلون وربما أبطال. جميعهم يمكن أن يقولوا ويكتبوا أشياء حسنة، ثم ماذا؟ المثابرة… وقد قبل «فياض» أن يدخل التجربة التي أوصاه بها صديقه ومعلمه «خليل»، فهجر الثقافة وعمل في ميادين العمل العضلي، كالبناء )الثلج يأتي من النافذة ص 95). – المثقف اللامنتمي: يلحظ الباحث شخصية المثقف اللامنتمي بشكل بارز في الروايات التي تدور أحداثها في فترتي الخمسينات والستينات من القرن العشرين. ويرجع السبب في ذلك إلى طبيعة المرحلة التاريخية والسياسية التي عصفت بالمجتمع العربي إبان الخمسينات والستينات، والتي تميزت بخيبة أمل كبيرة أصيب بها المثقفون الثوريون الذين رأوا أحلامهم وآمالهم تتحطم على صخرة الواقع حتى لا نصاب بما يصاب به بعض النقاد من قراءة الإبداع المحلّي بأدوات نقدية غريبة عنه. نسارع إلى القول إن ثمة فروقاً بين شخصية المثقف اللامنتمي في الفلسفة الأوروبية وآدابها، وشخصية المثقف اللامنتمي كما تظهر في الرواية العربية. إن الدافع إلى اللاانتماء بالنسبة إلى اللامنتمي الغربي هو المجتمع الصناعي الذي عمل على تشييء الإنسان، وحوله إلى مجرد آلة، فاغترب عن نفسه وعن الآخرين، وفقد الارتباط بالمجتمع، وأصبح كبطل رواية هنري باربوس «الجحيم»، لا يرى طريقاً إلى الخارج أو إلى الداخل، أما الدافع إلى اللاانتماء بالنسبة إلى المثقف العربي، كما تبدى في الرواية العربية، فهو العجز عن القيام بالدور المنوط بالمثقف، والمهمة الملقاة على عاتقه، وهي تغيير المجتمع إلى الأفضل والأجمل. فإذا كان اللاانتماء وساماً يعلقه المثقف الغربي على صدره، فاللاانتماء كما تصوره الرواية العربية هو صفة مذمومة لأنها تعكس صورة المثقف السلبي العاجز عن الفعل والفاعلية. لذلك، حاولت الشخصيات المثقفة التخلص منها، وتعاني مع اللاانتماء نوعا من التوتر الذي يتراوح بين أخذ المبادرة في الحقل السياسي وعدم إبداء الاكتراث بما يقع. تسعى الرواية السياسية إلى تصوير المثقف الواقعي في قالب سردي وفني، لا يخلو من المتعة والإثارة. ولعل أبرز تحدٍّ يواجه المثقف العربي هو القدرة على الفاعلية في الواقع، وتغيير الأمور نحو الأفضل، فليس من الحكمة في شيء الاكتفاء بفهم الأمور وتحليلها، بل الأجدى هو القدرة على الفعل والتغيير، وهذه هي الصخرة التي تمسخ المثقف، وتجعله بطلا من ورق.