بانتهاء رواية "أولاد حارتنا" للروائي المصري نجيب محفوظ، تكتمل دائرة الحكاية و أسطرتها في مهدها الأصلي شرق البحر الأبيض المتوسط. و يبدأ زمن التشظي، اختراع الديناميت، و اختراق العلم لإيديولوجيا الوعي البشري، و تحرّر الحضارة البشرية من إرثها الأبوي، باقتحام سرّ الوجود، و سرقة تفاحة آدم، و دلالتها المعرفية، و إباحتها لمن يريد من الناس عامة، الشيء الذي أعلنت عنه هذه الرواية قبل أن تنتهي. أيضاً، يبشّر نجيب محفوظ، في روايته هذه، بموت الأب، القائد، البطل، الإله، الرمز، الواحد... وهم الحداثة، و تاريخيتها المخادعة، و بطولتها الزائفة، بما يشي بمسائلة، و تلاقٍ قد يحضره داروين و ماركس و فرويد و نيتشه و فوكو... و كلّ من ساءل التاريخ، و حاول أن يحفر في خرائبه، لكي يستكشف تداعياته الراهنة، و إمكانيات تجاوزه. نعم، هي تركيبة من الأصداء الما بعد حداثوية قد يستغرب المتثاقف السلبي كيف يمكن لروايات حنا مينة أن تفترضها. غافلاً، أو متغافلاً، ربما، عن أنّ هذه الروايات، و إن لم تتفاعل مع هذه التركيبة بصراحة و مباشرة، إلا أنّها ظهرت في كنفها، ربما حذرة، خجولة، و ليّنة، في جوانب من بناها، و أنماطها الشكلية؛ لولا أنها، في المقابل، بدت، في وعيها، عنيدة، و حيوية، و قابلة للمقاومة، و النموّ، على الرغم من كلّ ما احتملته من ارتكاسات الحداثة و أمراضها. بهذا المعنى الارتكاسي قد تحتمل روايات حنا مينة كثيراً من أوهام الحداثة و أنماطها اليسارية على وجه التحديد: الواقعية الاشتراكية، الاشتراكية الرومانسية، الثورية، البطل الإيجابي، التفاؤل، النصر المحتم... إلى آخره. و هي احتمالات صاغها وعي الرغبة أكثر مما أرادها وعي الروائي الحقيقي- الذي غالباً ما أنقذ رواياته من غفلتها الإيديولوجية، و جعلها تسائل الواقع الذي كتبت فيه، و به، و من أجله، حتى اليوم. بينما تهاوت تلك الأوهام، و اضمحلت، و لا أدلّ على ذلك من اندثار الواقعية الاشتراكية، أو الرومانسية الاشتراكية، و اندثار ما أراده مناوئو حنا مينة من النقاد و الكتاب حين رغبوا بالنيل منه، سواء بحجة مناصرة رؤى اليسار، أو بحجّة معاداتها. غير أنّ ذلك كلّه لم يمنع حنا مينة من تبني رؤية واضحة لأبطاله، تنطلق أساساً من فهمه العلمي للوجود، و لكن من غير التزام نظري، أو حتى سياسي فيما يكتب. و ربما هو من العلمانيين العرب القلائل الذين فهموا، مبكراً، العلمانية باعتبارها رؤية كونية، قابلة للجدل المستمر، بين ما هو ذاتي و ما هو موضوعي، و بين ما هو تاريخي و ما هو إنساني، و بين ما هو محلّي و ما هو ذو بعد عالمي... و على هذا الأساس من الوعي الحاد، و العميق لما ينبغي قوله، قد يكون من الساذج محاولة فهم رواياته من منطلق صراع الطبقات، أو حتى من خلال الصراع الاجتماعي وحده. و إن كانت هذه الروايات زاخرة بالصراع، فهو صراع متعدّد الأوجه و الجبهات، و هو صراع يكاد لا ينكفئ ضد قوى الطبيعة المدمّرة من جهة، و ضدّ الاستعمار الفرنسي من جهة، و ضدّ أرباب العمل من اللصوص و المتجبّرين من جهة.. لكن لا هو صراع يرى في الطبقة العاملة مخلصاً وحيداً، و لا هو صراع يتجاوز الواقع، أو يخدعه بأبطال وهميين، قد لا يشي بهم هذا الواقع، و ربما لا يفترضهم. و إذا كان لا بد من تحديد طبقي لهؤلاء الأبطال، و لو على سبيل الاستئناس بالفهم الماركسي للرواية، فهم، في معظمهم، من الطبقة المعدمة، أو الفقيرة، من ذوي الأحلام الفردية التي تكاد تلامس نوازع الطبقة المتوسطة من البرجوازيين الصغار. لكن حتى هذا التحديد يكاد يضيق على اتساع دواخلهم الإنسانية، و توقهم الدائم للعدالة الفردية، و تحقيق هوى الذات باعتبارها أسّ الوجود و محمل كرامته. و ربما كانت د. نجاح العطار من أكثر النقاد وعياً بما ينبغي اكتشافه في روايات حنا مينة منذ البداية، ولا سيما في دراستها العميقة "جدلية الخوف و الجرأة" التي جاءت بمثابة تقديم لروايته "بقايا صور"، حيث أبرزت هذا المنحى الإنساني لأبطاله، أكانوا فقراء أم أغنياء، أميين أم مثقفين، رجالاً أم نساءً.. إلى آخره. هذا الوعي النقدي المبكر في فهم العمل الأدبي خارج أطر النظريات الأدبية، و محاولة الاقتراب من أدوات العلم النظري، و لكن بما يفترضه هذا العمل، لا بما يستنّه هذا العلم من قوانين، هو ما يمكن الإشادة به في قراءة الدكتورة نجاح. لولا أنّ نقاداً آخرين حاولوا إسقاط قوانين نفسية على أبطال حنا مينة، بافتعال حيناً، و بعدم فهم كافٍ للرؤية العميقة التي تكشفها رواياته في أحيان كثيرة. فأن يبلغ التوتر حدّ الكراهية بين البطل و أبيه، كما يحدث غالباً، في روايات حنا مينة الشهيرة، فقد لا يعني ذلك أنّ اضطراباً داخلياً في شخصية البطل تدفعه إلى عداء أبيه و كراهيته، كأن يكون مردّه عقدة نفسية، أوديبية أو غيرها، بقدر ما قد يدلّ على أنّ البطل يعيش في مجتمع ذكوري، أبوي. و من المعلوم أنّ روايات نجيب محفوظ، ولاسيما الثلاثية، قد عملت على كشف هذا المجتمع، و ربما من مزايا روايات حنا مينة الرائدة أنها عملت على التمرّد عليه. و إذا كان التمرّد هو السمة الغالبة على بطل حنا مينة، فربما من واقع الحال أن يكون تمرّده الأول على سلطة الأب. و ربما اطمئنانه للأم، و علاقته الإيجابية بها، هو تحالف ضمني ضد سلطة مستبدة، تنال منهما معاً. و ليس ذلك بسبب خطيئة أصلية، أو ارتكاس مرضي في تكوين الوعي البشري. لكن هذا لا يمنع أن تُفرأ كلتا الحالتين -الخطيئة و الارتكاس- في روايات أخرى لكتاب آخرين غير حنا مينة. بهذا المعنى، على الأقل، ينتفي مفهوم الطهرانية، أو العذرية، في هذه الروايات، أقصد في روايات حنا مينة. و تبعاً لذلك ربما من المستغرب أن تتردّد بعض الشتائم التي قد تحمل طابعاً جنسياً بين صفحاتها، ولاسيما حين يطلقها بعض أبطالها الذين يعاشرون عاهرات، طالما أنّ ما ينتج عن هذه المعاشرة هو حبّ، و ربما زواج. و إذا كان الشاب "فارس" بطل روايته الأولى (المصابيح الزرق)، أو شخصيتها المحورية، يفضل "رندة" جارته الفتاة العذراء على معلمته الأرملة، فإنما لسبب جنسي بحت، و ليس لعذرية رنده، و معاشرة الأرملة للرجال من قبله: "..كان يتمثل رنده و قد نضت ثيابها، و وقفت دون هذه الأستار التي تغيّب جمالاتها و تخفي ملاحتها. و كان يذكر المرأة الأخرى، فيشعر بالقرف إذا قارن بين جسمها و جسم رنده، و يقول في نفسه :"أشتهي هذه لا تلك!". لا شكّ أنّ الأسطر القليلة المقتبسة، آنفاً، من رواية (المصابيح الزرق) قد تدلل على حرارة التجربة المعيشية في روايات حنا مينة، وتنوعها، تزامناً مع سيرورة حياته، و تباينها من مرحلة إلى أخرى. و بالفعل لقد تنبّه كثير من النقاد إلى هذا التمثل المعيشي، وحيويته، في أكثر من رواية، و ربما يكون البحث في ذلك هو من تكرار القول لا أكثر. لكن ما فات هؤلاء النقاد، ربما، هو أنّ الوعي الذي تشكلّه الرواية، أو تتكون منه، هو نتاج لهذه التجربة المعاشة، و ليس وعياً نمطياً لأفكار الروائي يُسقطها الراوي على شخصيات روايته، و أبطالها. و ربما، بسبب ذلك، يمكن ملاحظة هذا التناقض الشكلي بين ما يتلفّظ به بطل حنا مينة من شتائم تنطلق من مفاهيم التحريم، و الطهرانية التي صاغها مجتمعه، بينما هو في الواقع المعاش يتجاوزها إلى أفق أرحب من الوعي المتحرّر لعلاقته بالمرأة، جنسياً، و اجتماعياً. بل الأهم من ذلك كله، هو أنّ هذا الاحتكام للتجربة المعاشة، و معرفتها، هو ما حرّر روايات حنا مينة من التمحور حول إيديولوجيا محدّدة، أو منهج عقائدي، أو فكري. و هو ما عزّز علمانيتها، و حرّرها من منطقية الرؤية اليسارية، أو ميكانيكيتها بالأحرى. و هو ما جعلها تستشرف الأفق الما بعد حداثوي للرواية العربية. في هذا المنحى ينبغي أن أؤكد، مرّة أخرى، على أنّ فهمي لما بعد الحداثة ينطلق، كاستقراء أولي- ولكن حقيقي، من وعي الحرية. وبهذا المنحى قد لا تعني لي الارتكاسات الما بعد حداثوية، أو التشظيات الشكلية، شيئاً يمكن أخذه على محمل الجدّ دائماً. و لكن ثمة أفكار أساسية تُطرح، و لا بدّ من احترامها، باعتبارها إرهاصات لتشكّل الوعي المرتجى، و دلائل على إمكانيات مستقبلية لفهم الحرية. و كلّ ذلك عبر براكسيس إنساني تزامني، و شامل، و لا يمكن دحضه إلا عبر ارتكاس معرفي مطرد، و زائف، لمفهوم القوّة. الشيء الذي سوف يعزّز حضور البراكسيس التحرري بشكل سبّاق دائماً، و لكن بتجليات غير متوقعة، طالما تنطلق من دوافع، للوعي، ذاتية. هل فكّر حنا مينة بكل ذلك؟ حسب علمي، لا. بل و من غير المفاجئ ألا تحتمل روايات حنا مينة هذه الأفكار بأبعادها المعرفية تماماً، و إلا لكانت تروي حياة مجتمع غير متحقّق. لولا أنّ الكلام كله يدور حول الإرهاصات، و ما يمكن أن تنتجه. و بالنتيجة قد لا يبدو حنا مينة على معرفة بما بعد الحداثة، أو حتى بوجودها، أو إمكانيته. و لكن ألا يكفي تمرّد أبطال رواياته على منظومات الحداثة، و إيديولوجياتها الواهمة، محفّزاً للبداية؟، و أية بداية هي أكثر جدوى من هذا الوعي العميق لرغبة الإنسان بالحرية كحاجة ذاتية، بل و طبيعية؟. و في الحقيقة، لا شيء يمكن أن يكون مدخلاً صالحاً لفهم شخصيات روايات حنا مينة، و أبطالها تحديداً، أفضل من الذاتية. و لكن بما هي حامل لوعي مغاير، و مضاد لاستبداد الجماعة، أو لرضوخ الجماعة تحت وطأة استبداد الطاغية. بما يعني تحرّر هذه الذاتية من أطر الرومانسية السلبية، و سماتها الانطوائية، الهاربة، المازوشية، أو حتى العازفة عن الحياة من أجل غاية سامية، كالحب، أو الفن... إلى آخره. وربما كذا يبدو محمد بن زهدي الطروسي بطل رواية (الشراع و العاصفة) بعد أن تحطّم مركبه، منكفئاً، غارقاً في عزلته. لكن هذا لم يمنعه من بناء مقهى على الشاطئ، أوكل شخصية أخرى بإدارته، ليبقى هو –الطروسي- قريباً من البحر، رافضاً التخلي عن كونه بحاراً. إنّ خلوة الطروسي بنفسه ما هي سوى محاولة لتدبّر شؤون الذات من أن تعاود تحقيق مرادها. بل إنّ هذه الذاتية هي ما تلحّ على الطروسي من أجل مساندة البحارة في مواجهة ظلم أبي رشيد لهم، و ما يدفع الطروسي لذلك لم يكن وهم البطولة الفردية، كما هي حال البطولة الرومانسية، بقدر ما هو احترام الذات لكينونتها. فطالما اعتاد البحار، أو الريس، على مساندة بحارته في مواجهة العواصف، و النو، و إنقاذ رفاقه من الموت في غياهب البحار، فلاشيء يمكن أن يقف عائقاً أمام نصرتهم على الشاطئ، و في الميناء، ضدّ قوى الظلم و الاستبداد: "كان الطروسي يعرف أنه يثير الغبار في وجه أبي رشيد حين ينتصر للبحارة، أو حين يفرض نفوذه الشخصي في دائرة المقهى، و كان يتوقع أن يُجابه بالتحرشات، و قد لام نفسه لأنه يتدخل، ثم وجد أنه لا يستطيع أن يسكت، إضافة إلى أنه، في بعض القضايا، يُجرّ إلى التدخل جرّاً، فليس ضميره و لا لسانه بقادرين على اصطناع اللامبالاة حيال ما يرى و يسمع..". اختبار الذات، و إعلاء شأنها، قد لا يتجلى بهذا الطابع المعاش، أو المستقى من الواقع المروي دائماً ، بقدر ما هو وعي الروائي بما ينبغي، أو بما ترغب أن تكون عليه كينونته. و ربما من هنا يمكن لمن يرغب أن يرى وعي الروائي و قد تغلغل في شخصيات رواياته، و ربما هذه ميزة مضافة لعمله، طالما أنّ حنا مينة يعي هذه المرونة في رفع مستوى الواقع، باحتمالاته الممكنة، و لاسيما حين يظهر مقدرته الفذّة على محاورة شخصياته بما يفكّر به. فاحترام شؤون الذات قد لا يقتصر على تحقيق أحلامها الشخصية، أو على الاستجابة لعيشها المباشر في فضاء معادٍ أو مسالم، و إلا أين نذهب بعزلة العلماء و المفكرين والمبدعين عموماً؟. تحاول رواية (الثلج يأتي من النافذة) أن تجيب على أكثر من ذلك، حين تجعل من الذات الحصانة الأولى و الأخيرة لاستمرار فاعليّة الوجود حتى بشكلها الاجتماعي. و لا تقتصر الإجابة على صمود الذات أمام التجربة، فهذا شيء يمكن اختباره حتى لدى المجرمين و القتلة أثناء أسرهم من قبل عصابات معادية، أو أثناء التحقيق معهم من قبل أجهزة الأمن و الشرطة. و لذلك نرى أن هذه الإجابة تتسع لكي تتضمن خيارات هذه الذات، و مردود فعلها، و ما يمكن أن تحتمله من مقاومة. و ربما هذا ما دفع فياض، بطل هذه الرواية، و الذي اضطر للهروب من سوريا إلى لبنان، تحسباً من الاعتقال و السجن، إلى أن يعاود، في بيروت، نشاطه النضالي الذي فرّ بسببه من دمشق. بل تضطره الظروف، في بيروت، إلى كسر إيقاع ذاته الإبداعية، و مهماتها التكوينية، حين يعمل، و هو الأديب، و الكاتب المشهود له بالبراعة، نادلاً حيناً، و حمّال بناء حيناً، و قاطعاً للمسامير حيناً آخر. بهذا المعنى، و على الرغم من أنّ بروز الذاتية في روايات حنا مينة هو ما مكّن الدكتورة نجاح من كتابة دراستها شبه النفسية عن الخوف و الجرأة لدى أبطال هذه الروايات، إلا أنّ هذا الروائي لا يبدو مهتماً في البحث عن الذات الإنسانية، و أمراضها، شرحاً و تحليلاً، كما عملت، و أسهبت في ذلك، روايات الكاتب الروسي الشهير فيدور دوستوفسكي مثلاً. ذلك أنّ ما هو أساسي في ذاتية أبطال روايات حنا مينة، و شخصياتها، هو تحرّرها من الأنا الجمعي: العائلة الأبوية، الحزب الثوري، النقابة.. إلى آخره. لتكون هذه الذات هي الدافع الأوحد للفعل، و لاسيما الإيجابي منه، و الحافز الوحيد على استمراره. لكن ما الذي يجعل هذه الذات دافعاً، و حافزاً، للفعل في روايات حنا مينة؟ لا تفضي الإجابة على مثل هذا السؤال إلى فهم جديد لروايات حنا مينة و حسب، و إنما تعزّز نوازعها الما بعد حداثوية، و ريادتها العربية في ذلك. و لاسيما أنّ بيتر بروكر يعتبر في مقدمة كتابه (الحداثة و ما بعدها) - ترجم الكتاب د.عبد الوهاب علوب، و راجعه د.جابر عصفور- أنّ الذاتية هي إحدى السمات الكبرى لوعي ما بعد الحداثة. لولا أنّ ما ينبغي لفت الانتباه له هو أنّ الاهتمام بهذا الكتاب، و شموليته في استقراء الحداثة، و ما بعد الحداثة، من قبلنا، قد لا يتعدى الموافقة على طرحه لبعض الأسئلة، ولبعض الفرضيات الممكنة للقراءة، بينما إجاباتنا قد تختلف طالما لا تكتفي بالاستقراء التأريخي، وحده، الذي اشتغل عليه بيتر في هذا الكتاب، و إنما تحاول الإجابة، ما أمكنها، على شيء من الحقائق المستقبلية، لما يمكن أن تتطور عليه الأفكار في فهم وعي ما بعد الحداثة. و ربما باستعراض الجدول الذي وضعه بيتر لاستقراء الفوارق بين الحداثة، و ما بعد الحداثة، يمكن التوقف مطولاً على الإرهاصات الفكرية، و الشكلية، لما بعد الحداثة في روايات حنا مينة، و ما يمكن أن تقدمه هذه الروايات من إجابات عربية لهذا الوعي: ما بعد الحداثة الحداثة فيزيقا / دادية الشكل المضاد (مفكك / مفتوح) العبث الفرصة الفوضى إرهاق / صمت تشغيل / أداء / حدث مشاركة تفكيك / هدم / تحليل غياب تفريق نص / نص داخلي بلاغة الجملة استطراد استرسال ربط الساق / السطح ضد التفسير / سوء القراءة دال مكتوب سرد روائي مضاد / قصة فرعية أسلوب شخصي رغبة متغيّر متعدّد الأشكال / مخنث انفصام الشخصية تباين / أثر الروح القدس سخرية لا حسم / ذاتية رومانسية/ رمزية الشكل (متماسك / مغلق) الهدف التصميم الفني النظام إتقان / عقلانية تحفة فنية / عمل متكامل فاصل إبداع / إجمال / تركيب توفيقي حضور تجميع الجنس الأدبي / الحدود دلالة كلمة سكون مجاز اختيار جذر / عمق تفسير / قراءة مدلول مقروء سرد روائي / قصة رئيسية قاعدة ثابتة عرَض مثال تناسلي / ذكري هوس أصل / علّة الآب ما وراء الطبيعة حسم / سمو بالعودة إلى قراءة الدكتورة نجاح العطار "جدلية الخوف و الجرأة"، و بالنظر إلى السطر الأخير من الجدول، يمكن هذا الربط المنطقي بين الخوف / اللاحسم (الحداثة)، و الجرأة / الحسم (ما بعد الحداثة)، مما يشكّل إشكالية في القراءة، طالما أنّ روايات حنا مينة المقروءة تحتمل الحداثة، و ما بعد الحداثة، في آن. و إذا كانت إمكانية هذا الاحتمال، تتجاوز هذا الطرح المنطقي إلى فهم حقيقي يتمثّل في أنّ كلّ منجز ريادي لا بدّ أنّ يجرف كثيراً من ترسبات القديم في محموله؛ فإنّ ما ينبغي استيضاحه قد يبدو أكثر جدوى حين نقرأ الحسم و اللاحسم باعتبارهما تجليات شكلية، أو إشكالية، للذات. و لا يمكن إسقاطها على كلّ ذات ما بعد حداثوية بفوارق آنية، أو متباينة بين ذات و أخرى، مثل الهدف و العبث، و النظام و الفوضى، الهوس وانفصام الشخصية... إلى آخره. بينما هذه الذاتية تفترض، بنيوياً، لتكون ما بعد حداثوية، فوارق مثل الآب و الروح القدس، المثال والمتغير، العرَض و الرغبة... إلى آخره. بهذا الفهم الما بعد حداثوي لما بعد الحداثة ذاتها، يمكن تنقية الفيزيقية من نزوعها الدادي، و ربطها أكثر بالواقعية المعاشة. و إن كان الأثر الفيزيقي يمكن أن يدخل في عبث الدادية من خلال الاستيهام البصري، و ربما السمعي بمستويات مختلفة، فلأنه احتجاج على الواقع الحقيقي، و رغبة بواقع آخر، لكن لا تبدو الدادية مؤهلّة لتهيئته. و إن كان من الممكن قراءة شيء من هذه الدادية في روايات حنا مينة من خلال عبثية المراهقة، كما هو الحال في مشاجرات فارس في رواية (المصابيح الزرق)، التي أدخلته السجن. و مشاغبات مفيد الوحش في (نهاية رجل شجاع)، التي طردته من المدرسة، و من ثمّ من منزل والده. و جريمة زكريا المرسنلي، التي ارتكبها في لحظة من لحظات جنون السكر، في رواية (الياطر)، و التي أجبرته على الهروب إلى الغابة. إلا أنها لحظات، على الرغم من عبثيتها، سوف تقرّر حوادث مصيرية بالنسبة إلى شخصياتها، بل إنّ رواية (الياطر) تنتج بمجملها عن هذه اللحظة العبثية، و إن انزاحت عنها كلية، و لم تعاود الحديث عنها إلا كقدر عبثي يدعو للأسف و الندم. و بنفس الطريقة يمكن تتبع كثير من إرهاصات ما بعد الحداثة الشكلية، في هذه الروايات ، و لاسيما أنّ انشغالها بما عاشه حنا مينة ، و رآه، و سمع به في حياته، جعلها غير معنية بالمهارة الفنية، أو اللغوية، للسرد الأدبي، و إنشائه؛ بقدر ما أولت أهمية متصاعدة لرواية الأحداث الدالة، بما هي جهد مبذول للبراكسيس الجمالي، و فاعليته في وعي الذات، و سعيها للتحرّر من كلّ ما يعيق حراك عيشها المعتاد على الأقلّ. هذا يحدث حتى في رواية (الثلج يأتي من النافذة)، التي تأخذ بطلها الكاتب و الأديب، عن تأملاته، إلى خضمّ الأحداث اليومية، و التافهة في تفاصيلها، لكن الدالّة على حراك نضالي، لا بدّ منه، من أجل تحرّر حراك اجتماعي أوسع، و أكثر فاعلية. و ربما اعتماد هذه الروايات على الأحداث المعاشة، بعلائقها الاجتماعية، طبعها بالمعالجة السطحية، أو لنقل العامة، لسيرورة الشخصيات. و لم تذهب بعيداً في سبر أغوارها، و فيما هو منزاح، و شاذّ لديها، إلا باعتباره فاعلاً في سير الحدث و صيرورته. ذلك أنّ التركيز على الذاتية في روايات حنا مينة، غالباً ما أخذ مساراً إيجابياً، و حتى طبيعياً، كونه يبرز تفوقها الجسدي- فيما هو عليه هذا الجسد، و من غير مبالغة سحرية أو أسطورية في قدراته. بينما لم ينل منه المتصعلكون، من الشحاذين، و ذوي العاهات، و اللوطيين.. سوى الاستهزاء و الشتائم. ربما بسبب كونهم كذلك، و ربما بسبب هامشيتهم في الأحداث، و سلبيتهم فيها. لكن، و بغضّ النظر عن هذه السخرية المستمرة، بأشكالها الفاضحة و المضمرة، في روايات حنا منة، نلاحظ أن هذا الروائي غالباً ما يركّز على الفعل- الحدث، بسماته الإيجابية، أو السلبية، أكثر من وسم الشخصيات بصفات نمطية، خيّرة أو شرّيرة.. إلى آخره. و ربما هذا الوعي بأهمية الفعل، كدلالة على ذاتية هذا الفاعل، و تعدّد مستويات وعيه، و تباينه من فعل إلى آخر، يبدو ثيمة أساسية، و متبلورة في رواياته، بل منذ روايته الأولى (المصابيح الزرق)، تختار شخصية فارس الانخراط في الجيش الفرنسي، و الذهاب لقتال الطليان في ليبيا كفعل سلبي، بعد سلسلة من الأفعال الإيجابية: مشاركته في انتفاضة الخبز، و دخوله السجن بسبب مواجهة الجنود الفرنسيين. وأيضاً تمرده على الأرملة، برفضه معاودة ممارسة الجنس معها، بسبب علاقته مع رنده، جارته في السكن. و كذلك نرى زكريا المرسلني في رواية (الياطر) يقوم بجريمة قتل بعد أن كان قد أنقذ الميناء من هيجان الحوت الذي عاث فيه إرهاباً و خراباً؛ و ها هو بعد فراره إلى الغابة يقوم بقتل كلب عشيقته الذي كان يحاول أن يدلّه على مكان انتظارها له. ما يمنح هذه الأحداث أهمية فارقة في مسيرة الرواية العربية ليست طوابعها الذاتية و حسب. و إنما دوافعها الفيزيقية، أو الجسدية بالأحرى. هنا يتداخل المعيشي، و الحسي، و وعي الذات بالموضوع، من خلال الجسد، و حاجاته، حتى يبدو الفعل في وهلته الأولى خارج الوعي البشري، و أقرب للصراع من أجل البقاء الذي تخوضه الحيوانات جميعاً؛ فالذي دفع فارس للتمرّد على الفرنسيين في رواية (المصابيح الزرق) ليس فكرة الحرية من الاستعمار، و إنما حاجته، أو حاجة عائلته للخبز. غير أنّ هذا الفعل سوف يأخذ بعداً آخر في علاقته مع الأرملة، أو حتى في علاقته مع رندة، فكلتا العلاقتان كانتا مدفوعتين من حاجة الجسد الطبيعية للجنس. يؤكد ذلك أنّ محبّة فارس لرندة لم تتخذ وعياً طهرانياً تسمو به عن الشهوات و الغرائز. و هي لم تمنعه من الاستجابة لجسده في ممارسة الجنس مع الأرملة في الوقت الذي كان يعيش فيه لحظات الاستجابة العاطفية لهذه المحبة. و هو لم يرفض الاستمرار في علاقته مع الأرملة إلا لقرف جسده من جسدها، و شهوته المتصاعدة لجسد رندة. بهذا المعنى تتحدّد الدوافع الذاتية للفعل من خلال الجسد، و كأنّ ثمّة محاولة، قد تكون غير مقصودة، لكنها متحقّقة في روايات حنا مينة، للإجابة على سؤال الحداثة الشعري في إمكانية هذه الوحدة بين الجسد و الروح، بما يتجاوزه، بل و يتجاوز سؤال الوعي الصوفي، حتى في هرطقاته الحسية، إلى وعي جديد يقترب من الإنسان، و حقيقة أنّه جسد واعٍ لكينونته، و لا قيمة لأحد مكونات هذه الكينونة إلاّ بوعي حريتها حتى في شهواتها بما هي حاجة طبيعية لهذا الجسد – الذات(الروح)، و ليست مستثارة من سوق الحواس، و استيهاماتها. *يشكل هذا المقال مقدمة لكتاب يتناول روايات حنا مينة قيد النشر.