قضى الفقيه بينبين مدة تناهز 31 عاما يشتغل مؤنسا للملك الحسن الثاني.. ابنه ماحي بينبين، اختار توثيق هذه التجربة المثيرة في رواية «مؤنس الملك» التي تمت ترجمتها لعدة لغات.. في هذه الحلقات نجري حوارا مع الروائي والفنان ماحي بينبين، وقصته مع والده، كما ننشر أبرز فصول الرواية. صوفيا حفيدة سيدي المفضلة، كانت أنجح مني بكثير في انتزاع ابتسامة منه، بل تفوقت علي بأشواط، وتعدت على ميدان اختصاصي. أخجل من القول إنني في عامي السبعين أشعر بالغيرة أحيانا من تلك الطفلة الشقراء المرحة واللامبالية وصاحبة النزوات التي تبث البهجة في قلب مولاي. كم مرة فاجأته وهو يتفرس في وجنتيها المتوردتين وشعرها الذهبي الطويل، وعينيها البندقية اللون اللتين تخفيهما تكشيرة الدلع الدائمة على وجهها. جوهرتي الصغيرة البيضاء، كان يتحدث عنها مشرق الوجه كحال بدوي من الصحراء أسمر البشرة وزنجي الملامح أمام جوهرة حملتها أمواج البحر من الشمال. كالمعجزة كانت بالنسبة إليه تلك الفتاة الصغيرة. وذات البشرة البيضاء كالحليب ،والتي كانت في عامها الثامن تجيد لغات غريبة بسبب مربياتها الكثيرات، لغات شبيهة بالألغاز لا أفهم منها كلمة واحدة. كنا أنا وهي نخوض معركة غير مكافئة. وكان علي أن أنهل من كنوز مخيلتي لأضاهي قدرتها على إدخال البهجة إلى قلب مولاي الذي طالما وجد لذة ماكرة في المنافسة السرية المحتدمة بيننا. بأية حال لم أكن ممن يستسلمون للفشل. لقد تآلفت وأسرار القصر بما يكفي لأعرف رموزها جيدا. طالما كانت المنافسة خبزي اليومي. محال أن أدع طفلة صغيرة تزيحني من طريقها. لم أكن أحب صوفيا، ولكن أفراد العائلة الملكية كانوا من المقدسات، في القصر كما في الخارج. كنت أبتسم كالجميع وأشدد على مدح الصفات الاستثنائية لهذه الملاك الذي أرسلته السماء إلى صاحب الجلالة، وجماله ودهائه؛ وحس الفكاهة المدهش لديه والذكاء الذي ينعم الله عز وجل على أصفيائه. منافق قد تقولون، نعم لا أختلف كثيرا عن جماعة الذباب التي تحوم حول النجوم في هذا القصر. في المقابل كانت الأمسيات لي. فحين تخلد الساحرة الصغيرة للنوم، أعود محط الاهتمام ويعود مولاي إلي وحدي ويخصني بنظرات إعجابه ويصغي إلي بكل سرور، وينتظر مني الكلمة المناسبة والرد السريع والذكي، والربط الذي لن يقو عليه إلا علامة مثل، فأروي له القصة منكهة ببعض الطرائف اللاذعة، والتطورات غير المتوقعة التي تزيدها تشويقا. كنت أطلق العنان لتخيلاتي، فأعوض ببراعة عن اللحظات التي سرقتها مني تلك الفتاة خلال النهار. حين يتحرر ذهني من مقاطعاتها أعود إلى ممارسة وظيفتي الرسمية بارتياح، فأسترسل في رواية الحوادث الخيالية، حرصا على جعلها حقيقية تماما. وحينذاك احتفل باقتران الحقيقة بالخيال، وأبحر على هواي في العالم السحري لأحلام اليقظة. نعم كنت أعود ساحرا وكائنا فريدا لا قدرة لأحد على الاستفادة منه سوى الملك نفسه.. أخرج من خبايا النسيان قصصا كانت مغمورة في رأسي وفي الغيوم السباحة في السماء، قصصا خرافية مغلقة بكلمات رقيقة؛ وصورا غير مألوفة لم تكن تنتظر إلا حلم يقظة شاعر يفتنها، ويدا مرتجفة تقطفها وتضفر منها باقة أقدمها بتواضع إلى مولاي. كما ترون أن الهدف الأسمى من وجودي العبثي في هذه الدنيا ما هو إلا إسعاد الملك. فأنا لا أعيش لغير ذلك. ولا شيء في العالم يسعدني ويرضيني أكثر من رؤية وجه مولاي مشرقا. غريب هو قدري، محمد بن محمد رجل من عامة الشعب لا يميزني من سواي سوى قدرتي على حفظ كل ما أسمعه. لقد وهبتني السماء ذاكرة قل نظيرها بين البشر قادرة حتى على تسجيل الهمس الذي يبلغ أذني. أحفظ كل شيء.. أستطيع أن أروي وبأدق التفاصيل محادثة عادية جرت منذ خمسين عاما بيني وبين شخص جمعتني به معرفة عابرة. أما الكتب التي قرأتها وقد قرأت الكثير، فبوسعي أن أسمعها كاملة حتى مع مقدمتها، بدون إغفال فاصلة واحدة منها. صدقوا أو لا، لقد منحني الله هذه القدرة المدهشة التي قد يصفها بعضهم بالموهبة، وهو وصف غير دقيق تماما؛ لأنني أحفظ كل شيء؛ الجيد منه والسيء.. وهذه النعمة الإلهية التي جعلت مني ما أنا عليه اليوم؛ أي رجل الحاشية الأول لدى الرجل الأول في المملكة. أنا أقول وبدون أي ادعاء إن مولاي يقدرني أكثر مما يقدر جموع الموسيقيين والرواة وسواهم من المتزلفين الذين تتألف منهم الحاشية. أنا المحور الأساس الذي تدور حوله الأحاديث؛ والعلامة الذي يجتذب بعلمه أذكى العقول. نعم أدين بكل شيء إلى ذاكرتي التي عرفت بغريزتي كيف أستفيد منها منذ نعومة أظافري. دراسة القرآن والحديث النبوي الشريف كانت بالنسبة إلي أمرا في غاية السهولة؛ كما أن حفظ ألف بيت من الشعر كان بالنسبة إلي بسهولة شرب ماء، ما آثار غيرة الكثيرين من رفاقي في مدرسة ابن يوسف. أما في الشعر فلا يوجد شاعر لم أحفظ ديوانه كاملا.. لقد كنت حريصا على أن أوضح لكم هذا الأمر؛ لأشرح لكم كيف أن رجلا في مثل حالتي استطاع الانضمام إلى حاشية ملك ويصبح محط أنظار الجميع وحسدهم.