منذ يوم الخميس الماضي، بات ملف الصحراء دون وسيط أممي. الرئيس الألماني السابق، هورست كوهلر، بعث رسالة استقالته من هذه المهمة بشكل مفاجئ إلى رئيسه، الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتريس. كوهلر أصبح بذلك رابع مبعوث أممي إلى الصحراء يستقيل من مهمته، بعد كل من الأمريكي جيمس بيكر الذي استقال صيف 2004، والهولندي بيتر فان والسوم الذي انسحب من هذه الوظيفة في شتنبر 2008، ثم المبعوث الأممي السابق، كريستوفر روس، الذي استقال في مارس 2017. وإذا كان البعض يصرّ على أن الرجل صادق في تبريره الاستقالة بالأسباب الصحية، وأنه يرغب في الخلود إلى الراحة والاستمتاع بوقته رفقة أسرته، وأنه غير مستعد لإضاعة الكثير من الوقت في ظل غياب مؤشرات نجاح مهمته، فإن الأنشطة الأخيرة لكوهلر توحي باستعداده لتكثيف تحركاته، ورغبته في إحياء نشاطه السياسي داخل ألمانيا. فقبل يومين من إعلان استقالته، نشر كوهلر نداء مشتركا مع السياسي الألماني البارز في الحزب الاجتماعي، بيير شتاينبوك، يدعوان فيه الألمان إلى التصويت بكثافة في انتخابات البرلمان الأوربي، ويحذران من أن أوربا الموحدة باتت في خطر، وهي الخطوة التي سبقتها تحركات أخرى. أحد التفسيرات التي قفزت إلى الواجهة بعد إعلان الاستقالة، يقول بوصول كوهلر إلى قناعة عدم إمكانية الاستمرار في الوساطة بسبب الضغوط الأمريكية. وتجد هذه الرواية تفسيراتها في التحوّل الذي وقع في مسار الملف منذ أبريل 2018، حين تحرّكت واشنطن لفرض تقليص ولاية بعثة المينورسو من سنة إلى ستة أشهر، حيث أصبحت الأطراف مطالبة بالانتقال إلى مكاتب الخارجية الأمريكيةبواشنطن، كما وقع في أكتوبر الأخير، للتفاوض حول قرارات مجلس الأمن الخاصة بالصحراء، بعد الجهود المضنية التي قام بها كوهلر لجعل مكتبه الخاص بهذه المهمة في ألمانيا، وسعيه الكبير إلى تعبئة دول المنطقة والاتحادين الأوربي والإفريقي… أي أن الرجل سعى بإصرار إلى إعادة الملف إلى محيطه الإقليمي باعتبارها خطوة ضرورية في أي حلّ دائم. التفسير الثاني ينسب «استسلام» هورست كوهلر إلى العنصر الجزائري، ليس فقط لأن الجارة الشرقية للمغرب لم تذخر جهدا للتشويش على جولات جنيف التي بذل كوهلر مجهودا كبيرا لتنظيمها قصد بناء روح جديدة واستعادة الثقة؛ بل أيضا لأن الجزائر دخلت متاهة سياسية داخلية بعد إطاحة الشارع بالرئيس عبد العزيز بوتفليقة، واندلاع حرب تصفية الحسابات داخل دائرة الحكم، وهو ما يعني أن المساهمة الجزائرية الضرورية في أي حل ينهي نزاع الصحراء، لم تعد من أولويات الجزائر. التفسير الثالث يزعم ارتباط استقالة كوهلر بالتحركات الدبلوماسية للمغرب، خاصة تلك التي جرت في شهر أبريل الماضي. هذا التفسير الذي صدر أساسا عن مصادر جزائرية، يقول إن كوهلر كان يرغب في أكثر من وضع بعثة المينورسو تحت تصرفه، وإقامة آلية جديدة لمراقبة حقوق الإنسان، وهو ما تنفيه المصادر المغربية الرسمية. هورست كوهلر وهو يلقي ورقة استقالته، لهذا السبب أو ذاك، أدخل قضية المغاربة الأولى والمصيرية في مرحلة جديدة من الغموض والشك. لكن الرجل يعيدنا أيضا بقراره هذا إلى واقعنا الوطني، كي نتأمل في نصيبنا مما آل إليه الوضع. فحل هذا النزاع لن يكون بمنطق الغالب والمغلوب، وهو ما يفسّر طول أمد المفاوضات، وتقديم المغرب مقترح الحكم الذاتي أرضية للتفاوض مع جبهة انفصالية حملت السلاح ضد الوطن. في انتظار تعيين غوتريس مبعوثا شخصيا جديدا إلى الصحراء، مع ما يتطلّبه هذا الأمر من مرحلة استكشاف جديدة، وتشكيل فريق العمل، وجسّ نبض الطرفين والدول المعنية والمنتظم الدولي… لا بأس إن نحن تساءلنا: ماذا أعددنا لإنهاء النزاع، وجعل الحل الذي نقترحه قابلا للتطبيق والنجاح؟ فالحكم الذاتي واحد من أرقى مراتب الديمقراطية واللامركزية والتعايش في ظل الاختلاف. إن كوهلر القادم من ألمانيا الفيدرالية، التي توحّدت بعد عقود من الحروب والانقسام، لم يكن ليطرح حلا خارج فكرة الديمقراطية والتوافق حول هندسة جديدة للسلطة واحترام الدستور، والذي سيتطلب أي تطبيق للحكم الذاتي تعديله. وحين ننظر إلى أنفسنا في هذه المرآة الألمانية، نجد سيلا من الأسئلة يداهمنا، من قبيل: ماذا فعلنا بدستور 2011 وبمضامين النموذج التنموي في الصحراء؟ وما نسبة تطبيق خطاب الملك في العيون في ذكرى المسيرة الخضراء عام 2015؟ هل قلّصنا الريع والفساد كما دعا إلى ذلك كل من خطاب الملك والنموذج التنموي الجديد؟ هل وفّرنا بيئة سياسية واقتصادية مقننة وشفافة وقادرة على استقبال سكان مخيمات تندوف وإدماجهم؟ ثم، كيف نعجز عن إفراغ الإرادة الشعبية المعبر عنها في الانتخابات في مؤسسات حكومية وبرلمانية حقيقية وفعالة، ونحن نعرض حلا يقوم على إقامة حكومة وبرلمان محليين؟ كيف تحوّلت الجهوية، التي يفترض أن تمهد للحكم الذاتي، إلى تفكيك لسلطات الحكومة لفائدة ولاة غير منتخبين؟ وهل سنستطيع الذهاب إلى بناء مشترك جديد مع من فرقّتنا عنهم نيران الحرب ودسائس الجيران، فيما يضيق صدرنا باحتجاجات الشباب العاطل وانتقادات الصحافيين؟ تلك هي المرآة التي خلّفها لنا هورست كوهلر بعد استقالته من منصبه الأممي، والأفضل أن ننظر إلى وجهنا بشجاعة، ونتجنب كسر المرآة، فقديما قالت الأسطورة: إن كسر المرآة نذير شؤم.